إبراهيم مشارة
الشاعر الألماني فريدريش روكرت والأدب العربي
16 - أبريل - 2024م
فريدريش روكرت
يعرف المثقفون والأدباء والقراء العرب غوته كشاعر ألماني عاشق للآداب الشرقية، خاصة في مؤلفه المشهور «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» ولعل شهرة غوته (المحب للشهرة والأضواء) في الشرق قد كسفت شمس مواطنه الشاعر الألماني والمترجم فريدريش روكرت (1788/1866) الذي كان لا يحب الشهرة والأضواء فقد كان كما وصفته المستعربة الألمانية آنا ماري شيمل قنطرة بين الشرق والغرب والوسيط الذي لا يكل ولا يمل، وقد كتبت عنه بمناسبة نيلها جائزته عام 1965(قد حاولت منذ فترة صباي مرة بعد مرة أخرى أن أعرف ليس في الغرب وإنما في العالم الإسلامي أيضا بهذا الوسيط الذي لا يكل بين الشرق والغرب).
بدأ اهتمام الألمان بالشرق عقب الحملات الصليبية، وكان في الأساس يتوجه إلى بيت المقدس ورحلة الحج إلى موطن ميلاد السيد المسيح لزيارة الدروب التي مشى فيها والأماكن التي وعظ فيها، والتي شهدت كذلك عذاباته وآلامه وللاعتقاد كذلك أن رحلة الحج هذه مطهرة للذنوب مسببة لغفران الخطايا، وهكذا تهافت كثير من الحجاج الألمان على زيارة فلسطين، حيث بدأت تتشكل المعارف الأولى عن بلدان الشرق كشعوب وجغرافيا وأديان وعادات وتقاليد، لكن بنظرة تعال وازدراء لديانتهم بتأثير الحروب الصليبية والانحياز للمسيحية، لكن بعد الحركة الإصلاحية التي دشنها مارتن لوثر بدأ الألمان يتخلون شيئا فشيئا عن الطابع الديني في ملاحظاتهم ودراساتهم لصالح الحقيقة والموضوعية ولو بشكل نسبي لا يسلم من التحامل.
يؤكد ذلك ما أعلنه إدوارد سعيد في المؤتمر العالمي لدراسات الشرق الأوسط عام 2002 من أن الاستشراق الألماني أكثر موضوعية وجدية وعمقا بمنهجيه اللذين استحدثهما، المنهج الفيلولوجي والمنهج التاريخي في دراسة تراث الشرق، وهو الموقف نفسه الذي يدعمه صلاح الدين المنجد، بالتأكيد على موضوعية الاستشراق الألماني وجديته وعمق فهم المستشرقين الألمان للتراث العربي الإسلامي والسبب يعود إلى أن ألمانيا لم تحتل بلدا من بلدان المشرق بعكس الفرنسيين والإنكليز الذين كونوا جيوشا من المستشرقين والمخبرين والجواسيس، وكان كثير منهم في خدمة الاستعمار والكولونيالية بتوفير المادة المعرفية اللازمة لإحكام القبضة على تلك الشعوب بمعية الآلة الحربية.
اللغة المترجم عنها واللغة المترجم إليها، مع التبحر في ثقافة اللغتين .
لقد أثبت روكرت منذ القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي شهد ميلاد القوميات وتنامي الثورة الصناعية وبدء عصر الإمبرياليات والاستعمار، وهو كذلك العهد الذي بدأ فيه الاستشراق الموجه والمسيس عمله، أن حوار الحضارات يمر حتما بالاطلاع على ثقافات ولغات الشعوب الأخرى، وإن في كل لغة وفي كل أدب جماليات ومضامين ورؤى وآفاقا حضارية وفكرية تغني الروح وتغذي الفكر حتى يتحرر الإنسان من مشاعر الكراهية والازدراء، والأحكام المسبقة والتعصب، وقديما قيل (من جهل شيئا عاداه). وبأعمال روكرت يسجل هذا الأخير نقطة إضافية لصالح الاستشراق الألماني الذي عرف بالجدية والرصانة وعمق الفهم والتحرر من أهداف التبشير أو الاستعمار وبمنهجيه الفيلولوجي والتاريخي، حقق من الكتب العربية التراثية المهمة وصنف في تاريخ الأدب والمذاهب الفكرية والتاريخ السياسي والفكري للعالمين العربي والإسلامي.
وشهادة إدوارد سعيد نفسه الذي أنحى باللائمة على المستشرقين، خاصة الفرنسيين والإنكليز الذين كانوا طلائع الاستعمار والإمبريالية استثنى الاستشراق الألماني من هذه التهمة، دون أن يعني هذا عدم وجو د ثغرات، أو سوء فهم أو حكم مسبق مغرض عند هذا المستشرق أو ذاك، لكنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها. دور مهم لعبه روكرت في التقارب بين ألمانيا والمشرق عبر نبض الكلمة ووهج الحرف، وإشعاع الفكر وحوار حضاري مارسه بمفرده وبجهوده الخاصة عبر الدرس والتنقيب والترجمة، بعيدا عن الأهواء والتعصب وتعشق الشهرة والمديح، ولا شك أن الشهرة التي كسبها غوته قد ظلمت روكرت، وكان أحق بأكبر قدر مما ناله من التقدير والاحتفاء والدرس، وإنشاء جائزة باسمه هي اعترف بجهود هذا الوسيط الذي لا يكل ولا يمل بين الشرق والغرب.
*******
كاتب جزائري