بيبيلوتي ريست: تقاطع الحواس والتقنيات
الدوحة ـ محمد هديب
تشكيل
(بيبيلوتي ريست)
شارك هذا المقال
حجم الخط
في خطواتها المرحة الواسعة، تمشي المرأة على رصيف، مزهوة بفستان تركواز، خفيفة كأنها تمشي على غيمة. غير أننا سنواصل هذا المشهد حتى ونحن نراها تقبض باليدين مرزبّة ملونة ترفعها في الهواء بالتصوير البطيء، وتهوي بها على نوافذ السيارات الواقفة، تحطم زجاجَها وهي تبتسم.
وما يقع أمامنا في مقطع الفيديو ليس مشهدًا لامرأة مختلة في فيلم درامي، بل هو عمل فني تركيبي مبكر للفنانة السويسرية بيبيلوتي ريست عام 1997 بعنوان "الأبدية فوق الكل/ Ever is Over All"، سيصبح جزءًا من رحلة متعددة الحواس نالت عنها جائزة أفضل عمل فني للفنان الشاب في بينالي البندقية عام 1997، (كان عمرها وقتذاك 36 عامًا).
بعد 27 عامًا، سيكون العمل مجددًا ضمن حوارية تخوض في غمار الطبيعة والجندر والتكنولوجيا، وتجارب التأمل الجماعي التي تشبه الخيال في معرض "دفقة سكون"، الذي افتتحته متاحف قطر في غاليري الكاراج في مطافئ: مقر الفنانين على مساحة عرض تبلغ أكثر من 650 مترًا مربعًا، والمستمر حتى الأول من يونيو/ حزيران.
والمرأة ذاتها بعد كل هذه السنوات ما زالت تمشي على رصيفها، ونحن في اللعبة والتأمل. فالحقيقة أنها لا تحمل مرزبة بيديها، بل زهرة الكينوفوفيا ذات الساق الطويلة المتوجة بزهرة، شبيهة بالعيصلان في بلادنا.
ولا تبدو الساق المتوّجة بالزهرة النارية مرصودة لحبيب، أو صديق، الزهرة الأليفة أداة تحطيم. ولقد تحولت من ساق نباتي تُمسك بإصبعين إلى عصا تُمسك باليدين وتَحوّل تاجها إلى كتلة معدنية ترتفع في الهواء وتخبط زجاج السيارة فيسمع صوتُه وهو يهوي مفتتًا، والمرأة تفعل هذا منتشية، بينما يعبر الناس بجوارها من دون أن يروا في ما يجري نشازًا، حتى إن امرأة شرطية لا تفعل ما نتوقعه من موظفة رسمية، إنما تزجي تحية إعجاب لفعل التحطيم مع ابتسامة.
هذا ما يشكل مدخلًا لعالم التأمل الداخلي، حيث يفتتح هذا الفيديو المستعاد جولة تنويم مغناطيسي بين الجدران التي تسيل فيها الألوان الرقمية، والأشياء المعلقة مما نهمله عادة في بيوتنا، حتى سرير الطفل وهو يتحول إلى صندوق سحري يربط جسد الإنسان ومقتنياته الصغيرة، بعالم مجرّي لا نهائي.
"طوّرت الفنانة معرض "دفقة سكون" ليكون مشهدًا رقميًا شاملًا يضع قطعًا جديدة من الفن التشاركي في حوارٍ مع بعض أعمالها الأكثر شهرة" |
طوّرت الفنانة معرض "دفقة سكون" ليكون مشهدًا رقميًا شاملًا يضع قطعًا جديدة من الفن التشاركي في حوارٍ مع بعض أعمالها الأكثر شهرة، بدءًا من أعمالها المبكرة بأسلوب الموسيقى والفيديو، وحتى بيئات العرض الغامرة اللاحقة، فإن مفردات ريست الفنية متجذرة في الثقافة الشعبية والتكنولوجيا وفن الفيديو النسوي التاريخي.
