مقالة العالم الموسوعي العراقي الدكتور نائل حنون عن الفراتيين الأوائل
بناة حضارة وادي الرافدين الأوائل | أ.د. نائل حنون
2024/04/07
آثار
الفراتيون الأوائل وبناء الحضارة في وادي الرافدين
في أربعينيات القرن العشرين (1943– 1945م) نشر عالم المسماريات الألماني بينو لاندزبيرجر، بحثاً على درجة كبيرة من الأهمية في مجلة "اللغة والتاريخ- الجغرافيا" التي تصدرها جامعة أنقرة. ولاندزبيرجر يعد أبرز علماء المسماريات واللغة السومرية في القرن العشرين، وهو الذي أعد "مادة المعجم السومري" (MSL) من المعاجم المسمارية القديمة وأصدرها في سلسلة علمية صارت أساساً لكل دراسة تخص اللغة السومرية والمسماريات عموماً. لقد توصل لاندزبيرجر في بحثه ذاك إلى أن هناك كلمات في النصوص المسمارية، ذات دلالات حضارية مهمة، كانت تعد سومرية من قبل لأنها ظهرت أولاً في النصوص السومرية في الألف الثالث قبل الميلاد، واستمر استعمالها في النصوص الأكادية خلال عصور الحضارة المختلفة، لكنه وجد أنها لا تنتمي إلى السومرية أصلاً ولا إلى الأكادية. وكان دليله الرئيسي على ما توصل إليه هو أن تلك الكلمات تتألف من مقطعَين، أو أكثر من ذلك، بخلاف معظم الكلمات السومرية التي كانت تتألف من مقطع واحد فقط. كما أنه توجد خصائص لفظية في تلك الكلمات، وخصوصاً في أواخرها، غير مألوفة في الكلمات السومرية. لقد أرجع لاندزبيرجر تلك الكلمات إلى قوم مجهولين دعاهم باسم "الفراتيين الأوائل" (Proto-Euphrates). ولم تقتصر أهمية هذه الكلمات على عددها الكبير (أكثر من أربعمئة كلمة) وإنما على كونها أيضاً تشمل أسماء معظم المدن الرئيسية القديمة في جنوب العراق ووسطه وشرقيه، وأغلبها كان يعد سومرياً، فضلاً عن اسمي دجلة والفرات. وتشمل هذه الكلمات أيضاً أسماء أهم المهن والصناعات والمصطلحات الزراعية. وهذا يدل على أن أولئك القوم هم بناة حضارة وادي الرافدين وليس السومريون.
وفي عام 1960م قدم عالم كبير آخر من أبرز علماء المسماريات، وهو إغنيس جيلب، الذي أشرف على مشروع معجم شيكاغو لسنوات طويلة، بحثاً إلى المؤتمر الدولي التاسع للآشوريات في جنيف أكد فيه بقوة نظرية الفراتيين الأوائل، وأضاف في بحثه تسع حجج مبرهنة لغوياً وأثرياً على أن اللغة السومرية لا تصلح دليلاً على وجود عرق أو هوية قومية سومرية متميزة عن الهوية الأكادية، وعدها جزءاً من الواقع اللغوي القديم المتعلق بالكتابة وغير المنفصل عن التدوين بالأكادية. وفي عام 1973م قدم الأستاذ الراحل طه باقر، العالم الموسوعي العربي الوحيد في الآثار والمسماريات في القرن العشرين، عرضاً علمياً رصيناً لنظرية الفراتيين الأوائل، مؤيداً كونهم بناة حضارة وادي الرافدين القديمة ومؤكداً أن تسمية السومريين "لا تحمل مدلولاً قومياً"، وأن "ما سمي بالحضارة السومرية هي ليست سوى حلقة تمتد جذورها الأولى في عصور ما قبل التاريخ" ولا تمثل عنصراً طارئاً يمكن فصله عن سياق تطور حضارة وادي الرافدين خلال تاريخها الطويل.
من هم "الفراتيون الأوائل"؟
كان لأهم نظرية، طرحت حتى الآن، عن بناة حضارة وادي الرافدين الأوائل، أن تطور وتستكمل جوانبها وتعزز بالدليل الأثري. ولكن هذا لم يحصل للأسف الشديد، بل حصل العكس. فقد انهمك اللغويون بقراءة نصوصهم، وانشغل الأثريون بحفرياتهم. وتصدى من هم ليسوا باللغويين ولا بالأثريين للتحدث والكتابة عن حضارة عظيمة غزيرة الإنجازات ومعقدة التكوين من غير علم بها ولا دراسة، فثبتوا المفاهيم السطحية الواهية وجعلوها من المسلمات. ويحدث اليوم إصرار غريب على أن تسمى حضارة وادي الرافدين بالحضارة "السومرية"، وتطغى صفة "السومرية" على لغاتها القديمة على الرغم من أن جل مآثرها كانت باللغة الأكادية. ولا يقتصر مصدر التحريف هذا على ما يأتي به البعض في بلادنا بل انجرف به الأجانب أيضاً في غياب كبار العلماء المختصين. ويلاحظ أن الأحاديث في مواقع التواصل اليوم تكون تحت عنوان "الحضارة السومرية" حتى وإن كان الموضوع الفن الآشوري أو العصور البابلية. ومما يثير الشكوك والأسف أنه صدر كتاب في أمريكا قبل سنتين، موجه للناشئة، عن "الحضارة السومرية" وحمل غلافه صورة للمئذنة الملوية في سامراء مع شرح يصفها على أنها "الزقورة السومرية"، ولا يعلم لمصلحة مَن يحدث هذا في بلادنا، على وجه الخصوص، وفي بلدان الغرب.
