الصيدلة
الصيدلة علم يبحث في العقاقير وخصائصها وتركيب الأدوية وما يتعلق بها، ويتصل اتصالاً وثيقًا بعلمي النبات والحيوان ؛ إذ إن معظم الأدوية ذات أصل نباتي أو حيواني، كما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلم الكيمياء ؛ لأن الأدوية تحتاج إلى معالجة ودراية بالمعادلات والقوانين الكيميائية.
كانت الصيدلة في بادئ الأمر غير مستقلة عن الطب في كل أنحاء العالم المعروف آنذاك. وكان الدواء ينتقل من يدي الطبيب إلى فم المريض مباشرة، وللطبيب أعوان يساعدونه على جمع الأعشاب، ثم يتولى بنفسه صنع الدواء وتركيبه وقبض ثمنه من المريض، وكان في ذلك حط لقدر الطبيب. وهنا انقسمت مهنة الطب إلى قسمين : تشخيصي وعلاجي ؛ أي نظري وعملي، ومن ثم انفصلت صناعة الطب عن صناعة العقاقير واستقل كل منهما بذاته. وكان الرازي أول من قال باستقلال الصيدلة عن الطب، كما رأى أن جهل الطبيب بمعرفة العقاقير لا يحول دون ممارسته الطب. ويبدو ذلك جلياً في معرض حديثه عن امتحان الطبيب: "أما امتحانه بمعرفة العقاقير فأرى أنها محنة اختبار ضعيفة، وذلك أن هذه الصناعة هي بالصيدناني أولى منها بالطبيب المعالج، إلا أن تقصير معرفته بالكثير الاستعمال منها يدل على قلة علمه ومزاولته ودربته... ويمكن أن يكون طبيبًا فاضلاً مقصرًا عن كثير من خلال العقاقير".
بعد أن انفصلت الصيدلة عن الطب، ارتفع مستوى العقاقير، وأنشئت حوانيت (عطارات) لبيعها وتصريفها، وأنشئت مدارس لتعليم صناعة تركيب الأدوية، ثم توسعت هذه العطارات وتحسنت، مما تمخض عن فتح أول صيدلية في التاريخ في بغداد عام 621هـ، 1224م. وألّف العرب في هذا العلم ما أطلقوا عليه اسم الأقرباذين ؛ أي الدستور المتبع في تحضير الأدوية. ولعل من أهم مآثر المسلمين في تلك الحقبة ـ في مجال الصيدلة ـ أنهم أدخلوا نظام الحسبة ومراقبة الأدوية. ونقلوا المهنة من تجارة حرة يعمل فيها من يشاء، إلى مهنة خاضعة لمراقبة الدولة. وكان ذلك في عهد المأمون، وقد دعاه إلى ذلك أن بعضًا من مزاولي مهنة الصيدلة كانوا غير أمينين ومدلّسين، ومنهم من ادّعى أن لديه كل الأدوية، ويعطون للمرضى أدوية كيفما اتفق ؛ نظرًا لجهل المريض بأنواع الدواء. لذا أمر المأمون بعقد امتحان أمانة الصيادلة، ثم أمر المعتصم من بعده (221هـ، 835م) أن يمنح الصيدلاني الذي تثبت أمانته وحذقه شهادة تجيز له العمل، وبذا دخلت الصيدلة تحت النظام الشامل للحسبة، ومن العرب انتقل هذا النظام إلى أنحاء أوروبا في عهد فريدريك الثاني (607 ـ 648هـ، 1210 ـ 1250م)، ولا تزال كلمة مُحْتَسِب مستخدمة في الأسبانية بلفظها العربي حتى الوقت الراهن. وعقب الفصل بين مهنتي الطب والصيدلة، ارتقت كلتا المهنتين ؛ إذ تفرغ الطبيب إلى التشخيص والبحث، وتفرغ الصيدلاني إلى تجويد عمله عن طريق البحث، ووُضع للصيادلة دستور يسيرون عليه ويلتزمونه، وينص هذا الدستور فيما ينص ـ على التمييز بين علم الطب وعلم الصيدلة، فحظر على الصيدلي التدخل في أمور الطب، كما حظر على الطبيب امتلاك صيدلية أو أن يفيد من بيع العقاقير، وبذا لا تحق ممارسة مهنة الصيدلة إلا لحامل ترخيص رسمي، ولا يحق ذلك أيضًا إلا لمن أدرجت أسماؤهم في جدول الصيادلة. وكان يناط بمفتش رسمي في كل مدينة الإشراف على الصيادلة وكيفية تحضير العقاقير. يسَّر هذا الدستور للصيدلة أن ترتقي بوضوح علمًا قائمًا بذاته، مما جعل الصيادلة ينتقلون إلى مملكة النبات التي وجدوا فيها مجالاً خصبًا للعمل ؛ فزرعت النباتات الطبية بشكل منتظم وفق شروط خاصة في مزارع خاصة رعاها الحكام، وجلبوا لها البذور اللازمة من كل مكان يطلبه الصيادلة، وذلك ما فعله عبدالرحمن الأول في قرطبة. ووفق تنظيم مهنة الصيدلة، أصبح في كل مدينة كبيرة عميد للصيادلة يقوم بامتحانهم كابن البيطار في القاهرة. كما فرض الدستور الجديد على الأطباء أن يكتبوا ما يصفون من أدوية للمريض على ورقة سمّاها أهل الشام الدستور وأهل المغرب النسخة وأهل العراق الوصفة.