إضافة إلى هذا الفيديو المبكر، جمعت ريست عددًا من الأعمال الفنية السابقة والحديثة، فإضافة إلى عمل "الأبدية فوق الكل"، هنالك أيضًا عمل بعنوان "القلق زائل/ Worry Will Vanish" (2014)، الذي يعد أحد أعمال ريست البانورامية الرقمية الواسعة. وهو يعرض على جدارين، ويمثل رحلة داخل جسم الإنسان، استنادًا إلى رسوم متحركة ثلاثية الأبعاد.
يطوق المعرض لوحات جدارية وستائر نسيجية بألوان متعددة، وتتخلله سلسلة من "الجزر المتدفقة"، كما تسميها الفنانة، وهي شاشات تفاعلية تستخدم فيها إسقاطات الفيديو وقطع الأثاث والسجاد والأشياء المنزلية لتنتج لوحات ضخمة عن الطبيعة الصامتة تدعو جمهورها بأن يتفاعل معها.
هذا ما تنفتح عليه الجدران. أما المساحات الأرضية فهي بالنسبة للفنانة "غرف المعيشة"، أي تلك المساحات الحية التي يمكننا العيش فيها يوميًا كعائلة داخل البيت. وتتقاطع هنا الحواس البشرية والتقنيات الرقمية عبر لعبة الأضواء التي تغرق فيها الأشياء المعهودة لنا، والتي تتعرض غالبًا لضوء النهار، أو الكهرباء، إلا أنها هنا تبدو "دفقة" سكونية، لا تعود فيها الكنبات والأسرّة أشياء معرفة كما نقتنيها لأسباب نفعية، إنما تفتح نوافذ على ما يجوب الخيال، ويصير السؤال: أين يلتقي ما هو حيوي مع ما هو إلكتروني في جسم كهربائي جديد؟
ويجسد معرض "دفقة سكون" ثاني أكبر الأعمال التي تنتجها ريست في الدوحة بعد عملها التركيبي الأول "عقلي كما تراه، وعقلك كما أراه" (2022). والذي ستظل أبوابه مفتوحة للجمهور في متحف قطر الوطني خلال فترة تقديم هذا المعرض.
من بعض أبرز أعمال الفنانة إلى جانب قطع تفاعلية جديدة أنشئت خصيصًا لهذا المعرض الذي يشرف على تنظيمه القيِّم الفني ماسيميليانو جيوني، تُزين مطبوعات جدارية من النسيج وستائر متعددة الألوان محيط فضاء العرض الذي يتخذ شكل سلسلة من "محطات كهربائية"، تصفها الفنانة بأنها عروض تفاعلية، حيث تولّد عروض الفيديو بتقنية الإسقاط الضوئي، وقطع الأثاث، والسجاد، والأغراض المنزلية معًا فضاءً رحبًا لِـ"الحياة الساكنة".
وقالت بيبيلوتي ريست في بيان لمتاحف قطر "حينما أُبدع عملًا فنيًا، فإنني أقدم تقديرًا، تقديسًا لجمال العيش وبشاعته. فتكريمًا لكل حواسنا وللعقل، منحتني الطبيعة يديَّ: والآن أعيدهما إليها. إنني أرى جميع المنتجات الفنية، من خزف، ولوحات فنية إلى تطريز، وأفلام وموسيقى، بمثابة شهادات تقدير".
نظمت ريست، منذ عام 1984، عددًا كبيرًا من المعارض الفردية والجماعية، وعروض الفيديو في جميع أنحاء العالم. وتشمل معارضها الفردية الأخيرة معرض "قشعريرة خدِرة وأفق طنان" في صالتي العرض هاوزر ويرث، ولورينغ أوغستين تشيلسي، نيويورك (2023)، وعملها الفني التركيبي المعد خصيصًا للموقع "ثق بي/ Hand Me Your Trust"، والمعروض على واجهة مبنىM+، هونغ كونغ (2023)، و"خلف جفنك" في معرض تاي كوون المعاصر، هونغ كونغ (2022)، و"يا صاحب القلب الكبير، كُن جاري" في صالة العرض غيفن المعاصر بمتحف الفن المعاصر، لوس أنجليس (2021 ـ 2022).