الطب والصيدلة والهندسة والفلك وغيرها من العلوم التي عُني بها العرب بعد فترة الترجمة. |
بدأت العلوم البحتة والتطبيقية عند العرب والمسلمين بحركة الترجمة التي نشطت في أواخر القرن الأول الهجري، الثامن الميلادي، واستمرت في الازدهار والعطاء حتى بداية القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي. ولم يكن العرب في ترجمتهم لتراث الأمم التي أخذوا عنها العلوم الطبيعية نَقَلَةً جامدين، لكنهم أضافوا إليها كثيرًا، وجعلوا ما توصل إليه غيرهم مقدمة أساسية لأبحاثهم. وقد أبدعوا في بعض العلوم. وكانت بواعث ذلك ما بثّه الدين الإسلامي من أفكار، وما أحدثه في نفوس معتنقيه من حب العلم والتأمّل في الكون، إضافة لتشجيع الحكام الذين أحبوا العلم وأكرموا العلماء على الإبداع. ثم إن الفتوحات الإسلامية كانت عامل التقاء بين الثقافة العربية وثقافات الشعوب التي دخلت الإسلام. كما أن حاجة العرب إلى علوم ليست عندهم جعلتهم يقبلون على الترجمة. وحيث إن العلم من توابع الاستقرار والحضارة، فما أن استقرت الدولة العربية الإسلامية وازدهرت سياسيًا واقتصاديًا حتى اتجهت النفوس إلى الحركة الفكرية ؛ فتُرجمت الكتب الإغريقية والفارسية والسريانية والقبطية والكلدانية، ونُقلت ذخائرها في العلوم إلى العربية. وبلغت الترجمة أوجها في عهد المأمون (198ـ 218هـ، 813 ـ 833م) الذي كان يقبل الجزية كتبًا، ويدفع وزن ما يترجم ذهبًا.
كان بيت الحكمة في بغداد، والجامع الأموي في دمشق، والجامع الأزهر بمصر، وجامع القيروان في تونس، وجامع القرويين في المغرب، وجامع قرطبة في الأندلس، والجامع الكبير في صنعاء منارات للعلم يفد إليها الطلاب من كل مكان. وتخرج في هذه الصروح العلمية عدد كبير من العلماء تميزوا بغزارة الإنتاج في العلوم والفنون.
تنقسم العلوم التي اشتغل بها العرب إلى علوم أصيلة وعلوم محدثة ؛ فالأولى نشأت في ظل دولة الإسلام وعلى أيدي العرب أنفسهم، أما الثانية فتلك التي نشأت خارج البيئة العربية، ثم دخلت في بلاد الإسلام وطوّرها العلماء.
عُني العرب بكل العلوم المحدثة من طب وصيدلة وكيمياء وفيزياء وعلوم رياضية وعلوم الأحياء وعلوم الأرض وفلك وجغرافيا.
ولكي يطلع العرب على هذه العلوم كان طبيعياً أن ينقلوها من لغاتها الأصلية إلى لسانهم. وكان أول نقل قد تم في عهد خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ،704م)، إلا أن حركة الترجمة لم تتسع إلا في العصر العباسي، ولا سيما في عصر المأمون. وقد أسهم المترجمون كثيرًا في تكوين المصطلح العلمي والفلسفي الذي لا يزال بعضه مستخدمًا حتى الآن. وكانت الترجمة تتم في بادئ الأمر من اللغة الأصل إلى السريانية ومنها إلى العربية، ثم في مرحلة لاحقة صارت مباشرة من اللغات الأصل إلى العربية. وكان المترجمون نوعين: سريان ومسلمون ؛ فكانت أغلب نقول السريان من اللغة اليونانية أو السريانية، أما المسلمون فقد كانوا يترجمون مباشرة من الفارسية أو الهندية وغيرهما إلى العربية. ومن أبرز هؤلاء المترجمين في مجال الترجمة العلمية: ماسرجويه ويسمى أحيانًا ماسرجيس وقد نقل موسوعة طبية يونانية تسمى الكُناش، وأبو يحيى البطريق (ت 800هـ، 1397م) وقد ترجم كتاب الأربع مقالات في علم النجوم لبطليموس وكتاب النفس والحيوان لأرسطو. وآل بختيشوع ومنهم جورجيس ابن جبريل (ت 771هـ، 1369م) وقد ترجموا الكتب الطبية، وكذلك آل حنين، وفي مقدمتهم حنين بن إسحاق (ت 260هـ، 873م) الذي ترجم سبعة من كتب أبقراط ومعظم أعمال جالينوس الطبية، وآل قُرَّة، وأبرزهم ثابت بن قرة (ت 288هـ، 901م)، وقد ترجم سبعة من كتب أبولينوس الثمانية في المخروطات، ونقل كتاب جغرافية المعمور وصفة الأرض لبطليموس، وقسطا ابن لوقا البعلبكي (ت 311هـ، 923م) الذي نقل كتبًا كثيرة من أهمها كتاب الحيل وكتاب أوطولوقس، ومحمد بن إبراهيم الفزاري (ت 800هـ، 1397م) الذي ترجم أهم كتب الفلك من اللغة السنسكريتية. وسترد في المقالة أسماء كثير من هذه الأعمال وغيرها من المؤلفات.
