عبد الرؤوف شمعون: تقْميط العالم بالتهتّك والجمال
غسان مفاضلة
تشكيل
عبد الرؤوف شمعون
شارك هذا المقال
حجم الخط
أن تكون مقذوفًا في العالم يعني أن تكون منذورًا لعجينة الاغتراب وهي تتشكّل وجوهًا وأجسادًا مقمّطةً بأسباب التهتّك والهلاك. ولئن كانت هذه واحدةٌ من وجوه عجينة "الاغتراب" التي طافت منذ نحو خمسة عقود، على وجوه ومرئيات لوحة عبد الرؤوف شمعون (1945 ـ 2024) الذي غيّبه الموت مؤخرًا في عمّان؛ إلا إن الوجه الحقيقي الذي خمّر تلك العجينة وأوغل في تشكيلها هو الوجه الذي تعرّف إليه مبكرًا إبّان النكبة الفلسطينية وهو لما يزال طفلًا في الثالثة من عمره، ليحفر بعيدًا في أعماق صاحب "هندسة الخراب"، ويظلّل دروبه حتى منتهاها الأخير.
صار وجه شمعون لاحقًا، كلما تقدّم في العمر، وجه الطفل الذي وجده قبل نحو سبعة عقودٍ، مقذوفًا بين الصور والخيالات التي لازمت اجتثاثهُ من مسقط رأسه في غزة، حتى آخر أيام حياته الممهورة بالأمل، والمجروحة بالوعد والخذلان.
الوجه والقناع
صار وجهه "قناعًا غادره واستوطن لوحاته" وفق زياد بركات الذي لم يجد خلف قناع الوجوه في لوحاته "سوى وجه عبد الرؤوف شمعون نفسه، الحزين، المتأمل، والمتمهل". غادر وجه الطفل مكانه من على أطراف النسيان إلى مكانه الجديد على سطح اللوحة التي صارت قِناعهُ ومسْكنهُ البديل؛ البديل عن المؤقت والطارئ نشدانًا للدائم والمقيم فيها. ولكن عن أي دائمِ كان يبحث الفتى المقذوف في العالم؟!.. هل كان في نسيج لوحته المُتخيّلة، أم في نسيج واقع الشتات وضراوته؟! هل كان في مخيم الفوار (الخليل) الذي أقام فيه بعد النكبة، أم في مخيم الوحدات محطته التالية في عمّان، أم في السعودية التي اضطرته الظروف للعمل فيها بعد تخرجه من الجامعة الأردنية أواخر ستينيات القرن الفائت، مفوّتًا على نفسه دراسة الفنون في روما؟! بالتأكيد، الدائم الوحيد ظل دائمًا هناك "في فلسطين، وتحديدًا في غزّة التي كانت تنأى كلما تقدم الفتى في العمر، وتخمّر في التجارب".
"أحدّق في مرئيات العالم لكي تراني"، ربما تشكّل هذه العبارة بِمسْحتها الوجوديّة و"الظواهريّة"، والتي ظلّ يجترحها شمعون بكيفيّاتٍ وصياغاتٍ عديدةٍ من دون أن تبارح مقصدها، مدخلًا جوهريًا إلى رؤيته الفنيّة، ومفتاحًا لمعاينة تبصّراته في أحوال المرئي وتحوّلاته التي لم تستسلم إلى إغراءات التشبية والتمثيل، ولم تُراهِن على استدعاء الصور والخيالات المطبوعة سَلفًا في خزين ذاكرةٍ تُشاغل وطأة التوجّس بالنسيان؛ التوجّس من أن تكون لامرئيًا، ومقذوفًا خارج الزمان والمكان.
كان عليه ابتداء، أن يواصل ابتكار ملاذ وجهه البديل من على سطح التصوير. فكان نسيج "التجريد" ملاذه الأثير الذي أفضى إلى تخفّفه من مكابدة المقاربات السرديّة/ الانطباعيّة والتعبيريّة، باتجاه المساحة الأرحب لمعاينة علاقة الإنسان مع المكان، خاصةً تلك العلاقة التي وجد نفسه فيها لاجئًا وطارئًا، وربما هامشيًّا، ليس في المكان وحده، وإنما في العالم المجافي الذي ظلّ يُحدّق في وجهه وهو يتمْتم في سرّه: هل يعرفني؟!
"هندسة الخراب"
من المطرح ذاته، بدأت الأمكنة بظواهرها وشواهدها، تحفر في العمق علاماتها على سطح لوحته الذي صار ملاذه من النكران والنسيان. ومن على السطح نفسه، راح يُهندس معمار مشهدياته من تهتّك الصور والخيالات التي ارتسمت في الذاكرة القصيّة للطفل الذي كانه مع رحلة الخروج الأول من فلسطين "الأهل تحت شيء يشبه الخيمة، وبعض أصوات آدميّة تهتف على إيقاع طبلٍ، تبشّر بالهلاك، وتعلن موعد قيام القيامة"، يقول الفنان في إحدى شهاداته.
