لو عاش أهل الأرض بأذهان الصوفيين لما حققوا شيئا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • لو عاش أهل الأرض بأذهان الصوفيين لما حققوا شيئا

    لو عاش أهل الأرض بأذهان الصوفيين لما حققوا شيئا


    التصوف الإسلامي دعوة إلى الفقر لا تخلو من منجزات فنية هامة.
    الأحد 2024/04/14

    إذ أردت التصوف فتصوَّفْ كالملوك لا كالعبيد

    انتشر التصوف الإسلامي بشكل واسع، خاصة في العقود الأخيرة، ورغم ما له من معان يرددها المتصوفون، فإن ذلك لا يخفي الكثير من العيوب التي تشوب التيارات الصوفية، وهو ما حلله سابقا وبشكل واف الأكاديمي زكي مبارك في كتابه “التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق” متناولا أيضا العلاقة بين التصوف والأدب والفلسفة.

    يرى الأكاديمي زكي مبارك (1892 – 1952) أن السياسة الصوفيَّة أضرَّت من وجه، وأحسنت من وجوه، أضرَّت حين قصرت الشخصية الخلقية على الحياة الفردية، وقضت بأن يصم الرجل أذنيه في أكثر الأحيان عما يجري في المجتمع من أخبار الجِد والإبداع، وأحسنت حين ربطت مصير الفرد بمجاهدة الأهواء، ومحاربة الشهوات، وأقنعته أن لا غنى له عن ترقب الفيض الإلهي في جميع اللحظات، وراضته على احتقار المغانم الدنيوية، والإيمان بأن المغنم الحق هو الاتصال بالمبدع الأول الذي وهب الروح لكل موجود، وصيَّر العالم كتلة من الكهرباء.

    يوضح مبارك في كتابه “التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق” – الذي ناقشه كأطروحة علمية للحصول على درجة الدكتوراه عام 1937 – أن التصوف الإسلامي هو في حقيقته ظلٌّ من ظلال المسيحية، هو هروب مطلق من الدنيا ومن الجاه ومن المال. ويؤكد أن الصوفية هم الذين جعلوا المسلمين آخر الشعوب، وهم الذين قضوا عليهم بالاستعباد، وهم الذين أوردوهم موارد الذل والضيم والهوان.
    مظاهر الصوفية


    يشير المؤلف إلى أن الدعوة إلى الفقر هي السوس الذي قضى على عظام المسلمين، وجعلهم من أذل الشعوب بعد أن كانوا من أقوى الأعزاء.

    ويرى أن أهل الأرض لو عاشوا بعقول الصوفية وأوهامهم وأغلاطهم لما استطاع الإنسان أن يسخر البرق والماء، لو عاش أهل الأرض بأذهان الصوفية لما كانت هذه النعم التي يمرح فيها أهل الشرق والغرب، لو عاش أهل الأرض بأذهان الصوفية لما كانت هذه الوثبات التي يموج بها العالم السياسي فيقيم قناطر من الخير على بحار من الدماء. الصوفية قوم كسالى وادعون، ذهب بهم الجوع إلى أودية الموت.

    وعلى الرغم من كل ذلك يدعي زكي مبارك أنه متصوف، ولكنه استقى تصوفه من مورد الحياة، هو تصوف حق يقوم على أساس الحق، فإن كان التصوف القديم هو الزهد، فالتصوف الجديد هو الإخلاص المطلق في حب الحياة والفوز والمجد.

    إن التصوف الذي يدعو إليه مبارك هو: الشره الشريف على فهم ما في الدنيا من خير وشر، وجمال وقبح، وحق وزيغ، هو أن تكون قوة كاشفة قاهرة تستوعب أسرار الوجود، ثم تسخره لخدمة الإنسان والحيوان، هو أن تجعل الدنيا فردوسًا يذكر بما وعدت به من نعيم الفراديس، هو أن تكون غنيًّا بعقلك وجهدك وخلقك فلا يكون لمخلوق فضل عليك، هو أن تكون شبيهًا بربك في كرمه وغناه.

