عن نكران الشكل الإنساني في الفن المعاصر
شارل وينتينك
تشكيل
اللوحة 1: المتصارعان/ فان كوخ، 1888
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة مع توسع: منذر مصري
للفن التشكيلي المعاصر، منذ أوّل ظهوراته، ما بعد منتصف القرن التاسع عشر، حيث من الصعب تحديد عام بالذات، علاقة شديدة التعقيد مع الشكل الإنساني، وصولًا إلى المدرسة التعبيرية، بداية القرن العشرين، وهذه المرة بتحديد زمني: (1912)، التي افترض فنانوها أن المظهر الخارجي للإنسان هو الوسيلة التي تفوق كلّ شيء أهمية في التعبير عن دوافعه الداخلية، في الوقت الذي أوغل فيه فنانو المدرسة السوريالية (1920) بدورهم ليظهروا المشاعر الباطنية المخبأة في اللاوعي. أمّا بالنسبة للفريق الآخر في التشكيل المعاصر، الطرف الذي تحوم حوله الشبهات الأيديولوجية، بابلو بيكاسو (1981 ـ 1973) على سبيل المثال، فهو أيضًا يرى أن تمثيل الجسد الإنساني يمكن أن يكون وسيلة لطرد العنصر الرديء، الشرير في الإنسان المعاصر، والذي، وفقًا للروائي الفرنسي أندريه مالرو (1901 ـ 1976)، صاحب رواية "المصير البشري" (1933) يعمل على تدميره.
وعلى غير ما يشاع، كان لكل من الفنان الهولندي فينسنت فان كوخ (1853 ـ 1890) الذي يعدّ عمومًا فنانًا شعبيًّا، يغرم به عامة الناس ويفضلونه على سواه من أساطين الفن التشكيلي، وذلك بسبب انحيازهم للعاطفة في مواجهة الأسلوب، علمًا بأن لكوخ أسلوبًا مميّزًا يعرفه الداني والقاصي، يمكن اعتباره نتاج الانفعال الفائض (لوحة 1)! والفنان الألماني إدوارد مونش (1863 ـ 1944) رسام الليل والعزلة والموت، صاحب لوحة "الصرخة" الشهيرة، التأثير الأعظم على جيل الفنانين الشباب في بداية القرن العشرين. فمساهمة مونش في رسم الشكل الإنساني كانت متميزة على نحو لافت، عندما حوّل الطبيعة ـ عالم المرئيات إلى عالم من الرموز. فبدل أن يرسم فتاة شابة عارية (لوحة 2)، قام بتحويل النموذج الجالس أمامه إلى حالة، إلى موضوع، (البلوغ). بكل ما يحمله من أحاسيس غريزية وصراعات نفسية، وذلك لأن النفس، الذات، في عُرفه تمضي إلى ما خلف الرؤية الظاهرية. وهكذا، من بين كل فناني ما يسمّى المدرسة "الجرمانية"، قدم هذان الفنانان الاستثنائيان، مونش وكوخ، الإسهام الأكبر في حقل التعبيرية، فقد انصبّ عملهما على تحويل العالم الغريزي والنفسي الداخلي إلى أشكال مرئية خارجية؛ ما دفع التعبيريين لرسم انطباعاتهم الأولى على نحو مباشر صادم ما أمكنهم وبأساليب وتقنيات خشنة بدائية. واستجابة لنزعتهم في إظهار كل شيء، لم يقوموا بأي محاولة لستر الشهوات الغريزية، تحت أي حجاب، ولو الشفاف منه. إرنست لودفيغ كريشنر (1880 ـ 1938) صور الرجل والمرأة يمارسان العملية الجنسية صراحة. كما صور نساء شديدات التبرج يلتقين برفاقهن الشهوانيين في زوايا الشارع، ويرقصن معهم بفسوق في المقاهي الليلية (لوحة 3)، فتيات عاريات يستحممن في مرسمه، مع صور لبحيرات (موريتزبرغ) وشاطئ جزيرة البلطيق (فيهمارن) كخلفيات فنية! وشابات وشبان عراة بأجسام قرمزية. الشهوانية الحية في لوحات أوسكار كوكوشكا (1886 ـ 1980) وماكس بيكمان (1884 ـ 1950) ووليم دي كونينغ (1904 ـ 1997) (لوحة 4) تنجح في إثارة ردود أفعال صادمة.