ومع تواصل انثيال أسئلة الذات والعالم، وبعد ربع قرنٍ من تراكم مغالباته "التعبيريّة والوجوديّة"، كان شمعون على موعدٍ مع "هندسة الخراب" التي اشتقّها عنوانًا وبنيانًا لمعرضه في "دارة الفنون" بعمّان أواسط تسعينيات القرن الفائت. لم تكن تلك "الهندسة" بمنأى عن مراحله الأولى بداية سبعينيّات القرن ذاته، حين كان ينحى باتجاه احتواء المرئي، لا ليجعله مجرد استعارة شكليّة، وإنما ليقيم معه بوصفه محفّزًا بصريًّا راشحًا من نسيج التجربة التي شكّلت روافعه التعبيريّة الجماليّة.
من هناك، من سيولة الانطباعيّة وعنفوان التعبيريّة الرمزيّة، وصولًا الى تجريدات "هندسة الخراب" وما تلاها، واصل شمعون الحاصل على جائزة الدولة في الفنون عام 1990، والجائزة التقديرية لبينالي الشارقة في دورته الأولى عام 1992، سلسلة تحوّلاته التي تقاطعت مقارباتها المتأنّية والثريّة، في ترسيم معمار آخر تحت مظلة "الوحدة والتنوّع" والتي اتخذها عنوانًا ومفتاحًا لمقارباته وانشغالاته الأخيرة.
"الوحدة والتنوّع"
لم يكن التنوّع في إطار لوحته مجرد كشفٍ عن وحدة الإيقاع الناظم لمؤثثاتها وعلاقاتها فقط، بل شكّل أيضًا مساحته المفتوحة على فاعليّة تلك العلاقات وتحوّلاتها داخل نظام اللوحة نفسها. لم يعد شمعون يرسم "الأشياء"، راح يرسم العلاقات بين "الأشياء". صار رسّام عُلاقاتٍ، ليس بين عناصر اللوحة وحدها، وإنما بين أساليب وطرائق تعبير متنوّعة تلتطم على سطح اللوحة ذاتها. وهو ما أتاح له تاليًا، الإنصات إلى "القاسم المشترك" بين أعماله ومراحله على مدار خمسة عقود، بدءًا من معرضه الأول عام 1972 في الجامعة الأردنيّة، وحتى آخر أعماله بنزعتيها التعبيريّة والتجريديّة.
"صار وجه شمعون لاحقًا، كلما تقدّم في العمر، وجه الطفل الذي وجده قبل نحو سبعة عقودٍ، مقذوفًا بين الصور والخيالات التي لازمت اجتثاثهُ من مسقط رأسه في غزة" |
توّصل شمعون في هذه التجربة إلى بصمته الخاصة التي صبغت بنيان عمله الفني على إيقاع "الوحدة والتنوّع"، والتي أفضت، بناءً على مخرجاتها، إلى أن التغيّر في شكل العلاقات بين عناصر العمل الفني، لا يستدعي بالضرورة تغيّر نظام العمل، بل غالبًا ما يُفضي إلى إعادة تشكيل مكونات النظام نفسه، وفق السياق الذي تلتحم فيه الرؤية مع أفق التعبير.
من تلك المسافة التي دَرَج على تذويبها بين الرؤية والتقنيّة والتعبير، بدأت رحلته مع مخلفات الأمكنة وترسباتها في أقاصي الذاكرة، لا ليقف على أطلالها، بل ليمنحها ذلك النسْغ الذي يمدّها بأسباب التعرّف على بصمته في الوجود؛ "أحدّق في الأشياء لكي تعرفني". سوف يؤول تحديقه في مرئيات العالم، وعبر سلسلة انزياحات من على سطح التصوير، إلى مكوناتٍ بصريّةٍ مُتخيلة، لها من الألفة والانسياب، بقدر ما لها من المكابدة والاغتراب. إنها إنزياحاته المغموسة في مشهديات المكان وهي تتشكّل بالتفسّخ والتآكل على سطح "هندسة الخراب".
الأثر وترسبات المكان
ظلّ المكان بالنسبة له يمثّل صورة ًجوهريةً للإنسان. إنه هويّته ومرآته التي يتمرأى من على سطحها، تمثّلاته وتحوّلاته. والمكان على ضوء ذلك، لا يغدو بالنسبة له، سوى حيز مُصْمت ومُفْرغ من القيمة، ما لم يكن للإنسان فيه بصمة حقيقيّة لا تزول. كانت لوحته هي بصمته التي أضفاها على مرئيات المكان. ربما كان ذلك بحثًا عما وراء الظاهرة المرئية، أو بحثًا عن ذاته المتوارية في مرئيات العالم. وفي الحالين، ظلّت لوحته تحمل بتلك البصمة في تشاكلها الجمالي والتعبيري مع المكان. وظلّت على التوازي، مفتوحةً على طيفٍ واسع من التأويلات الممكنة، حتى وإن كانت تقيم وراء حجابٍ، أو قناع. فهنالك ما هو جليٌّ وكاشفٌ بما يشيعهُ من أثرٍ، وبما يبثّهُ من إشاراتٍ وإيماءاتٍ؛ جلاءٌ تكتسي به مشهدياته، يحجبها، ويخترقها بصمتٍ رصين.