    كتاب "التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق" لم يؤلف لشرح التصوف ولا لتأريخه وإنما لبيان تأثيره في الأدب والأخلاق

    هو لا يريد للرجل أن يتصوّف تصوف العبيد، وإنما يريد أن يتصوّف تصوف الملوك. إن أدب الصوفية في ذم الغنى ومدح الفقر، يحمل صورًا طريفة من أحوال النفوس والقلوب، ونرى أنفسنا أمام صروح عالية من مكارم الأخلاق.

    إن الصوفية الصادقين لا يؤثرون الفقر إلا فرارا من المال المشوب بالشبهات. والخوف على النفس والقلب والضمير من أدناس الحرام هو خوف نبيل لا يستشعره غير صحاح القلوب. وما أسعد من ينفرون من الحرام، ولا يأنسون بغير الحلال.

    ويظهر أن الصوفية كانوا فريقين: فريقًا يبالغ في الإقلال من الطعام، ويروض نفسه على الجوع، وفريقًا يتسامح بعض التسامح فيوسع على نفسه بأكل ما يصل إليه من أطعمة السلاطين والأمراء. ولكن الحال الغالب عليهم هو الحرمان.

    وكان فيهم من يحرص على خبز الشعير، ويتجنب ترف الاستحمام. وإيثار الشعير له معناه، فهو في خشونته من حيث المطعم يناسب الصوف في خشونته من حيث الملبس، وإذا التقت خشونة الطعام وخشونة اللباس، مع هجر الحمَّام نشأت عن ذلك صورة شعثاء لا يتمثلها الرجل المترف إلا بعنف شديد.

    أما الجانب الآخر فهو الخطر الذي يهدد من يكتفون بالطعام الخشن القليل. إن الجوع يقتل الحيوية، ويروض الجائع على صغر النفس، وموت العزيمة، وانحلال الشخصية. ولا يمكن لرجل يكتفي بأكلة واحدة في الأسبوع أن يكون من رجال الأعمال.

    عقل العصر الحاضر يميل أشد الميل لدراسة التصوف، وهي ظاهرة حسنة تبشر بإقبال الناس على المعاني الروحية

    ويتساءل مبارك ما الذي يحمل المرء على التفكير في عظائم الأمور وهو يعيش في العام بدراهم معدودات؟ ويرى أن الصوفية فتنوا العالم الإسلامي، وأضروا به حين حببوا إليه الظمأ والجوع. ويتساءل أيضا: هل الحرمان الذي كاد يلتزمه الصوفية عاد بشيء من النفع على قواعد الأخلاق؟

    إنا نراهم يتحدثون عن رياضة النفس على الجوع باهتمام شديد، وهو آية الحرص على الطعام لو يعلمون.

    الصائم – في نظر الصوفية – يبطل صومه بالفكر فيما سوى الله عز شأنه واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين بعد ذلك من زاد الآخرة. ويرون وقوف الصيام عند الجوع والعطش غاية سوقية لا يتسامى إليها أرباب القلوب. فالصوم عندهم صوم النفوس لا صوم البطون، الصوم الأعظم هو الكف عن إيذاء الناس.

    إن الصوفية قوم لم يشغلهم الحرام والحلال، وإنما انغمست أرواحهم في لطف الغناء فكانت أحاديثهم وأناشيدهم ترتيلات قدسية لا يدرك أسرارها غير أرباب القلوب.

    وهو يرى أن اهتمام الصوفية بالجمال ساقهم إلى فنون ممتعة من صور الأدب والأخلاق. وهم وضعوا طرائق للرياضة النفسية تعد من أبدع الدساتير في عالم الأخلاق.

    ويرى مبارك أنه ليس من المبالغة أن نحكم بأن الصوفية تفردوا بين أهل الأدب والأخلاق بالتجويد في الموسيقى والغناء، فهم الذين نظروا في ذلك نظرًا فلسفيًا، وهم الذين جعلوا الموسيقى والغناء من المشاكل الخلقية، وهم الذين صيروا إنشاد الشعر في المحافل العلنية بابًا من الأدب الرفيع. وينبغي أن نتذكر أن الصوفية تفردوا بين رجال الدين بالتشيع للموسيقى والغناء. واهتمام الصوفية بالغناء عاد على الأدب بكثير من النفع؛ فهناك مجموعات شعرية وضعت لحفظ الأناشيد الصوفية، منها “سفينة النجاة”.