بعد أن تمت عملية النقل واستقرت أحوال الدولة العباسية اقتصاديًا واجتماعياً وعسكريًا، برز في ظل هذا الاستقرار علماء ومفكرون أبدعوا في شتى مجالات المعرفة منطلقين مما نقل من معارف الأمم الأخرى. وجاء وقت أعمل فيه العرب أفكارهم فيما نقلوه من نظريات وغيرها ولم يتقبلوها مباشرة، بل أخذوها بحذر شديد بعد أن صارت لهم طرقهم الخاصة التي تعتمد على التجربة والملاحظة التي اعتبروها حجر الزاوية لدراسة العلوم الطبيعية. وقد كان لأسلوب الجرح والتعديل الذي اتبعه علماء الحديث في تنقية الحديث وتمييز الصحيح من الموضوع أثر كبير في توجيه منهج المسلمين في البحث العلمي ؛ لذا نجد أن العلماء المسلمين في شتى ميادين المعرفة جعلوا البرهان دليلاً وشاهدًا. فالدعوة إلى الإنصاف وإلى الحق والصدق والمعرفة كانت من صميم مقدمات أعمالهم، ولم يكن تفكيرهم العلمي يختلف كثيرًا عن المنهج العلمي الحديث. فهذا جابر بن حيان (ت 200هـ، 815م) شيخ علماء الكيمياء المسلمين يدعو إلى الاهتمام بالتجربة ودقة الملاحظة فيقول: ¸إن واجب المشتغل في الكيمياء هو العمل وإجراء التجربة، وإن المعرفة لا تحصل إلا بها·. وقد سلك الحسن بن الهيثم الطريقة المثلى في إجراء البحث العلمي وقال بالأخذ بالاستقراء والقياس والتمثيل، وضرورة الاعتماد على النمط المتبع في البحوث العلمية الحديثة فيقول: "يبدأ في البحث باستقراء الموجودات وتصفّح أحوال المبصرات وتمييز خواص الجزئيات، ويلتقط باستقراء ما يخص البصر حال الإبصار، وماهو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه في كيفية الإحساس، ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والتدريب، مع انتقال المقدمات والتحفظ في الغلط في النتائج...".
أثناء وبعد حركة الترجمة ألف المسلمون في كل ضرب من ضروب المعرفة وفي كل الفنون، ولم يكتفوا بنقل التراث العلمي للأمم الأخرى، بل أضافوا له وزادوا عليه، ثم كانت لهم ابتكاراتهم الجديدة التي سنتناول كلا منها في موضعه من هذه المقالة.