بينما قام معاصروهم الفرنسيون (الوحشيون) برسم أوان جميلة وهادئة على هيئة نساء، ولكن من دون كثير تطور عمّا رسم سابقًا! نساء المجتمع للفنان الفرنسي الهولندي كيس فان دونغان (1877 ـ 1968) لا أكثر من صور أخّاذة لمجتمع منحطّ، ومع ذلك تظل النساء اللاتي رسمهن قبل 1914 دليلًا على الفرح الوحشي الذي كان يشعر به خلال رسمه لها. وبابلو بيكاسو (1881 ـ 1973) الذي أظهر الجسم الإنساني في تنوعات كثيرة ومختلفة. رسم في مرحلتيه الزرقاء والزهرية الباكرتين أناسًا حزانى ومنكوبين، كتنويعات على مشاهد هنري دي تولوز لوتريك (1864 ـ 1901)، مبالغًا في التعبير العاطفي مبسطًا طريقة الرسم، وفي عام 1906 رسم لوحة "فتاتان عاريتان" الثورية، هاربًا من التقاليد وهاجرًا القوالب الجاهزة،
"من بين كل فناني ما يسمّى المدرسة "الجرمانية"، قدم هذان الفنانان الاستثنائيان، مونش وكوخ، الإسهام الأكبر في حقل التعبيرية" |
وبأسلوب يحمل أصداء الفن الزنجي. وفي لوحته " مهرج مع جيتار" 1918 يؤدي الأداء العميق للسطوح إلى صعوبة تمييز ملامح الوجه المقنع، الحيوانان ذوي القرون، قطع الثياب، وأجزاء الجيتار. ولكن في لوحة "بييرو (المهرج الحزين) جالسًا" 1923 الجمال الأرضي يستعاد مرة أخرى: اليدان المطويتان، الخطوط المنحنية للساعدين والكرسي، ووضعية الرأس، تمتلك النظام المعتدل للفن الكلاسيكي! الاختيار المتناغم للألوان، الخطوط، السطح والتنويعات، جميعها عناصر كلاسيكية. ومرة أخرى هناك تنويعات في لوحته "امرأة منحنية" التي رسمها عام 1939: المخلوق الإنساني ـ اللا إنساني مفكك وغير متشكل! التعبير الوحشي والألوان المتناقضة على نحو عنيف، كانا بقسوة تحطيم النماذج! هناك، في هذه الصور، ظهر مفهوم ناجح للفراغ، مختلف تمامًا عنه في عصر التنوير بمنظورات هندسية يظهر فيها الانسان كنوع هجين من الحيوانات، مماثل للمينوتور، خليط الانسان والثور.
وكأنه يضع كل طاقته الإبداعية في خدمة التدمير، الأمر الذي يعدّ بمثابة مذبحة لمصيرنا الروحاني! في الواقع، خلال القرن العشرين، أعلن كثير من الفنانين أنّ أيّ تدخّل بشري في الفن غير مقبول! وراحت التعبيرية، التكعيبية، ومدارس فنية أخرى عديدة، تسعى جاهدة للهروب من تصوير الإنسان والأشياء. حيث يشيح الفنان بنظره عن العالم الخارجي، ويتّجه به إلى الصور الذاتية داخل عقله.