    ومن ناحية أخرى يرى زكي مبارك أن التصوف نفسه من مظاهر الضعف، والرجل لا يتصوف إلا حين ييأس؛ لأنه بفطرته حيوان مفترس لا ينتظر المجهول من حظوظ النفس، وإنما يصاول ويفتك ليظفر بحظوظ الأمراء والملوك.
    المعاني الروحية




    يحدثنا زكي مبارك عن الإمام عبدالوهاب الشعراني (898 هـ – 973 هـ) الذي سلك مسالك الصوفية في أكثر مؤلفاته، فتجوَّز في الألفاظ والمعاني، ودخل إلى قلوب القراء بأساليب لا تخلو من فتون، ولكن الخطر عند الشعراني يخالف الخطر عند محيي الدين بن عربي؛ فالذي يؤمن بكل ما أشار به الشعراني يخرج وهو مخبول، والذي يؤمن بكل ما أشار به ابن عربي يخرج وهو زنديق، والفرق بعيد بين الزندقة وبين الخبال. فسذاجة الشعراني هي أصل ما يقع فيه من انحراف، ومكر ابن عربي هو أصل ما يقع فيه من ضلال.

    وعن المرأة في عالم التصوف نجد أن الصوفية يستحبون أن تكون دون الرجل بأربع: السن والطول والمال والحسب. وأن تكون فوقه بأربع: الجمال والورع والخلق والأدب.

    والصوفي يخاف ربه أشد الخوف، ويكره الشهوة أشد الكره، ولا يتقدم ولا يتأخر إلا وهو في حيطة وحذر من أحابيل المفاتن والصبوات.

    وكما يحترس الصوفية من شهوات البطن والفرج ويحترسون من آفات اللسان. فقد علمتهم التجارب أن اللسان يضر كما ينفع، وهدتهم عظات الأيام إلى أن اللسان قد يجر صاحبه إلى المخاطر والمعاطب.

    ويتساءل مبارك: متى يجيء رجل صوفي ينبه أهل هذا الزمان إلى خطر القلم، كما نبه الصوفية إلى خطر اللسان في الأيام الخالية؟ فقد كانوا يعرفون أن لا نجاة من خطر اللسان إلا بالصمت. وهم يذكرون أن عقبة بن عامر سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن النجاة فقال: أمسكْ عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك.

    ويتعجب زكي مبارك أن يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في وصية من استهداه: “وليسعك بيتك”؟ ويعلق قائلا: “تلك حكمة لا تخرج إلا من لسان رعاه الله واصطفاه”.

    إن الصوفية يخشون شر اللسان، ويستأنسون بقصة معاذ بن جبل عندما قال: يا رسول الله، أنؤاخذ بما نقول؟ فقال الرسول: ثكلتك أمك يا ابن جبل، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟

    الصوفية يبغضون الإفراط في المزاح والمداومة عليه؛ لأن ذلك يورث الضحك، وكثرة الضحك تُميت القلب وتورث الضغينة في بعض الأحوال، وتسقط المهابة والوقار

    وسيأتي يوم قريب جدا يتأدب فيه المسلمون جميعا بأدب الصوفية الذين يستنكرون تكفير مسلم أو تسفيهه بلا بينة ولا برهان.

    والصوفية يبغضون الإفراط في المزاح والمداومة عليه؛ لأن ذلك يورث الضحك، وكثرة الضحك تُميت القلب وتورث الضغينة في بعض الأحوال، وتسقط المهابة والوقار.

    والصوفية ينهون عن الوعد الكاذب، ويرون أن الكذب أقبح من الزنا. والصوفي يكره الكذب؛ لأنه ينافي شرف النفس. فالكاذب يعرف جيدا أنه كاذب، وهذه المعرفة تؤذيه أشد الإيذاء؛ لأنها تقتل ثقته بشرف النفس، وإذا انعدمت ثقة مخلوق بشرف نفسه فمصيره إلى الانحلال.

    أما عن الغيبة فإن الصوفية يحرمون الغيبة بالقلب، وهي سوء الظن. لأنها تفسد قلبك، وتشغل ضميرك، وتزعزع وجدانك، وتضيع صفاء نفسك. والواجب أن يخلو قلبُك خلوًّا تامًّا من كل سوء فلا يكون فيه غير صور الخير والجمال. وكفارة الغيبة هي الندم والتوبة والتأسف.