الصيدلة العربية:
كان الصيادلة يستوردون العقاقير النباتية من الهند، فضلاً عن استيرادهم الأدوية ذات الأصل النباتي أو الحيواني من البلدان التي تتوافر فيها. ولكن عقب فصل مهنة الطب عن مهنة الصيدلة توصّل الصيادلة المسلمون إلى صنع هذه العقاقير بأنفسهم، ثم اكتشفوا عقاقير أخرى ذات خصائص علاجيّة لم تكن معروفة من قبل. واهتدوا إلى طريقة غلَّفوا بها بعض الأدوية التي تؤخذ عن طريق الفم، وبذا كفوا المرضى معاناة مرارة طعمها ونكهتها غير المستساغة. ثم توصلوا إلى تحضير المبنج الذي يزيل الآلام أو يخففها، كما حضروا الترياق المقاوم للسموم. وبالجملة فقد قدّم الصيادلة العرب للعالم أساسًا متينًا وأصيلاً لعلم الصيدلة.
تأصيل الصيدلة العربية. برع الأطباء في بادئ الأمر في تحضير الدواء حسب نسب ومقادير محددة. ولما اقتصر أمر إعداد الدواء وتركيبه على الصيادلة، حذقوا هذا الفن وارتقوا به كثيرًا. فاستخدموا موازين دقيقة لخلط هذه النسب. ولم يكن هذا الأمر سهلاً في بادئ الأمر خاصة في تحضير الأدوية ذات المصدر الأجنبي ؛ إذ إن كل بلد كانت له أوزانه ومكاييله. وكانت أهم مصادر علم الصيدلة عند العرب ـ قبل أن تستقر عندهم علمًا أصيلاً ـ كُتب الهند وفارس ؛ فقد عُرف عن الهنود، حتى وقتنا الحاضر، إلمامهم العميق بالأعشاب، وبراعتهم في استخراج خواصها ومعرفة آثارها في الأبدان. ولما كان المبدأ العام في كل الأمور الدنيوية هو الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها ؛ فقد تلقّف العرب كل ما وصل إلى أيديهم من علم الحشائش والعقاقير. كذلك أخذوا عن اليونان ما استطاعوا، إلا أن ذلك كان في وقت مبكر نسبيًا ؛ أي مع بدايات أخذ الدولة الإسلامية بأسباب العلم والحضارة. واعتنوا من بين كل الكتب اليونانية بكتاب المادة الطبية في الحشائش والأدوية المفردة الذي وضعه ديسقوريدس العين زربي (80م) وكتابه هو "المادة الطبية Materia Medica"، وترجموه عدة مرات أشهرها اثنتان: ترجمة حنين بن إسحاق في بغداد، وترجمة أبي عبداللهلله الصقلّي في قرطبة. وفي وقت لاحق قام الصيادلة المسلمون ـ بفضل خبرتهم وممارستهم ـ بالزيادة على هذا الكتاب واستدراك ما فات ديسقوريدس، ومن ثم بدأ التأليف والتصنيف بغزارة في الصيدلة وعلم النبات، ومن ذلك معجم النبات لأبي حنيفة الدينوري (282هـ، 895م)، والفلاحة النبطية لابن وحشية (318هـ، 930م) والفلاحة الأندلسية لابن العوام الأشبيلي، فقد استفاد المصنفون في علم الأدوية كثيرًا من هذه الكتب وأمثالها. وكان لابد ـ تبعًا لهذا التطور الذي شهدته صناعة الدواء ـ أن تطرأ تعديلات تؤصِّل هذه الصناعة، وتمكّن من الاستفادة من العقاقير المحلية باستبدالها بما كان يستورد، وتبسط أعمال الصيدلة، وتضع معيارًا للجودة النوعية تكتشف من خلاله الأدوية المغشوشة، والعمل على توحيد الأوزان والمكاييل لتتماشى مع نظام المقاييس الموجود والاستغناء عن المقاييس المستوردة غير الموحدة.