للوقوف على منجزات العرب والمسلمين في العلوم، ليس من المنطقي أن ننظر إلى منجزاتهم من خلال المكتسبات والمعطيات العلمية الحديثة، وإنما من خلال العصر الذي عاشوا فيه ومن جاورهم من أمم، وفي ضوء الإمكانات التي كانت متاحة إذ ذاك، والإسهام الذي أسدوه لجيلهم ولأجيال لحقتهم وما أضافوه لحضارة وعلم تلك الأجيال. هناك ظروف توافرت أدَّت إلى تفوّق العقلية العربية الإسلامية، كما توافرت ظروف مضادة أدّت إلى اضمحلال الفكر الإسلامي. ومن العوامل التي ساعدت على التفوق العلمي في ذلك العصر: 1- دعوة القرآن الكريم وأحاديث النبي ﷺ إلى طلب العلم والحثّ عليه. 2- حرية الرأي العلمي ؛ فلم يتعرض عالم من علماء العلوم البحتة أو التطبيقية لمحنة بسبب رأيه العلمي و 3- رعاية الحكام والولاة للعلماء، والإنفاق عليهم بسخاء، بل كان من بين الحكام علماء و 4- اعتزاز العلماء بعلمهم فلم ينزلوا بنفوسهم إلى الاستجداء بالعلم و 5- الاستعداد الذهني والصبر والأناة في ظل الوفرة الاقتصادية. وكان من جراء ذلك أن تهيأ المناخ للعلماء لتقديم أفضل ما يمكن بما هو متاح من الوسائل.
الطب
كانت للعرب في الجاهلية تجاربهم في الطب، وقد أضافوا إليها ما اكتسبوه من الأمم المجاورة كالفرس والهنود وغيرهم. وقد انتهجوا طريقتين للعلاج أولاهما الكهانة والعرافة، والثانية ما خبروه من عقاقير نباتية إضافة إلى الكي والحجامة والفصد. ومن أبرز أطباء الجاهلية زهير الحِمْيري، وابن حزيم، والحارث بن كلدة صاحب كتاب المحاورة في الطب، والنضر بن الحارث. أما في الإسلام، فقد بدأ الطب يتأثر رويدًا رويدًا بالطب المحدث بدءًا من العصر الأموي ؛ إذ أخذ العلاج يتأثر بالطب الإغريقي، ومن أشهر الأطباء في ذلك الوقت ابن أثال والحكم الدمشقي وعبدالملك الكناني طبيب عمر بن عبدالعزيز. وقد علا شأن الطب في عهد الدولة العباسية بزيادة احتكاك العرب بالأمم الأخرى التي فتحوا بلدانها، واستقدم الخلفاء أفضل الأطباء منهم مثل جورجيس بن بختيشوع وابنه جبريل، ويوحنّا بن ماسويه، وقد اشتهروا بجانب كونهم أطباء بنبوغهم في الترجمة والتأليف. ومع تقدم الزمن ظهر نوع مما يمكن أن نسميه حاليًا بالتخصص في تناول فروع الطب المختلفة كالطب الجراحي، وطب العيون، وطب الأطفال وعلم التشريح، والطب النفسي، وما يتبع ذلك من تطور في طرق العلاج وبناء المستشفيات.
بعض أدوات جراحية اكتشفت في موقع الفسطاط. |
عُرف هذا الفرع من الطب عند الأقدمين من المسلمين بأسماء عدة منها: عمل اليد، وصناعة اليد، وعلاج الحديد لما يدخل فيه من استخدام أدوات تصنع من الحديد. وكان يطلق على من يزاول هذه المهنة اسم جرائحي أو دستكار ؛ وهي كلمة فارسية الأصل أخذت من (دستكاري) وهي ترجمة للكلمة العربية التي تعني عمل اليد، أما الطبيب غير الجراح فكان يطلق عليه الطبائعي. وعلى الرغم من أن العرب ذكروا أنهم استقوا علمهم في الجراحة من الهند وبلاد فارس، فإن معظم ما نقلوه كان من اليونان، ومن ثم أبدعوا فيه. وهم أول من فرّق بين الجراحة وغيرها من الموضوعات الطبية، وألزموا الجراح أن يكون ملماً بعلم التشريح ومنافع الأعضاء ومواضعها. وكانوا يؤكدون على حاجة المشتغلين بالطب إلى تشريح الأجسام حية وميتة، وقد شرّحوا القرود كما فعل ابن ماسويه. وكانت معرفة الجراحين المسلمين بكتاب جالينوس المعروف بقاطاجانس في الجراحات والمراهم أمرًا إلزاميًا.