    وكان في نية زكي مبارك أن يعقد بابًا للفرق بين تصوف أهل السنة وتصوف الشيعة، ولكن عند التأمل لم ير موجبًا لهذه التفرقة، فالصوفية لا يعيرون هذا الخلاف كبير التفات، والخلاف بين أهل السنة والشيعة ليس خلافًا دينيًا كما يتوهم الأكثرون، وإنما هو في أغلب صوره خلاف سياسي. ويؤكد مبارك أنه من قال بغير ذلك فهو غافل أو جهول، ويوضح أن الصوفية من الشيعة يرون الإمام أبوحامد الغزالي من أساتذتهم وهو سني، والصوفية من أهل السنة يرون الحلاج من أساتذتهم وهو شيعي. وكتب التصوف تسكت عن هذه الفروق المذهبية؛ لأن للتصوف غاية تفوق ذلك.

    ويؤكد مبارك أن عقل العصر الحاضر يميل أشد الميل لدراسة التصوف، وهي ظاهرة حسنة تبشر بإقبال الناس على المعاني الروحية.
    الصوفية والفلاسفة



    يوضح مبارك الفرق بين الصوفية وبين رجال الأخلاق، فالفلاسفة يعللون ويحللون في حدود المنطق والعقل، أما الصوفية فيزيدون على ذلك ربط الشخصية الخلقية بالشخصية الدينية، فالوازع عند الفلاسفة هو العقل، والوازع عند الصوفية هو العقل والوجدان، ومراعاة الأدب مع الله ذي القوة والجبروت والجلال والجمال.

    إن كتاب “التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق” للدكتور زكي مبارك – الذي جاء في 674 صفحة – لم يؤلف لشرح التصوف، ولا لتأريخ التصوف، وإنما أُلف لغاية صريحة: هي بيان تأثير التصوف في الأدب والأخلاق. وقد أمضى فيه صاحبه تسع سنوات كان في أثنائها في حرب مع الناس ومع الزمان. وينقسم الكتاب إلى قسمين: التصوف في الأدب، والتصوف في الأخلاق. وأوضح أن التصوف الذي يتحدث عنه في هذا الكتاب هو الصدق في العواطف الدينية، الصدق الصادق الصدوق الذي لا يثنيه وعد، ولا يرهبه وعيد. وعلى ذلك فهو يرى أبا نواس الفاجر الفاسق الزنديق هو في بعض أطواره من الصوفية، فقد مرت به لحظات كان قلبه فيها أرق من الهواء وأطهر من الماء.

    وهو يرى أنه ليس من المستحيل أن يضل مثل ابن الفارض أو أن يهتدي مثل أبي نواس. ولكن جرت العادة أن تؤول هفوات الصالحين، وتنسى حسنات المذنبين.

    وهو يفرق في ذلك بين الشخصية الخلقية والشخصية الأدبية. ويوضح أن الغرض من تأليف كتابه هذا هو إبراز الملامح الأدبية والخلقية للنزعة الصوفية. ويشير إلى قِدم التصوف في الجزيرة العربية، ودلالة الصوف على الخشونة والتواضع، وصورة التصوف في الأخيلة الشعبية، والمرقعات (ترقيع الثوب) في البيئات الصوفية، وإيثار المسيح والرهبان لزي الصوفية. واحترام كلمة راهب في الأدب القديم، وهو ينقض الرأي القائل بنسبة الصوفي إلى الصفاء أو نسبته إلى (سوفيا) من اللغة اليونانية. كما يتحدث عن التصوف في الحب والمودة والولاء والسياسة، وعن الزهد في قلوب الأغنياء والفقراء، والفاسقين والمتقين.

    ويشير إلى اهتمام المؤلفين بأدب النسَّاك، وحرص الصوفية على الثقافة الأدبية، ثم يورد قائمة بشرح أهم مصطلحات الصوفية مثل: المريد والسالك والسفر والطريق والوقت والأدب والمقام والحال والقطب والأوتاد والأبدال والنقباء والنجباء والقبص والبسط والهيبة والصحو والسكر والذوق والشرب والمحو والإثبات والقرب والبعد والحقيقة والسحق والمحق والطوالع واللوامع والفتوح والوصل، وغيرها.

