البيمارستان النوري الكبير في الشام كان من أهم البيمارستانات. |
كان يطلق عليها البيمارستانات، وكانت أحد المظاهر المهمة لتقدم الرعاية الطبية لدى المسلمين. وقد عرف العالم الإسلامي هذه المستشفيات منذ عهد الرسول ﷺ وبالتحديد إبان غزوة الخندق (5هـ، 627م) ؛ عندما أمر بضرب خيمة متنقلة للصحابية رفيدة بنت سعد الأسلمية، وكانت أول مستشفى حربيًا متنقلاً لتطبيب الجرحى. وعرف المسلمون نوعين من البيمارستانات: المتنقلة والثابتة. وكانت المتنقلة منها أسبق، وكانت تنقل من مكان إلى آخر في ضوء الحاجة إليها كانتشار الأوبئة أو بسبب الحروب كما حدث في غزوة الخندق. وكانت هذه البيمارستانات تجهز بمعظم مستلزمات المستشفى الثابت من حيث الأدوات والعقاقير والطعام والشراب والأطباء، وكانت تنقل من منطقة إلى أخرى حيث لا توجد بيمارستانات ثابتة. وبتطور شكل الدولة صارت تصحب الملوك والأمراء في رحلاتهم للقنص والحج وخلافهما. وبلغت ضخامة بعض هذه البيمارستانات أن كانت تحملها قافلة من الإبل مكونة من 40 جملاً. وكان السلطان الظاهر برقوق (ت 801هـ، 1398م) يصطحب مستشفى محمولاً كبيرًا جدًا. وظهرت فكرة المستشفيات المتنقلة بشكلها المنتظم في العهد العباسي ؛ ففي عهد الخليفة المقتدر تأسس أول مستشفى مدني متنقل ليعالج المرضى في شتى مناطق الخلافة.
أما المستشفيات الثابتة بشكلها المكتمل فقد عرفت لأول مرة في عهد الوليد بن عبدالملك (88هـ، 706م) وجعل فيها الأطباء وأجرى لهم الأرزاق، وأمر ببناء مستشفى لمعالجة المجذومين وحبسهم حتى لا يمدوا أيديهم بالسؤال، وخصص لكل ضرير دليلاً ولكل مُقعد خادمًا. وباتساع رقعة الدولة الإسلامية كثرت البيمارستانات الثابتة لا سيما في المدن الكبرى مثل بيمارستان هارون الرشيد في بغداد، وكان يرأسه ماسويه الخوزي، من أطباء بيمارستان جنديسابور. وكان بها أيضًا بيمارستان البرامكة، وكان يقوم بالطبابة فيه ابن دهني، وبيمارستان ابن طولون، وهو أول مستشفى من نوعه في مصر، وكان ممنوعًا فيه علاج الجنود والمماليك، وكان أحمد بن طولون يشرف بنفسه عليه ويزوره كل يوم جمعة. ومن أهم البيمارستانات التي أنشئت في مصر: زقاق القناديل، العتيق، القشايش، السقطيين، الناصري، الإسكندرية، الكبير المنصوري، والمؤيدي. ومن أهمها في الشام البيمارستان النوري الكبير، والقيمري، وآراغون، وأنطاكية، وحماة، والقدس، وعكا. وازداد عدد هذه البيمارستانات في عهد الأيوبيين والمماليك خاصة في الشام والعراق. ويعود ذلك إلى الظروف التي طرأت بسبب الحروب الصليبية، ولم تخل بلدة آنذاك من مستشفى متنقل أو ثابت.
مخطط للبيمارستان النوري |
وكانت هذه البيمارستانات فسيحة جيدة البناء وباحاتها الداخلية وأبهاؤها واسعة، وكانت تعتمد على الأوقاف في نفقاتها ؛ سواء ما ينفق على المرضى أو الأطباء أو الطلاب. وكانوا يسجلون هذه الأوقاف في حجج مكتوبة ينقشونها على حجارة للتأكيد على توثيقها. وكان الماء فيها جاريًا بصورة مستمرة، ولكل بيمارستان رئيس يطلق عليه ساعور البيمارستان، ولكلّ قسم رئيس ؛ فهناك رئيس للجرائحية (الجراحين) ورئيس للكحالين ورئيس للأمراض الباطنة.
وألحقت بكل مستشفى شرابخانة (صيدلية) سميت في عصور لاحقة أجزخانة، لها رئيس يسمى المهتار ؛ أي الشيخ الصيدلي، يساعده غلمان يطلق على كل واحد منهم شراب دار. وكان لكل بيمارستان ناظر يشرف على الإدارة. ومن الوظائف المهمة في البيمارستان رئيس الأطباء، ويرأس مجموعة الأطباء، ويأذن لهم بالتطبيب، ويحدد لهم مواعيد تناوب العمل، ويحدد لكل طبيب موعدًا معلومًا لزيارة القاعة التي يعالج فيها مرضاه. وتأتي بعد وظيفة رئيس الأطباء وظيفة رئيس التخصص ؛ كرئيس الكحالين الذي يرأس أطباء العيون وسلطته عليهم كسلطة رئيس الأطباء، ورئيس الجرائحية الذي يرأس الجراحين ومجبري العظام. وكان هؤلاء الأطباء مقدمين، يكرمهم الخلفاء والأمراء والوجهاء ويغدقون عليهم، ولم يمنع هذا الإكرام الكثيرين من العمل في البيمارستانات احتسابًا لوجه الله.
إلى جانب الصيدلية الملحقة بالبيمارستان، كان لكل بيمارستان حمام عام ومكتبة، ومكان يخصص لرئيس الأطباء يقوم فيه بإلقاء الدروس على الطلاب. وكانت هذه البيمارستانات تستقبل المرضى من مختلف الأجناس والطبقات من الذكور والإناث، من المسلمين وغيرهم، وتوفِّر للمريض إقامة كاملة تتضمن المأوى والطعام إلى جانب الرعاية الطبية دون مقابل. والمتَّبع في هذه البيمارستانات أنه بمجرد السماح للمريض بالدخول، تنزع ثيابه وتحفظ في مكان خاص إلى أن يخرج معافىً، ثم يمنح ثيابًا أخرى نظيفة، ويظل فيه إلى أن يبرأ تمامًا. وعلامة ذلك أن يستطيع أكل رغيف كامل من الخبز وفرُّوج (دجاجة) ثم يخرج برازًا كاملاً. بعد ذلك يعطى صدقة البيمارستان ؛ ثوبًا وبعض المال، حتى يخلد إلى الراحة في فترة النقاهة ولا يضطر للعمل.
كانت البيمارستانات بمثابة مستشفيات تعليمية، يتلقّى فيها طلاب الطب علومهم. فبعد أن يتفقد الطبيب مرضاه ومعه طلابه، يأتي إلى إيوان خاص مزوّد بكل الآلات والكتب ثم يلقي عليهم دروسه أو يناقش معهم بعض الحالات التي وقفوا عليها. وكان بعض كبار الأطباء يجعل له مجلسًا عامًا في منزله أو في المدارس الخاصة لتدريس الأطباء الجدد.
كان اختيار مواقع هذه المستشفيات يتم بعد البحث والتقصي لتشييدها في أكثر الأماكن ملاءمة من حيث المناخ ؛ فيذكر أن عضد الدولة لما طلب من الرازي اختيار موضع يقيم عليه البيمارستان العضدي في بغداد، أمر الرازي أن تعلّق قطع من اللحم في وقت واحد في أماكن مختلفة من المدينة فأيها أسرع إليه الفساد تركوه لسوء هوائه.