من إبداعات العرب في مجال الجراحة أنهم أول من تمكّن من استخراج حصى المثانة لدى النساء ـ عن طريق المهبل، كما توصلوا إلى وصف دقيق لعملية نزف الدم وقالوا بالعامل الوراثي في ذلك، حيث وجدوا أن بعض الأجسام لديها استعداد للنزف أكثر من غيرها، وتابعوا ذلك في عائلة واحدة لديها هذا الاستعداد وعالجوه بالكي، كما نجحوا في إيقاف الدم النزيف أيضًا بربط الشرايين الكبيرة. وأجروا العمليات الجراحية في كل موضع تقريبًا من البدن ؛ وكتبوا عن جراحة الأسنان وتقويمها وجراحة العين. وبرعوا في قدح الماء الأزرق من العين، وكانت هذه العملية أمرًا يسيرًا ونتائجها مضمونة. وذكروا أكثر من ست طرق لاستخراج هذا الماء من العين منها طريقة الشفط. وأجروا العمليات الجراحية في القصبة الهوائية، بل إن الزهراوي (ت 427هـ، 1035م) كان أول من نجح في عملية فتح الحنجرة (القصبة الهوائية) وهي العملية التي أجراها على أحد خدمه. ويقول الرازي في هذا الصدد: "العلاج أن تشق الأغشية الواصلة بين حلق قصبة الرئة ليدخل النَّفَس منه، ويمكن بعد أن يتخلص الإنسان وتسكن تلك الأسباب المانعة من النَّفَس أن يخاط ويرجع إلى حاله، ووجه علاجه أن يمد الرأس إلى الخلف ويمد الجلد ويشق أسفل من الحنجرة ثم يمد بخيطين إلى فوق وأسفل حتى تظهر قصبة الرئة… فإذا سكن الورم، وكان النَّفَس فَلْيُخَطْ ويمسك قليلاً واجعل عليه دروزًا أصغر". كما شرحوا الطريقة التي يستطيع بها المصاب بحَصََر البول، ومن يتعذَّر عليه الإدرار ؛ بأن تجرى له جراحة كي تركب له قثطرة. ولعل العرب كانوا من أوائل من أشاروا إلى ما يسمى الآن بجراحة التجميل، وقد بينوا كيفية هذه الجراحة في الشفة والأنف والأذن حينما تطرأ عليها الضخامة من نتوء بارز أو قطع، بحيث تعود هذه الأعضاء إلى حالتها الطبيعية فيرتفع القبح الناشئ عن اللحمة الزائدة. وكما أن الطب الجراحي الحديث لا يلجأ للجراحة إلا إذا كانت هي الحل الأخير، فكذلك كان يفعل الجراحون العرب ؛ فما كانت الجراحة عندهم إلا كالشر الذي لابد منه. من ذلك ما نجده في قول الرازي في كتابه محنة الطبيب: "متى رأيت الطبيب يبرئ بالأدوية التي تعالج بعلاج الحديد والعملية الجراحية مثل الخراجات والدبيلات واللوزتين، والخنازير واللهاة الغليظة والسلع والغُدد… فمتى أجاد الطبيب في جميع هذه ولا يحتاج في شيء منها إلى البط والقطع إلا أن تدعو لذلك ضرورة شديدة فاحمد معرفته"، ومن ثم سار المثل: آخر الدواء الكي. كما مارس الجراحون العرب إجراء العمليات الناجحة في البطن، والمجاري البولية، والولادة القيصرية، وتجبير الكسور، والخلع، وعمليات الأنف والأذن والحنجرة، وكانوا يخيطون الجروح خياطة داخلية لا تترك أثرًا ظاهرًا من الجانب الخارجي. وخاطوا مواضع العمليات بخيط واحد باستخدام إبرتين، واستخدموا الأوتار الجلدية وخيوطًا صنعوها من أمعاء القطط وحيوانات أخرى في جراحات الأمعاء ورتق الجروح ؛ إذ إن الجسم يمتصها دون أن تلحق به أذىً. وتوصلوا إلى أساليب في تطهير الجروح وطوروا أدوات الجراحة وآلاتها. وكان للجراحين العرب فضل كبير في استخدام عمليتي التخدير والإنعاش على أسس تختلف عما نقلوه من الأمم الأخرى.