    وهو يتعرض لقضية الشعر عند النسَاك، ويتحدث عن دفاع خواص النسَّاك عن الشعر والغناء، ويجيب عن سؤال: كيف نفهم أدب الصوفية؟ ويضرب أمثلة بكلام الشعراء في الزهد، وخاصة الزهد بعد المجون، وإخلاص أبي نواس في ميادين اللهو والجد، ونوازعه الزهدية، ورأيه في الدنيا والناس، ويتحدث عن شعر أبي العتاهية، وبخله وحرصه على المال، واتهامه بالزندقة، وسخرية معاصريه من تزهده، وقلقه الروحي وحزنه على الشباب، وطريقته في نظم أشعار الزهد، ويعرض لصور من خوالجه الزهدية، وأخباره مع الرشيد، وأرجوزته المزدوجة، وقيمته الذاتية.

    اهتمام الصوفية بالجمال ساقهم إلى فنون ممتعة من صور الأدب والأخلاق ككتابة الشعر وتأليف الأهزج وغيرها

    ثم يحدثنا زكي مبارك عن الشريف الرضي، وأشعاره القبرية، ويقدم لنا نموذجا من شعره في الزهد، ثم يقدم لنا ذخائر منسية من الأدب الصوفي، ويتساءل: كيف جهل مؤرخو الأدب بلاغة الصوفية؟ ويضرب أمثلة ببكاء داود وبكاء يحيى، ويقدم صورة أدبية ليوم الحساب، مشيرا إلى كيفية قراءة كتب التصوف، متوقفًا عند نماذج من حِكَم الصوفية، ومنها حكم ابن عطاء االله السكندري، واهتمام العلماء بها، وتهيب الشراح لأسرارها، وسر بلاغتها، وأسلوب ابن عطاء الله فيها، ورأيه في مذهب الحلول، والقبض والبسط، وهناك ما يسمى بالاستغاثات العطائية.

    ويؤكد المؤلف أن الأدب الصوفي هو أدب المعاني، مبرزًا أخيلةً أدبية في وصف الدنيا، منها الدنيا في القرآن والحديث، والدنيا في كلام المسيح، وصور الدنيا في كلام الصوفية، بما فيها تشبيهات ابن القيم.

    كما يتوقف عند مكانة محيي الدين بن عربي في الأدب والتصوف، وفتنته بنفسه، وقوة شخصيته، ويوازن بينه وبين أبو حامد الغزالي، وما أُضيف إلى مؤلفات ابن عربي من الزيادات. ثم يتحدث عن شعره ونثره، خاصة ديوان “ترجمان الأشواق” ومزج الأدب بالتصوف، وثروته اللغوية وخاصة في “الفتوحات المكية”، وموقفه من تهافت من يقولون بنظرية “وحدة الوجود” ومشكلة الثواب والعقاب، وكيف جاء القول بوحدة الوجود، وهل قال ابن عربي بها؟ ثم يتوقف عند دفاع الشعراني عن ابن عربي، ومسألة “الحقيقة المحمدية” وأثر ابن عربي في الأدب والأخلاق، وتأثير ابن عربي في البيئات النصرانية، وتأثيره في الجيل الحديث.

    ثم يتوقف مبارك عند مصرع الحلاج، مشيرًا إلى الحقيقة العيسوية والحقيقة المحمدية والحقيقة العلوية، وتشيُّع الحلاج، وتساءل: هل اتفق للحلاج أن يدعي النبوة والربوبية؟

    وفي هذا يقول زكي مبارك: “الأساطير تنطق الحلاج باسم المسيح، ولعلها لم تكن أساطير، فالمسيح هو الرب في نظر أتباعه من النصارى، والحلاج هو الرب في نظر مريديه من الصوفية، والقرآن يشهد بأن المسيح لم يصلب وإنما شُبّه لمن صلبوه. وأتباع الحلاج يقولون: إنه لم يصلب وإنما شبِّه لمن صلبوه. والتاريخ يعيد نفسه في عالم العقائد وفي أوهام الناس.