الاستبدال والتبسيط. لما نقل العرب أسماء الأدوية المفردة (النباتية) من كتب اليونان والهند وفارس، لم يستطيعوا التعرف على كثير منها، وحتى تلك التي تعرفوا عليها لم يقفوا على خصائصها، لذا لم يكن هناك بد من الاستعاضة عنها ببديل محلي. فلجأوا منذ وقت مبكر إلى التأليف فيما سموه أبدال الأدوية، ووضعوا مصنفات خاصة بتلك التي لم يشر إليها ديسقوريدس وجالينوس وغيرهما، واستفادوا في هذا الشأن من العقاقير الهندية والفارسية. إلا أن الحاجة للبديل المحلي كانت ضرورة اقتصادية وانتمائية، عبّر عنها البيروني في عتابه للصيادلة بقوله : "لو كان منهم ديسقوريدس في نواحينا لصرف جهده على التعرف على ما في جبالنا وبوادينا، ولكانت تصير حشائشها كلها أدوية…". واستجابة لمثل هذه الحميّة جرت بعض محاولات للاستفادة من الأعشاب المحلية ؛ كان من بينها في بادئ الأمر تصنيف ما يشبه المعاجم على هيئة جداول تحتوي على أسماء النباتات المختلفة باللغات العربية واليونانية والسريانية والفارسية والبربرية بشرح أسماء الأدوية المفردة. ومن المحاولات التطبيقية في هذا المجال ما قام به رشيد الدين الصوري الذي كان يخرج إلى المواضع التي بها النباتات يرافقه رسام، فيشاهد النبات ويسجله ثم يريه للرسام في المرة الأولى وهو في طور الإنبات أو لا يزال غضًا، ثم يريه إياه في المرة الثانية بعد اكتماله وظهور بذره، وفي الثالثة بعد نضجه ويبسه، ويقوم الرسام بتصويره في جميع هذه الأطوار. وغني عن القول أن الصيادلة المسلمين بعد أن ترقوا في هذه الصناعة قاموا بالاستغناء عن كثير من العقاقير التي تستخلص من أجزاء حيوانية لاسيما المحرّمة منها أو المكروهة.
كانت الوصفات التي حصل عليها أكثر المصنفين المسلمين من البلدان المفتوحة معقدة، إما أصلاً، أو كان واصفوها يتعمدون التفنن في تعقيدها سواء فيما يتعلق بعدد العقاقير التي تتركب منها، أو شروط جنيها أو إعدادها أو الزمن اللازم انقضاؤه قبل استخدام التركيبة الجديدة. من أجل هذا توصل الصيادلة المسلمون إلى وضع صيغ معدلة للأدوية المعقدة الشهيرة، وبذا اختفت مع مرور الزمن الأعداد الكبيرة من الأدوية معقدة التركيب، وازداد عدد الأدوية البسيطة خاصة الأشربة والأدوية الغذائية والمسهلات وأدوية تخفيض الوزن والزينة وما إليها.