أدوات الجراحة. لم يكتف الجراحون العرب بالأدوات التي نقلوها عن الأمم التي سبقتهم، بل اخترعوا آلات جديدة وطوروا تلك التي آلت إليهم من غيرهم. وذكر الكثيرون منهم ـ في ثنايا مؤلفاتهم ـ الأدوات التي استخدمت في عصرهم. ومن هذه المؤلفات، على سبيل المثال، الكتاب الذي صنفه الزهراوي التصريف لمن عجز عن التأليف، وابن القُف أبو الفرج بن يعقوب (ت685هـ، 1286م) عمدة الإصلاح في صناعة الجراح، وأبو الحسن ابن بطلان دعوة الأطباء. وقد اكتشفت بعض الآلات الجراحية أثناء الحفريات التي جرت في موقع الفسطاط التي أسسها عمرو بن العاص سنة 21هـ،641م. ومن هذه الأدوات: أولاً الدَّست وهو يشبه الحقيبة التي تحفظ فيها المباضع. وهذه المباضع أنواع تختلف أشكالها باختلاف الوظائف التي تؤديها ؛ فمنها مبضع شق الجلد وهو حاد الطرفين، ويستخدم في حالة فتح مكان في الجلد فوق الشرايين حتى يتمكن الجراح من ربطها. والمبضع المعطوف ؛ ويكون أحد طرفيه حادًا ويستخدم لاستئصال اللوزتين. ومن الأدوات التي استخدمت للوزتين المقطع ؛ ويشبه المقص بطرفيه المعطوفين، والمباضع الشوكية ؛ وهي نوعان:أحدهما يستخدم لبزل البطن في حالة الحبن (الاستسقاء، الورم) ليسمح بإدخال أنبوب دقيق لسحب الماء، وآخر يشق به الناسور. ومبضع فتح الأورام ؛ لاستخراج الصديد والقيح المتجمع فيها، وهو ذو نصل مستدير. والمبضع الأملس ؛ ويستخدم في قطع الظفرة (لحمة تنبت عند المآقي) من العين. ومبضع الأذن لقطع ما يسقط في الأذن من أجسام غريبة. ومبضع الشق العجاني، ويستخدم لشق العجان (وهو الدُّبر ومافوقه) لاستخراج الحصاة. ومبضع الفصد ؛ وهو مبضع عريض ذو نصل يشبه ورقة نبات الآس ؛ يستخدم لفصد العروق. والمبضع أملس الحافتين ؛ ويستخدم لفتح الأذن التي قد تسد إما من جراء جسم خارجي، أو لزائدة تنبت فيها.
إلى جانب المباضع توجد أدوات أخرى منها الصنانير، وهي أنواع أيضًا، منها البسيط ذو المخطاف الواحد، والمركب ذو المخطافين أو الثلاثة مخاطيف، وأخرى ذات ثلاث شوكات ومقبض واحد لشد الجلد. وصنانير خاصة بخلع بقايا السن المكسورة، طرفها مثلث الشكل فيها بعض الغلظ. أما بقايا جذور الأضراس المكسورة فكانت تخلع بأداة يدخلونها في السنخ فتخلعها. وتسمى هذه الأداة العتلة وهي ذات أشكال وأحجام مختلفة تحددها الوظيفة التي تقوم بها. ومن الأدوات الخاصة بخلع الأسنان والأضراس الكلاليب، ومنها ما يشبه مناقير الطيور تخلع الأضراس من أصولها. ومن الكلاليب ما يستخدم لاستخراج ما ينشب في الحلق من أجسام غريبة، وهي ذات أطراف معقوفة خشنة كالمبرد إذا لامست الجسم قلما تتركه. ومثلها مرْوَد الحلق ؛ وهو آلة يستخرج بها الشوك أو العظم وما شابههما من الحلق، وهي ذات طرف معقوف كالصنارة. وآلة كي اللهاة، وتشبه المرود وطرفها كالملعقة تملأ بمادة كاوية توضع على اللهاة.
