اللوحة باعتبارهانُصْباً

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • اللوحة باعتبارهانُصْباً

    . اللوحة باعتبارها نُصْباً
    عن تجربة الفنان قيس عيسى

    الكاتب :محمد خضير
    كما في تجارب الفن المفاهيمي Conceptual Art المستحدَثة
    تحتاج لوحة الفنان قيس عيسى الى فضاء تفاعليّ يوازن هشاشةَ موادها الخام المتعددة (الخيوط والأسلاك وبقايا الثياب) بثوابت تصويرية/ تفاعلات استثنائية، توثّق لحظةَ العرض بمرجعها المفهومي وصيرورتها الجمالية (جرّبَ نوعاً منها في اللوحات السطحية الكبيرة والمطويّات المتعددة السطوح). لكنه يبالغ أكثر في الأعمال المجهَّزة من مواد متعددة لأجل استبدال حالةٍ موطَّدة وصلبة بحالة عرضية زائلة. فما نرميهِ جانباً ونُهمِله من أشياء، قد يدخل عالمَ التصوّر والإشارة من جانب فنّي مقصود. وقد ترتفع مقاصدُ هذا الجانب كلّما بالغنا في تجسيم التفاهة وصوّرناها في إطارٍ جماليّ منتِج للدلالات الغائبة. بذا تزداد الاحتمالات التصوّرية، وتقوى العلائق الدلالية، خاصة في أعمال التجهيز المجسَّمة من مواد مهملة.
    يوضّح الفنان هذا الجانب العلاماتي بقوله: "استعرتُ الخيط والحبال عوضاً عن الخط في الرسم لسبر أعماق المفهوم داخل هذه المادة فتكشّفَ لدي أنّ للخيط قِوى متصارعة تشبه قِوى الانسان في الخير والشر، فالخيط ممكن أن يكون رفيعاً وناعماً وسلساً ومصدر جذبٍ للرغبات، وأيضاً فيه قوة التعقيد والتشابك الى حدّ القيد من خلال عُقَدِه، كلما ازدادت كلما تعقّد الوضع وهذا ما عملت عليه في عمل (العالم) ومجموعة اكساءات الجسد".
    إن أعمال "إكساء" الجسد بوسائط تافهة، يساوي تعريته من أوهام الاستغلال والشهرة. وبوسائط مادية وتجسيماتٍ فراغية، ننتظر قيمةً معلّقة على نظرةٍ غائبة ومفهومٍ مستحدَث سيحضران في الوقت المناسب، وفي مكان العرض المختار بعناية. وغالباً ما يقف الفنان الى جانب لوحته/ تركيبه المؤقت كي يضيف ظلاً تذكارياً على ظلال المواد الدائمية، كما أشرنا في الفقرة (١). كلاهما -الفنان واللوحة- في وضعٍ تجسيميّ مشترك أمام/ خلال العرض الذي سيتجهَّز بكيفيات متعددة، في فضاءٍ غير محدود المساحة. فكلّ تجسيم يصوّر لحظةً تذكارية لعملٍ/ نُصْبٍ في أثناء تجهيزه للعرض الكبير. وهو يفقد علائقه البصرية المحدودة ما أن يتحرك عنه الفنانُ الداعم بحضوره في خلوة العرض المحدودة (قاعة العرض) ليخرج الى فضاء أوسع (خلاء المدينة الفسيح) ويقيم علاقةً جديدة مع الزمن والفراغ. بذا فإنّ أنصاب الفنان قيس عيسى هي نماذج أوّلية قابلة للاستعمال المحيطي الأكبر، بتقنيات معمارية، ومواد قابلة للدوام مدة أطول. إنه قريب من أن يمارس دور المعماري الذي يجهز المحيطَ الاجتماعي بوثائق تدوينية مختلفة عن عمل التدوين على اللوحة المُسطّحة والمَطويّة ذات السطوح المتعددة. وما هذا الافتراض التوسيعي لقابلية الأشكال المؤقتة على الانتشار، إلا وسيلة أخرى لتوسيع الرؤية، قد تدحضها الهشاشةُ والرثاثة التي يتعمّدها الفنان لاشتغال مفهومه لحظة العرض وما حوله بمسافة محدودة.

    . اللوحة باعتبارها علامة غائبة:
    نختتم مقالتنا عن "توقيتات" العرض المشهديّ للوحاتِ قيس عيسى بملاحظة عامة وملخَّصة، مفادها: لا شيء أقوى من معرفة المحدود "الضامر" في اللامحدود المفهومي "الراقي/ المهاجر" لوظيفة الفن المتعالية "الترانزسندنتالية". بإمكان اللوحة "المؤقتة" أن ترسم امتدادات زمنية ومكانية، عبر مَطويّةٍ تراتبية، أو جسم هشّ قائم بأسماله وأغلاله، أو كتابة صورية تسترجع أثرَ الصفحة الطباعية والنَّسخية القديمة ووثائقيتها الخطيرة؛ وكلُّ اقتراحٍ تصويريّ من قبيل هذه "التوقيتات" يبني مستقبلاً معرفياً، وتجربة أساسية، تتعدّى وقتها لأمدٍ غير معلوم.
    لكن ما هو أكثر دلالة على المعرفة المتسعة، المكينة وراء الزائل والضامر، قد نجده في أبسط التوقيتات اللحظية، ونمثِّل له بلوحة "مشجب الملابس" الذي صوَّره قيس عيسى بدائرةٍ من المُهمَلات والتوافه المنزلية. تدحض هذه الدائرة التقويضية/ الانتقاضية ما حاول الفنان أن يثبته بوقوفه الى جانب هذا الأثر/ الطلل البالي، وما يراود خاطره من معرفة جمالية راقية. فهو يعثر على علامة غائبة في الثياب ويستعير طاقتَها على التحوّل الى طيور مهاجرة، بناء على العلاقة المُضمَرة بين الهجرة والتجرُّد من الثياب لسببٍ قسريّ كالقمع السُّلطوي. ويوضّح قيس هذه العلاقة بقوله: "أنا أبحث في العلامة الغائبة التي نتجَت عن أثر فعلِ الانسان على مستوى الفكرة. أما على مستوى الإخراج فهو تحويل لعناصر الرسم من خطّ ولون وتكوين الى عناصر مادية ذات وجود طبيعي، لكن بمنطق رياضيّ يستخدم التكرار والاستعاضة والتحول. كل ذلك ينصبّ في بنية الإخراج المعاصر الذي نحتُّ له اصطلاحاً أسميته النمذجة المفاهيمية". وينفي قيس أن تكون تقنيته هذه من قبيل تقنيات عصر الحداثة التهكمية التي جاءت بها الدادائية مثلاً، إنما هي تقنية تقويضية: "تتمرد على الانضباط وعلى الجمال". فاللوحة ليست "جميلة" إلا بمقدار المعرفة بقيمتها الزائلة. وما يبقى فقط: "الفكرة التي تتناسل في أذهان المتلقين وتتحول باستمرار".
    ___________________________________
    (*) الاقتباسات من رسائل خاصة بالفنان أرسلها لكاتب المقالة..

    غن مجلة تشكيلي ..بتصرف
يعمل...
X