معايير الجودة. لما رأى الناس الأرباح الوفيرة التي تدرها الصيدلة (العطارة) على العاملين فيها، دخلها غير المتخصصين. إلا أنه بعد أن نظمت المهنة وصار للصيادلة دستور، استُبِعد المتسللون بقرار من الخليفة العباسي المقتدر. وزاد الأمر إحكامًا بتولي سنان بن ثابت الطبيب أمر الحسبة حيث تحوّل هذا النظام إلى امتحان ومحاسبة ومراقبة دورية للأوزان والمكاييل وتفتيش الصيدليات مرة كل أسبوع. ومن بين الطرق التي طبقوها لمعرفة الأدوية المفردة وفاعليتها، الإحراق بالنار أو السحق، وفحص الرائحة واللون والطعم. وقام بعض الأطباء باختبار مدى فاعلية العقاقير على الحيوانات قبل إعطائها الإنسان ؛ ومن ذلك تجربة الزئبق على القرد التي قام بها الرازي. كما كان ابن سينا يذكر مع كل عقار خصائصه وأوصافه، ونجد ذلك جليًا في كتاب منهاج الدكان لكوهين العطار الذي جمع عمل ابن سينا في هذا الصدد في فصل سماه امتحان الأدوية المفردة والمركبة وذكر ما يستعمل منها وما لا يستعمل. وقد أورد كوهين العطار في هذا الفصل الطرق المستعملة في ضبط معايير جودة العقاقير، بالإضافة إلى فصل عن المدة الزمنية التي لا تعود صالحة للاستعمال بعدها. والأوصاف المميزة للأدوية وأنواعها وما تغش به وكيفية كشف هذا الغش عن طريق الأوصاف الحسية والفيزيائية للدواء.
الأوزان والمكاييل. كانت إحدى العقبات التي واجهت الصيدلاني المسلم ـ عقب حركة النقل والترجمة ـ قضية اختلاف المقاييس التي تضبط في ضوئها أوزان المركبات الدوائية ؛ فقد كان لليونان أوزانهم وكذلك الفرس والهنود، فكان من الصعب عند تحضير الوصفات الأجنبية معرفة الأوزان والمكاييل المستخدمة فيها، وإن عُرف بعضها فقلّما يُضبط. لذا كان من الضروري توحيد العمل بمقاييس معلومة لديهم. واستطاع الصيادلة بعد تجارب ومران أن يتجاوزوا هذه العقبة بعدة أمور منها، تجاهل بعض الأوزان والمكاييل الدخيلة، وإدخال أوزان ومكاييل محلية بدلاً عنها، وتبسيط النسب الموجودة بين المكاييل والموازين المحلية. ودرجوا على استخدام البذور وبعض الحبوب التي تمثل الواحدة منها وزنًا معلومًا مثل ؛ حبة الحمص و الخروبة و نواة التمر، وجعلوا حبة القمح الوحدة الصغرى للأوزان. وكانت أوزانهم كالتالي :
الصيدلة علم يبحث في العقاقير وخصائصها وتركيب الأدوية وما يتعلق بها، ويتصل اتصالاً وثيقًا بعلمي النبات والحيوان ؛ إذ إن معظم الأدوية ذات أصل نباتي أو حيواني، كما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلم الكيمياء ؛ لأن الأدوية تحتاج إلى معالجة ودراية بالمعادلات والقوانين الكيميائية.
كانت الصيدلة في بادئ الأمر غير مستقلة عن الطب في كل أنحاء العالم المعروف آنذاك. وكان الدواء ينتقل من يدي الطبيب إلى فم المريض مباشرة، وللطبيب أعوان يساعدونه على جمع الأعشاب، ثم يتولى بنفسه صنع الدواء وتركيبه وقبض ثمنه من المريض، وكان في ذلك حط لقدر الطبيب. وهنا انقسمت مهنة الطب إلى قسمين : تشخيصي وعلاجي ؛ أي نظري وعملي، ومن ثم انفصلت صناعة الطب عن صناعة العقاقير واستقل كل منهما بذاته. وكان الرازي أول من قال باستقلال الصيدلة عن الطب، كما رأى أن جهل الطبيب بمعرفة العقاقير لا يحول دون ممارسته الطب. ويبدو ذلك جلياً في معرض حديثه عن امتحان الطبيب: "أما امتحانه بمعرفة العقاقير فأرى أنها محنة اختبار ضعيفة، وذلك أن هذه الصناعة هي بالصيدناني أولى منها بالطبيب المعالج، إلا أن تقصير معرفته بالكثير الاستعمال منها يدل على قلة علمه ومزاولته ودربته... ويمكن أن يكون طبيبًا فاضلاً مقصرًا عن كثير من خلال العقاقير".