أما الأنابيب فكانت تتخذ من الريش أو تصنع من الفضة والنحاس أو الحديد. ويعتمد ذلك على نوع الوظيفة التي يؤديها الأنبوب ؛ فهناك أنبوب لقطع الثملة ؛ وهي الزوائد اللحمية التي تظهر في الوجه والعنق، ويصنع من ريش الأوز أو النسور، ويوضع فوق الثملة ويشد عليها حتى يقطعها من أصلها. وهناك أنبوب هوام الأذن، وهو ذو فوهة ضيقة ونهاية واسعة يدخل إلى الأذن بمقدار يحتمله المريض ويشفط به شفطًا قويًا حتى تخرج الهوام. ومن هذا النوع أنبوب يعبأ بزيت دافئ يدفع ببطء داخل الأذن فتخرج الهوام، ويصنع من الفضة أو النحاس. وهناك نوع من الأنابيب يُبرى على هيئة القلم يصنع من الفضة أو النحاس به ثلاثة ثقوب: اثنان منها على جانب واحد تستخدم لبزل الماء في الحبن أو جذبه. وهناك نوعان من الجفت واحد لاستخراج العظام المكسورة من الفك، وآخر صغير دقيق يستخدم في استخراج الأجسام الدقيقة من الأذن. ومن الأدوات التي استخدمت للأذن أيضًا المجرفة ؛ وهي آلة كالمجرد (المكشط) لرفع الأجسام الغريبة منها. كما استخدموا القثاطر لتسهيل خروج البول من المثانة وطولها نحو شبر ونصف الشبر. وتصنع من الفضة المجوفة بحجم أنبوب ريش الطير.
ومن الآلات التي كانت تستخدمها القابلات في التوليد اللوالب ؛ وهي آلات تساعد في فتح فم الرحم وتصنع من الأبنوس، ويكون في طرف اللولب خشبتان عرض كل منهما نحو أصبعين وطولهما شبر ونصف، وفي وسط الخشبتين زائدتان تربطان فيهما تدخلان في المهبل ليفتح بها عند إدارة اللولب. كما استخدموا نوعًا من الصنانير ذات الشوكتين لجذب الجنين. ومنها أيضًا المشداخ وهو آلة يشدخ بها رأس الجنين ليسهل إخراجه من فم الرحم، ويشبه المقص وله أسنان كأسنان المنشار. ومنها أيضاً أداة تسمى المبخرة للتبخير بها عند احتباس دم الطمث والمشيمة، وتصنع من النحاس ويوضع طرفها الرفيع في القُبل والواسع على النار والبخور فوق الجمر. ومدفع الجنين وهو على شكل صنارة يشبك طرفه في الجنين ويدفع به إلى الأمام. واستخدموا المجارد (المكاشط)، وهي آلات تجرد بها الأضراس والأسنان لإزالة الكلس والسواد والصفرة عنها، وبعضها مصمم ليجرد به من الداخل وبعضها من الخارج وبعضها للجرد بين الأسنان والأضراس. ومن المجارد ما يستخدم لكشط العظام، وهي كالمبرد وتسمى المجارد خشنة الرأس، وكل المجارد تصنع من الحديد.
الجراحون العرب اخترعوا أدوات جديدة، وطوروا تلك التي آلت إليهم من غيرهم. |
استخدم الجراحون أدوات دقيقة لاستئصال الأورام والناسور أو لقطعها ؛ من ذلك البريد، وهو أداة كالمسبار تصنع من النحاس الأصفر أو الأبيض أو الرصاص، ويختلف حجمه وشكله باختلاف موضع الورم أو الناسور أو الخراج وحجمه. كما استخدموا المدس وهو آلة كالمرود لجس واستقصاء الأورام. وأنواع المدسات ثلاثة ؛ كبير ومتوسط وصغير، ووظيفة المدس أن يُدخل (يدس) في أرطب مكان، ويدار بلطف بين الأصابع ثم ينزع ويفحص ما خرج معه من أنواع الرطوبات. ومما استخدم في جراحة الأورام المشرط، وهو آلة تشق بها الأورام، وهي على ثلاثة أنواع: كبيرة ومتوسطة وصغيرة، وهي عريضة ذات طرفين أحدهما حاد يستعان به في شق الورم. وهناك المكبس المجوف ؛ وهو آلة تصنع من الفضة أو النحاس مسطحة، ووظيفتها كبس اللسان ليتمكن الجراح من رؤية الحلق وكشف أورامه. ومن الأدوات التي استخدموها في جراحة الناسور أيضًا المسبار المثقوب، كانوا يدخلون فيه خيطًا مفتولاً من خمسة خيوط ويربطون به أصل الناسور ويشدونه ويتركونه يومين أو ثلاثة حتى يسقط من تلقاء نفسه. ومن أدوات جراحة الأورام أيضًا الكاوية، وتشبه السكين المعوجة النصل، تكوى بها الأورام التي تنشأ في الأرجل كالفخذين والساقين والأقدام. وكذلك الكاوية المسمارية وتكوى بها بواسير الشرج والرحم. والكاوية الأنبوبية التي تكوى بها الأضراس وهي ذات أشكال متعددة، والكاوية الهلالية الطرف التي تكوى بها الفتوق، وكاوية البطن والكبد وكاويات قطع الشرايين وكاويات المفاصل. والكاوية الزيتونية ويكوى بها الفالج والصداع وعرق النَّسَا، إلى جانب كاويات تستخدم في الشقيقة وأمراض الكلى والمثانة وآلام الظهر.