احتلّ الأثر صدارة مرجعياته في الطبيعة وواقعه المحيط، ليستحيل في لوحته إلى طاقةٍ مُحركةٍ للمدركات الحسيّة والتخيليّة. ورغم ما يحيط بمفهوم الأثر من إبهام والتباس (سواء أشار إلى ما يمكث في المكان، أم دلّ على حركة الصيرورة الإبداعية عند نشأتها) فإنه ظلّ في لوحته يحوّم حول تلك التخوم التي يتقاطع فيها الغياب مع الحضور، ويمتزج في متونها الواقع مع الحلم والمخيال. ومن بين ترسبات الأثر نفسه، ظل شمعون يبحث عن صورته تحت عينيه وهي معلّقةٌ بزمنٍ يمضي مجافيًا للتوقعات، ويظلّلها بعمقٍ داكنٍ غير السواد. هل كان يعطي أفضليّة للحلم والغموض؟! ربما حدث ذلك؟! ولكن كيف كان بإمكانه أن يملأ بالغموض الموحي عصر المكائد واشتباك القيم والمعايير على سطح التصوير؟ ومتى؟ وأين؟ في بُقعهِ المكشوفة للنهايات، أم في فضائه المفرط بالأحلام؟! الفضاء نفسه الذي شهد "مصادرة الأسطورة أولًا، ثم الهتك الاخير للرومانسية تاليا".
المكان على أطراف المخيم، والمقاطع المتسلسلة من عشوائياته وتراكيب بيوته البسيطة التي أُقيمت على عجلٍ بانتظار الرجوع الموعود؛ كلّها ظهرت على سطح لوحته، واكْتست ملمحها وهويتها بعد مخاتلة وعد الرجوع: "في بداية طفولتي وجدت نفسي في المخيم، والمخيم غير منفتح، إنّه أشبه بعلبٍ مُغلقةٍ. كنّا نسكن بيتًا ينفتح على شارع، ينفتح بدوره على سوقٍ شعبي يضجّ بالحركة، بائعو خضار، نساء ينقلن الماء وأطفال في الأزقة. وكنت باستمرار أفتح الباب وأسرق المشهد".
"طريق الموت"
بعدما تمرّس في اختطاف المشهد، ونَهْب كل ما يسقط في مرمى عينيه، أمضى سنواتٍ يتتبع "أثر" المشهد، يحفر في تربة الأرض تحت إغراء تراكيب الصدأ الذي قاده إلى البحث عن بقايا بيوت مهجورةٍ ومنسيّةٍ في أقاصي المدينة. اكتشف أثر الزمن وفعله في الإنسان والمكان عَبْر تراكم طبقات الصدأ وتحولاتها على شرائح الحديد؛ "بقيت عدة سنوات وأنا أدرس لونيًا هذه السطوح، من دون أن أعرف إلى أين ستقودني، حتى وصلت الى مشهد لا يمكن أن أنساه. هذا المشهد فجّر عندي الأسلوب الذي قادني إلى "هندسة الخراب"؛ على طريق الموت، طريق سحاب (15 كم جنوب شرقي عمّان) توقفت أمام مكان هامشي ومهجور، سطوح متآكلة ومهترئة كانت في يومٍ ما، تنبض بالحياة. فجأةً، وجدت شخصيتي وروحي معلقة في هذا المكان".
من ذلك المكان الهامشي والمهجور، بدأت دوائر السؤال تتسع كلما أوغل في معاينة الأثر وتحولاته: "هل أنت هامشيٌّ ومنسيٌّ؟!"... ولأنه كان يبحث عن تلك البصمة التي من شأنها أن تخفّف من وطأة أن يكون طارئًا وهامشيًّا، ويكون بمقدورها في الوقت نفسه أن تُحيل التهتك والنسيان إلى روافعٍ وجوديّة وجماليّة؛ كان عليه أن يقيم في لوحته، وأن يبحث عن ذاته في إزاحته التعبيريّة/ المكانيّة الجديدة التي خلّفها ذلك المكان المنسيّ والمهجور: "كنت أعطي لنفسي مبررًا، فأقول: هناك شيء من هذا القبيل، ففي الشعر العربي هناك الأطلال، الخرابات، حتى المقابر والأماكن التي تسمى المزارات، أو المقامات. لماذا يذهب اليها الناس ويستمدون منها شيئًا من الرومانسيات؟!، هم يبحثون عن ذواتهم في المكان".
قبل مشهد "طريق الموت" كان عبد الرؤوف شمعون يُكابد في تحقيق المواءمة بين فكرة العمل وبين تعبيريّة الشكل، وكان يحاول الخروج من مُعتركه الناعم بين انطباعية أسلوبية قابلة للتجديد، وبين النظريات الجماليّة في الفن. ليعترف بعد ذلك، وبعد أن أفرزت التجارب العمليّة والتقنيّة بعض ملامحه الشخصية والتعبيريّة، بخديعة النظريات التي أوصلته إلى "هندسة الخراب"؛ مساحتهُ المشرعة على تقميط العالم بأسباب التهتّك والجمال.