بعد أن انفصلت الصيدلة عن الطب، ارتفع مستوى العقاقير، وأنشئت حوانيت (عطارات) لبيعها وتصريفها، وأنشئت مدارس لتعليم صناعة تركيب الأدوية، ثم توسعت هذه العطارات وتحسنت، مما تمخض عن فتح أول صيدلية في التاريخ في بغداد عام 621هـ، 1224م. وألّف العرب في هذا العلم ما أطلقوا عليه اسم الأقرباذين ؛ أي الدستور المتبع في تحضير الأدوية. ولعل من أهم مآثر المسلمين في تلك الحقبة ـ في مجال الصيدلة ـ أنهم أدخلوا نظام الحسبة ومراقبة الأدوية. ونقلوا المهنة من تجارة حرة يعمل فيها من يشاء، إلى مهنة خاضعة لمراقبة الدولة. وكان ذلك في عهد المأمون، وقد دعاه إلى ذلك أن بعضًا من مزاولي مهنة الصيدلة كانوا غير أمينين ومدلّسين، ومنهم من ادّعى أن لديه كل الأدوية، ويعطون للمرضى أدوية كيفما اتفق ؛ نظرًا لجهل المريض بأنواع الدواء. لذا أمر المأمون بعقد امتحان أمانة الصيادلة، ثم أمر المعتصم من بعده (221هـ، 835م) أن يمنح الصيدلاني الذي تثبت أمانته وحذقه شهادة تجيز له العمل، وبذا دخلت الصيدلة تحت النظام الشامل للحسبة، ومن العرب انتقل هذا النظام إلى أنحاء أوروبا في عهد فريدريك الثاني (607 ـ 648هـ، 1210 ـ 1250م)، ولا تزال كلمة مُحْتَسِب مستخدمة في الأسبانية بلفظها العربي حتى الوقت الراهن. وعقب الفصل بين مهنتي الطب والصيدلة، ارتقت كلتا المهنتين ؛ إذ تفرغ الطبيب إلى التشخيص والبحث، وتفرغ الصيدلاني إلى تجويد عمله عن طريق البحث، ووُضع للصيادلة دستور يسيرون عليه ويلتزمونه، وينص هذا الدستور فيما ينص ـ على التمييز بين علم الطب وعلم الصيدلة، فحظر على الصيدلي التدخل في أمور الطب، كما حظر على الطبيب امتلاك صيدلية أو أن يفيد من بيع العقاقير، وبذا لا تحق ممارسة مهنة الصيدلة إلا لحامل ترخيص رسمي، ولا يحق ذلك أيضًا إلا لمن أدرجت أسماؤهم في جدول الصيادلة. وكان يناط بمفتش رسمي في كل مدينة الإشراف على الصيادلة وكيفية تحضير العقاقير. يسَّر هذا الدستور للصيدلة أن ترتقي بوضوح علمًا قائمًا بذاته، مما جعل الصيادلة ينتقلون إلى مملكة النبات التي وجدوا فيها مجالاً خصبًا للعمل ؛ فزرعت النباتات الطبية بشكل منتظم وفق شروط خاصة في مزارع خاصة رعاها الحكام، وجلبوا لها البذور اللازمة من كل مكان يطلبه الصيادلة، وذلك ما فعله عبدالرحمن الأول في قرطبة. ووفق تنظيم مهنة الصيدلة، أصبح في كل مدينة كبيرة عميد للصيادلة يقوم بامتحانهم كابن البيطار في القاهرة. كما فرض الدستور الجديد على الأطباء أن يكتبوا ما يصفون من أدوية للمريض على ورقة سمّاها أهل الشام الدستور وأهل المغرب النسخة وأهل العراق الوصفة.
الصيدلة العربية:
كان الصيادلة يستوردون العقاقير النباتية من الهند، فضلاً عن استيرادهم الأدوية ذات الأصل النباتي أو الحيواني من البلدان التي تتوافر فيها. ولكن عقب فصل مهنة الطب عن مهنة الصيدلة توصّل الصيادلة المسلمون إلى صنع هذه العقاقير بأنفسهم، ثم اكتشفوا عقاقير أخرى ذات خصائص علاجيّة لم تكن معروفة من قبل. واهتدوا إلى طريقة غلَّفوا بها بعض الأدوية التي تؤخذ عن طريق الفم، وبذا كفوا المرضى معاناة مرارة طعمها ونكهتها غير المستساغة. ثم توصلوا إلى تحضير المبنج الذي يزيل الآلام أو يخففها، كما حضروا الترياق المقاوم للسموم. وبالجملة فقد قدّم الصيادلة العرب للعالم أساسًا متينًا وأصيلاً لعلم الصيدلة.