أما في جراحة العيون والأنف والأذن والحنجرة، فقد استخدموا آلات عديدة. ومن ذلك أنهم استخدموا البريد وهو آلة شديدة الصلابة لثقب الملتحمة دون التعمق في الثقب، ومن ثم يستخدمون المقدح بعد إجراء الثقب. كما استخدموا القصبة في رفع جفن العين أثناء العملية. وكانت تتخذ قصبتان بطول الجفن وتشدان شدًا وثيقًا وتتركان مدة من الزمن حتى تموت الجلدة الزائدة وتسقط من تلقاء نفسها أو تقرض بالمقراض إن استغرقت مدة طويلة ولم تسقط. ومثل القصبة أيضًا مخالب التشمير، وهي آلات كالصنانير تستعمل أيضًا في رفع الأجفان. أما المقادح فهي آلات تشبه المباضع تستخدم في قدح الماء الذي يسيل من العين. كما استخدموا أنواعًا من المقصات في عمليات العيون منها الصغير الذي يستخدم لقطع ما يبقى من الجلد في عمليات الجفون ومقص التعقيم الذي تطهر به جروح العين بعد العملية. أما الشعر الذي ينبت في أشفار العين فكان يُتَخلص منه بوساطة كاوية يبلغ طولها نحو 15سم تسمى الكاوية الآسية لأن كيها على شكل ورقة نبات الآس. وكانت نواسير العين التي تنشأ في المآقي تزال بالكاوية المجوفة، أما استرخاء الجفن ومنطقة مافوق الحاجبين فكان يعالج جراحيًا بالكاوية الهلالية. كما استخدموا آلات الجراحة الرمدية ؛ كالمقص ذي الشفرة العريضة والمقراض الذي يلقط السبل من الإكليل، والمنقاش لقطع الثآليل، والملقاط لأخذ الشعيرات الزائدة. ولقطع اللحم الزائد في داخل الأنف استخدموا ما يعرف بالمخرط، كما استخدموا للأنف أيضًا المسعط وهو آلة تقطر الدهن في الأنف، وكان يتخذ من الفضة أو النحاس وهو مسطح ذو مقبض في نهايته. أما ناسور الأنف فقد استخدموا له المنقب، وطرفه حاد مثلث الشكل ومقبضه خشبي مخروط.
ومن الأدوات التي استخدموها في جراحة العظام البيرم ؛ وهي تشبه العتلة الصغيرة تصنع من الحديد طولها ثماني أصابع، أما عرضها فيختلف باختلاف حجم الجروح والعظام، وتستخدم لرد العظام المكسورة الناتئة على الجلد وتسويتها. ومنها خشبة الرأس ؛ وكانوا يزيلون بها العظم الفاسد ؛ وهي ذات رأس مدوَّر وتصنع من الحديد الصلب، وتوضع على الموضع المراد إزالته وتدار حتى يكشط الجزء الفاسد. كما استخدموا نوعًا من المثاقب لثقب العظام بحيث لا يتجاوز عظم القحف إلى الجهة الأخرى، ومن هذه المثاقب الكبير والمتوسط والصغير. ولتسوية خشونة ما يبقى من عظام استخدموا آلة تسمى المقطع العدسي. إلى جانب الأدوات السابقة استخدم الجراحون العرب أدوات أخرى كثيرة.