سأل الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيجا إي جاسيت (1883 ـ 1955) مؤلف الكتاب: "تمرد الجماهير" (1933) الذائع الصيت، ذات مرة: "لماذا يخاف الفنان المعاصر من قسمات الجسم الإنساني؟ لماذا يستبدلها بخطوط هندسية؟" يذكرنا جاسيت بأن الفترات الدورية لشيوع النحت والرسم الهندسي ليست معروفة في تاريخ الفن، مفسرًا تحطيم الأيقونات بكونه ظاهرة دينية تظهر في الزمن الذي يسيطر فيه اليأس على الجنس البشري (اللوحتان 6-7). إضافة إلى حقيقة أن الإنسان غالبًا ما يدير ظهره بصورة عفوية للفرضيات القائمة متبنيًا في المقابل أسلوبًا يحرره من أسر كل التقاليد (اللوحة 8).
"ما يطلق عليه نزع الصفة الإنسانية عن الفن المعاصر، وعدم القبول الجسم الحي، يأتي من رفض تفسير الواقع بالأسلوب التقليدي" |
أما إذا رغبنا بفهم الفن المعاصر، فعلينا أخذ هذا السلوك السالب، الاستفزازي، في الاعتبار. الفن، حاليًّا، يحط على نكران ما كان سابقًا، ومن السهل فهم أنه يجب عليه ذلك! فبعد كثير من القرون من التطور المتتابع، غير المتأثر بأفظع الكوارث التاريخية، يصير وزن التقاليد أثقل مما يحتمل أي فنان واعد. هكذا كان الوضع في مصر القديمة، وفي الإمبراطورية البيزنطية والشرق أيضًا، ولكن العصر الحديث يتطلّب تحرير التعبير من القبضة الخانقة للفن القديم.
إن ما يطلق عليه نزع الصفة الإنسانية عن الفن المعاصر، وعدم القبول الجسم الحي، يأتي من رفض تفسير الواقع بالأسلوب التقليدي. ولكن حتى عندما يصل التمثل اللا شكلي إلى ذروة التلاشي التام للشكل الإنساني من الرسم والنحت، كان ما يزال هنالك فنانون في النصف الأول من القرن العشرين يجدون في الجنس البشري وحيهم الرئيسي. فنان واحد، هو آميدو مودلياني (1884 ـ 1929)، قام بتمجيد الشكل الإنساني، برسمه الوجوه والعاريات حصريًّا، مظهرًا شاعرية المرئي. لوحات الصور الشخصية لصديقاته الجميلات، بأعناقهن الطويلة المائلة، وأكتافهن المنحنية الحزينة، من بين أفضل أعماله قاطبة! أمّا البيلاروسي - الفرنسي مارك شاغال (1887 ـ 1985) فقد حاول الاحتفاظ بالجنس البشري في لوحاته، بإضفاء ملموسية للمواضيع التي ألهمته، متأصلة من روحانيته الشرقية ودينه اليهودي. وكذلك الفرنسي بيير بونارد (1867 ـ 1947) المغامر بعمق فيفكرة التحول، الذي في الواقع لم يهرب أبدًا من الأرض وبقي قريبًا منّا في عالم مفتوح لطيف تفيض فيه النساء والأزهار والفاكهة بالوفرة ذاتها! مثله مثل بيير أوغست رينوار (1841 ـ 1919) الذي اختار أن يرى البهجة وينأى عن المنغصات!
خلال النصف الآخر من القرن العشرين ذاته، بقي النحاتون مخلصين للشكل الإنساني، ولكن، تبقى تلك المشكلة الخامدة في وضعية التخفي، وقريبًا ما لن تقنع الطبيعة، ليبدأ البحث عن الاختلاف والتعارض من جديد.
هوامش (تعريف اللوحات):
"المتصارعان" (1887). فينسنت فان كوخ. لوحة مخفية اكتُشفت مؤخرًا. ومنها كأسلوب وكموضوع نستطيع أن نتفهم هذا التأثير الذي يتكلم عنه.
"البلوغ" (1894) ــ إدوارد مونش. للوحة عدد من النسخ بالتلوين الزيتي، والحفر، ومنها ما رسم بالحبر.