تأصيل الصيدلة العربية. برع الأطباء في بادئ الأمر في تحضير الدواء حسب نسب ومقادير محددة. ولما اقتصر أمر إعداد الدواء وتركيبه على الصيادلة، حذقوا هذا الفن وارتقوا به كثيرًا. فاستخدموا موازين دقيقة لخلط هذه النسب. ولم يكن هذا الأمر سهلاً في بادئ الأمر خاصة في تحضير الأدوية ذات المصدر الأجنبي ؛ إذ إن كل بلد كانت له أوزانه ومكاييله. وكانت أهم مصادر علم الصيدلة عند العرب ـ قبل أن تستقر عندهم علمًا أصيلاً ـ كُتب الهند وفارس ؛ فقد عُرف عن الهنود، حتى وقتنا الحاضر، إلمامهم العميق بالأعشاب، وبراعتهم في استخراج خواصها ومعرفة آثارها في الأبدان. ولما كان المبدأ العام في كل الأمور الدنيوية هو الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها ؛ فقد تلقّف العرب كل ما وصل إلى أيديهم من علم الحشائش والعقاقير. كذلك أخذوا عن اليونان ما استطاعوا، إلا أن ذلك كان في وقت مبكر نسبيًا ؛ أي مع بدايات أخذ الدولة الإسلامية بأسباب العلم والحضارة. واعتنوا من بين كل الكتب اليونانية بكتاب المادة الطبية في الحشائش والأدوية المفردة الذي وضعه ديسقوريدس العين زربي (80م) وكتابه هو "المادة الطبية Materia Medica"، وترجموه عدة مرات أشهرها اثنتان: ترجمة حنين بن إسحاق في بغداد، وترجمة أبي عبداللهلله الصقلّي في قرطبة. وفي وقت لاحق قام الصيادلة المسلمون ـ بفضل خبرتهم وممارستهم ـ بالزيادة على هذا الكتاب واستدراك ما فات ديسقوريدس، ومن ثم بدأ التأليف والتصنيف بغزارة في الصيدلة وعلم النبات، ومن ذلك معجم النبات لأبي حنيفة الدينوري (282هـ، 895م)، والفلاحة النبطية لابن وحشية (318هـ، 930م) والفلاحة الأندلسية لابن العوام الأشبيلي، فقد استفاد المصنفون في علم الأدوية كثيرًا من هذه الكتب وأمثالها. وكان لابد ـ تبعًا لهذا التطور الذي شهدته صناعة الدواء ـ أن تطرأ تعديلات تؤصِّل هذه الصناعة، وتمكّن من الاستفادة من العقاقير المحلية باستبدالها بما كان يستورد، وتبسط أعمال الصيدلة، وتضع معيارًا للجودة النوعية تكتشف من خلاله الأدوية المغشوشة، والعمل على توحيد الأوزان والمكاييل لتتماشى مع نظام المقاييس الموجود والاستغناء عن المقاييس المستوردة غير الموحدة.
الاستبدال والتبسيط. لما نقل العرب أسماء الأدوية المفردة (النباتية) من كتب اليونان والهند وفارس، لم يستطيعوا التعرف على كثير منها، وحتى تلك التي تعرفوا عليها لم يقفوا على خصائصها، لذا لم يكن هناك بد من الاستعاضة عنها ببديل محلي. فلجأوا منذ وقت مبكر إلى التأليف فيما سموه أبدال الأدوية، ووضعوا مصنفات خاصة بتلك التي لم يشر إليها ديسقوريدس وجالينوس وغيرهما، واستفادوا في هذا الشأن من العقاقير الهندية والفارسية. إلا أن الحاجة للبديل المحلي كانت ضرورة اقتصادية وانتمائية، عبّر عنها البيروني في عتابه للصيادلة بقوله : "لو كان منهم ديسقوريدس في نواحينا لصرف جهده على التعرف على ما في جبالنا وبوادينا، ولكانت تصير حشائشها كلها أدوية…". واستجابة لمثل هذه الحميّة جرت بعض محاولات للاستفادة من الأعشاب المحلية ؛ كان من بينها في بادئ الأمر تصنيف ما يشبه المعاجم على هيئة جداول تحتوي على أسماء النباتات المختلفة باللغات العربية واليونانية والسريانية والفارسية والبربرية بشرح أسماء الأدوية المفردة. ومن المحاولات التطبيقية في هذا المجال ما قام به رشيد الدين الصوري الذي كان يخرج إلى المواضع التي بها النباتات يرافقه رسام، فيشاهد النبات ويسجله ثم يريه للرسام في المرة الأولى وهو في طور الإنبات أو لا يزال غضًا، ثم يريه إياه في المرة الثانية بعد اكتماله وظهور بذره، وفي الثالثة بعد نضجه ويبسه، ويقوم الرسام بتصويره في جميع هذه الأطوار. وغني عن القول أن الصيادلة المسلمين بعد أن ترقوا في هذه الصناعة قاموا بالاستغناء عن كثير من العقاقير التي تستخلص من أجزاء حيوانية لاسيما المحرّمة منها أو المكروهة.