التخدير والإنعاش. لم تقتصر إضافات العرب في مجال الطب الجراحي على إجراء عمليات لم يُجر مثلها من قبل، واستحداث أدوات جراحية جديدة فحسب، بل إنهم طوروا ما وصل إليهم من علم التخدير والإنعاش ممن سبقهم، ثم اكتشفوا طرقًا أخرى أضافوها لهذا العلم. إن التخدير العام بالاستنشاق أو بالحقن لم يعرف إلا منذ وقت قريب نحو سنة 1260هـ، 1844م. وما انتقل إلى العرب من محاولات التخدير لا يعدو أن يكون واحدًا من ثلاثة أشياء: 1ـ السحر والشعوذة 2ـ التبريد 3ـ إعطاء جرعات من مزيج مخفف للألم عن طريق الفم. ويعود الفضل إلى العرب في اكتشاف المرقِّد (المبنج) العام. وهناك من القرائن ما يدل على أن العرب كانوا أول من استعمل التخدير عن طريق الاستنشاق. وكان ذلك يتم عن طريق الإسفنج المخدر ؛ فكانت توضع قطعة من الإسفنج في عصارة من الحشيش والأفيون والزُّؤان، ثم تترك في الشمس لتجف ثم تحفظ. وقبيل بدء العملية تخرج وترطب ثانية، وتوضع فوق أنف المريض وفمه، فتمتص الأنسجة المخاطية المبنجات، فيخلد المريض إلى نوم عميق أثناء إجراء العملية الجراحية. وكان هذا الاكتشاف فتحاً في مجال الطب الجراحي وأكثر رحمةً من المشروبات المسكرة التي استخدمها الهنود والرومان والإغريق، وكانوا يجبرون مرضاهم على تناولها كلما أرادوا تخفيف آلامهم.
وإلى جانب اكتشافهم الكبير، وهو استخدام المرقِّد، جرب العرب أدوية مبنجة أو مخففة للألم لأولئك الذين يخضعون أو خضعوا للعمل الجراحي. من ذلك اللُّفَّاح ؛ وهو نوع من النبات غليظ الجذر أصفر طيب الرائحة، كما استخدموا القنب الهندي (الحشيش)، والشوكران ؛ وهو عشب سام ذو رائحة غير مقبولة إذا فُرك بالأصابع، والخشخاش ؛ وأنواعه كثيرة، والبنج ؛ وينتمي إلى الفصيلة الباذنجانية ومعروف بخواصه المبنجة، وحشيشة ست الحُسن. وعلى الرغم من أن مادة الإِثير أدخلت إلى حقل التخدير الاستنشاقي بشكل منتظم منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، فإننا لا نعرف على وجه التحديد أول من اكتشف هذه المادة. إلا أن هناك من القرائن ما يشير إلى أن الفضل في ذلك يعود إلى العرب ؛ فالعرب هم الذين اكتشفوا مادة الغول، وهم الذين اكتشفوا حمـض الكبريتيك (الزَّاج الأخضر). ثم أنهم أجروا تفاعلات وعمليــات تقطير بين الغول وحمض الكبريتيك، مما يقوي احتمال أن يكون العرب أول من اكتشف هذه المادة المهمة في التخدير. ولا غرو فإنهم اكتشفوا مادة الكحول وهي المادة الرئيسية لكل المبنجات السائلة والطيّارة المستخدمة في مجال التخدير حاليًا.
أما الإنعاش وإن لم يكن للعرب فيه خبرة واسعة إلا أنهم قد عرفوا مبادئه. فكانوا يدفعون كميات من الهواء عبر الرئتين بالضغط المتناوب، واستخدموا في ذلك المنفاخ. وتدلنا على ذلك القصة التي أوردها ابن أبي أصيبعة في كتاب طبقات الأطباء ؛ وذلك أنه لما جاء نعي إبراهيم بن صالح، ابن عم الرشيد، استأذن الطبيب صالح بن بهلة الدخول على إبراهيم وهو في أكفانه ثم ما لبثوا أن سمعوا صوت ضرب بدن بكف ثم تكبيرًا، ثم استدعى صالح الرشيد وأخرج إبرة فأدخلها تحت ظفر إبهام اليد اليسرى للميت فجذب إبراهيم المسجّى يده إلى بدنه، فطلب الطبيب أن يجردوه من كفنه وطلب كندسًا (نوع من الدواء) ومنفخة من الخزانة، ونفخ في أنف إبراهيم لمدة ثلث ساعة، فاضطرب بعدها بدنه وعطس ثم هبّ مستيقظًا.