    ثم يتحدث مبارك عن هيام الحلاج في حب الله، مؤكدًا أنه كان يؤمن بنظرية وحدة الوجود أو بنظرية الحلول، وشارحًا ندمه على إذاعة أسرار الحب، موضحًا سيرورة اسم الحلاج في بقاع الأرض.

    المؤلف يؤكد أن الأدب الصوفي هو أدب المعاني، مبرزًا أخيلةً أدبية في وصف الدنيا، منها الدنيا في القرآن والحديث

    ويجول بنا المؤلف من الحلاج إلى عبد الكريم الجيلاني المتوفى نحو سنة 820 هـ، ثم إلى المنظومات الصوفية عند ابن عربي بين التلميح والتصريح، ومنظومات عفيف الدين اليافعي الرمزية، ونظم قواعد التصوف، وأشعار عبدالغني النابلسي، ومنظومات حسن رضوان.

    ثم يتوقف مبارك عند المدائح النبوية، ومن أين نشأ الغلو في مدح الرسول، وشرح الحقيقة المحمدية، وأثرها في القصائد والصلوات، وحديث: أنا سيد الناس، ثم يتساءل: هل لنظرية “الحقيقة المحمدية” أصل من العقل أو الشرع؟ وهل نقلت الحقيقة المحمدية عن الحقيقة العيسوية؟ مبينًا مكانة الأنبياء من الرسول (صلى الله عليه وسلم) وطيف التثليث، وكيف مدح الصوفية سائر الأنبياء، والرمزيات في مدح الرسول.

    وعن الهيام في حب االله، أفصح مبارك عن قِدم هذه النزعة في حياة المتبتلين، موضحًا الفرق بين حب المؤمن وحب الصوفي، ضاربًا المثل بأشواق ابن الفارض، وغرامه، ومنزلته الأدبية والروحية.

    ويعرض زكي مبارك لما كتب في تجريح الصوفية، وكيف اهتدى الصوفية إلى أكل الحشيش، وغرام الشعراء بمدح الحشيش، كما أنه يعرض لشراب الشاي في البيئات الصوفية، ويتحدث عن نقل الأقاصيص الغرامية إلى الأجواء الصوفية، وصرعى الغناء، وفتنة القوَّالين، والمشكلات الأخلاقية، والتشابه بين أخبار العشاق وأخبار الصوفية، ونقل الشعر من المحسوس إلى المعقول.

    كما يتوقف عند صور المجتمع الإسلامي في كتب الصوفية، وصدق الصوفية في الوصف، وصور الطبقات والحكومات في كتب الصوفية، وصورة المجتمع المصري في القرن العاشر، وتحريم شرب القهوة، وعمل موازنة بين حال الصوفي وحال القسيس في المجتمع، وموازنة بين طبقة الصوفية وطبقة الفقهاء، وطبقة التجار، وأزياء الصوفية، والموقف من لبس الحرير والتحلي بالذهب، وتحاسد العلماء.

    كما يعرض المؤلف لحياة اللهجات العربية في مؤلفات الصوفية، مؤكدًا أن الصوفية يكتبون في الأغلب لعامة الناس، وتختلف أساليب الكتَّاب وألفاظهم باختلاف بلادهم، مع ملاحظة عصبية القدماء لبلادهم، موضحًا أن أكثر الألفاظ المحلية التي نأخذها من الصوفية هي الألفاظ المدنية، أي الألفاظ المتصلة بالمعاش، مشيرًا إلى أن الجو الأدبي عند الكاتب الصوفي يختلف عن الجو الأدبي عند المنشئ الأديب.

    ويتناول المؤلف أثر الصوفية في إذاعة المعاني الفنية والذوقية والاجتماعية. ويشير إلى أن الصوفية حاربوا الفنون من الوجهة النظرية، ولكنهم ساعدوا على نشرها من الوجهة الذوقية والعملية. فهم حاربوا الغناء ولكن حياتهم كلها قامت على الغناء. وكيف ننسى أن حياة الصوفية قامت على الذوق، والذوق أساس التفوق في الفنون. ويوضح مبارك أن الرقص والتواجد في حلقات الأذكار لا يمكن رجعه إلى أصول إسلامية صحيحة، وإنما هو أسلوب قديم عرفه الناس في الديانات القديمة.


    أحمد فضل شبلول
    كاتب مصري
يعمل...
X