"امرأة 1" (1950 ـ 1952) وليم دي كونينغ. "أي انثى هذه!" صاحت إحدى السيدات وهي تشاهد اللوحة، إنها وحش! تكمن أهمية الأشكال الأنثوية في سلسلة أعمال دي كونينغ داخل عالم المجردات في ضربات الريشة المحمومة.
"بوهيميا عصرية" (1924) ـ إرنست لودفيغ كيرشنر. حيث تساعد آليات الحفر ومواده في هذه اللوحة، وسواها من أعماله الحفرية، على الابتعاد عما يمكن وصفه بالبدائية شبه المطلقة التي تتصف بها خطوط وألوان كيرشنر في أعماله الزيتية.
"امرأة منحرفة الجنس" (1950) ـ جان دوبوفيه (1901 ـ 1985). يستخدم دوبوفيه الجسم الإنساني كنقطة انطلاق للخروج من الواقع، شخوصه البشرية تبدو وكأنها خارجة من عالم المرضى النفسيين غير المكتشف من قبل الفن الرسمي! شبيهة برسوم وخربشات المرضى العقليين التي توجد على ألواح وجدران مستشفيات الأمراض العصبية، والتي تكاد تقدّم تعريفًا مباشرًا غير خاضع لرقابة للواقع المعاش. بتعارض يصل لحد التضاد مع كل التقاليد الأوروبية للفن الكلاسيكي الواعي. ما يجعلنا نتساءل: "ترى، إلى أي حد نستطيع قبول هذه المغالاة التي وصل إليها الفن التشكيلي المعاصر؟". ففي هذا العمل الذي يعدم أي إيحاء بالأنوثة في المرأة، لدرجة أنه يمكن للبغي التي أصطحبها شارل بودلير لحضور معرض الفن التشكيلي السنوي، أن تحتج بأن هذا يمثل إهانة إلى المرأة كإنسان!
"موت الشراهة" (1958) ـ ليونارد باسكين (1922 ـ 2000). يصور العمل فكرة التحلل عند الموت، حيث يقف أمامنا موحيًا بشعور من الدعابة المؤذية! الطول المبالغ به للساقين المرسومتين وكأنهما كاريكاتير لساقين ذاتي جمال كلاسيكي، يعوض الساعدين المفقودين. الخطوط المنحنية، واختفاء الرقبة والساعدين، والوجه الخنزيري جميعها تبرز الشعور بالقبح. صارت صورة الإنسان في القرن العشرين مأسوية، مليئة بالإحباط والحزن.
"مخصّص للشفاه" (1965) ـ طبع على شاشة حريرية لفنان البوب آرت آلان جيمس (1937). إن فناني مدرسة البوب آرت (الفن الشعبي) أعادوا التوجه لتمييز الموضوعات، مفضلين الأكثر انتشارًا واعتيادية منها، مثل صور الإعلانات ورسوم الكرتون. مستخدمين، على الغالب، تقنيات، التي إضافة لاقتراحها المعالجات ذاتها التي تطبق في الإنتاج الضخم المعاصر، فإنها أيضًا غير شخصية وتكاد تكون مجهولة بأقصى حد ممكن. الجسم الإنساني في البوب آرت (الفن الشعبي) يعكس الإحساس المتولد من اللوحات الإعلانية!
شارل وينتينك/ Charles Wentinck:
ــ ولد في هولندا عام 1909، عاش في فرنسا منذ عام 1960 حتى وفاته عام 1979. حاز على جائزة النقد الفني لمدينة فينيسيا. له ما يقارب 15 كتابًا عن الفن ترجمت للغات عديدة. منها:
ــ ألغريكو (1964).
ــ كيس فان دونكن (1967).
ــ الشكل الإنساني (1971).
ــ الفن المعاصر والبدائي (1974).
ــ كنوز الفن الأوروبي (1974).
- المترجم: منذر مصري