كانت الوصفات التي حصل عليها أكثر المصنفين المسلمين من البلدان المفتوحة معقدة، إما أصلاً، أو كان واصفوها يتعمدون التفنن في تعقيدها سواء فيما يتعلق بعدد العقاقير التي تتركب منها، أو شروط جنيها أو إعدادها أو الزمن اللازم انقضاؤه قبل استخدام التركيبة الجديدة. من أجل هذا توصل الصيادلة المسلمون إلى وضع صيغ معدلة للأدوية المعقدة الشهيرة، وبذا اختفت مع مرور الزمن الأعداد الكبيرة من الأدوية معقدة التركيب، وازداد عدد الأدوية البسيطة خاصة الأشربة والأدوية الغذائية والمسهلات وأدوية تخفيض الوزن والزينة وما إليها.
معايير الجودة. لما رأى الناس الأرباح الوفيرة التي تدرها الصيدلة (العطارة) على العاملين فيها، دخلها غير المتخصصين. إلا أنه بعد أن نظمت المهنة وصار للصيادلة دستور، استُبِعد المتسللون بقرار من الخليفة العباسي المقتدر. وزاد الأمر إحكامًا بتولي سنان بن ثابت الطبيب أمر الحسبة حيث تحوّل هذا النظام إلى امتحان ومحاسبة ومراقبة دورية للأوزان والمكاييل وتفتيش الصيدليات مرة كل أسبوع. ومن بين الطرق التي طبقوها لمعرفة الأدوية المفردة وفاعليتها، الإحراق بالنار أو السحق، وفحص الرائحة واللون والطعم. وقام بعض الأطباء باختبار مدى فاعلية العقاقير على الحيوانات قبل إعطائها الإنسان ؛ ومن ذلك تجربة الزئبق على القرد التي قام بها الرازي. كما كان ابن سينا يذكر مع كل عقار خصائصه وأوصافه، ونجد ذلك جليًا في كتاب منهاج الدكان لكوهين العطار الذي جمع عمل ابن سينا في هذا الصدد في فصل سماه امتحان الأدوية المفردة والمركبة وذكر ما يستعمل منها وما لا يستعمل. وقد أورد كوهين العطار في هذا الفصل الطرق المستعملة في ضبط معايير جودة العقاقير، بالإضافة إلى فصل عن المدة الزمنية التي لا تعود صالحة للاستعمال بعدها. والأوصاف المميزة للأدوية وأنواعها وما تغش به وكيفية كشف هذا الغش عن طريق الأوصاف الحسية والفيزيائية للدواء.
الأوزان والمكاييل. كانت إحدى العقبات التي واجهت الصيدلاني المسلم ـ عقب حركة النقل والترجمة ـ قضية اختلاف المقاييس التي تضبط في ضوئها أوزان المركبات الدوائية ؛ فقد كان لليونان أوزانهم وكذلك الفرس والهنود، فكان من الصعب عند تحضير الوصفات الأجنبية معرفة الأوزان والمكاييل المستخدمة فيها، وإن عُرف بعضها فقلّما يُضبط. لذا كان من الضروري توحيد العمل بمقاييس معلومة لديهم. واستطاع الصيادلة بعد تجارب ومران أن يتجاوزوا هذه العقبة بعدة أمور منها، تجاهل بعض الأوزان والمكاييل الدخيلة، وإدخال أوزان ومكاييل محلية بدلاً عنها، وتبسيط النسب الموجودة بين المكاييل والموازين المحلية. ودرجوا على استخدام البذور وبعض الحبوب التي تمثل الواحدة منها وزنًا معلومًا مثل ؛ حبة الحمص و الخروبة و نواة التمر، وجعلوا حبة القمح الوحدة الصغرى للأوزان. وكانت أوزانهم كالتالي :
|
||||||||||||||
المكاييل الصيدلانية | ||||||||||||||
|