يتبقى سؤالان لم تجب عنهما نظرية الفراتيين الأوائل، لكن الإجابة عنهما نضجت من خلال الدراسات والمكتشفات الحديثة. السؤال الأول عن الدليل الأثري الذي ينبغي أن يدعم هذه النظرية. والسؤال الثاني هو ببساطة: من كان أولئك القوم؟ السؤال الأول أجابت عنه عمليات التنقيب الأثري في وادي الفرات ورافديه البليخ والخابور في سورية. وهي عمليات جرت بكثافة منذ سبعينيات القرن العشرين، وقد كشفت عن أن وادي الفرات ورافده الرئيسي الخابور استوطن منذ ظهور أولى القرى المستقرة في التاريخ، ولم تنقطع السكنى فيه بعد ذلك. وكان هذا قبل العصر الحجري الحديث (مواقع أبو هريرة، مريبط وخشام). ومن العصر الحجري الحديث كشف حتى الآن عن 15 موقعاً. من العصر الحجري – النحاسي كشف عن ثلاثة مواقع من دوري حسونة وسامراء، و24 موقعاً من دور حلف. أما في دور العبيد، الذي حدث فيه الانتشار العظيم إلى وادي الفرات في جنوب العراق، فقد بلغ مجموع المواقع المكتشفة في سورية حتى الآن 68 موقعاً منها ستة عشر في وادي الفرات والخابور فقط. وفي دور أوروك بلغ عدد المواقع المكتشفة حتى الآن اثنين وعشرين. هذه الحقائق تفصح عن الموطن الحقيقي للفراتيين الأوائل وتوضح من أين انحدروا إلى جنوب العراق حاملين تراثاً حضارياً عميقاً وتراكماً للخبرة الحضارية على مر العصور المتواصلة، وما كانوا قادمين من المجهول أو من المنبسطات الخالية. فوادي الفرات موطنهم منذ فجر التاريخ ومهد حضارتهم.
أما الجواب عن السؤال الثاني فيتجلى من خلال الدراسات اللغوية الحديثة، ومن ضمنها ما يحدد الكلمات ذات الأصل غير السومري ولا الأكادي كالتي أرجعت إلى الفراتيين الأوائل. فالتمعن في هذه الكلمات يقود إلى أن معظمها مشترك في اللغات "السامية" الشقيقة: الأكادية، الأمورية / الكنعانية، الآرامية والعربية. ومن هذه الكلمات: تِبِرا (العدّان، العامل على المعادن)، نَجار (نجار)، مَلّاخ (ملاح)، ﭘَﺨّﺎر (فخّار، صانع الفخار)، دامجار (تاجر)، إشبار (حائك) وأشجاب (إسكافي). يدل هذا على أنها كلمات تعود إلى الأصل المشترك لتلك اللغات الشقيقة. وأشار إغنيس جيلب إلى حقيقة مهمة، وهي أن انتشار المدن التي أرجعت أسماؤها إلى تراث الفراتيين الأوائل يطابق انتشار مواقع دور العبيد أثرياً، مما يعني أن سكان دور العبيد ما كانوا سومريين (وهو ما يجمع عليه العلماء حالياً)، وأنهم كانوا امتداداً للسكان القدماء وأصلاً للسكان اللاحقين. وتؤيد هذا المنحى حقيقة أثرية مهمة، وهي أن معظم المدن الكبرى الأولى في جنوب العراق تطورت من قرى دور العبيد التي كانت بقاياها تكتشف في الطبقات السفلى من موقع كل مدينة كبيرة قديمة. وانتقل أولئك السكان أنفسهم إلى دور أوروك اللاحق، وحينها نقلوا مرحلة الرموز القديمة إلى الكتابة الصورية التي أعطيت علاماتها أصواتاً في ما بعد. وكانت تلك الأصوات نواة طريقة الكتابة الأولى التي أطلقت عليها النصوص الأكادية اسم "السومرية". ووظف الخط السومري وعلاماته لتدون به اللغة الأكادية منذ عصر فجر السلالات. وجرى ذلك كله دون ورود إشارة واحدة إلى وجود "سومريين" في النصوص السومرية إطلاقاً، وإنما استعملت الصفة "سومري" في النصوص الأكادية للدلالة على الكاتب الذي يتمرن على الكتابة السومرية مهما كان أصله، وهذا ما ثبتته معاجم اللغة الأكادية الحديثة.
ومن وثيق الصلة بهذا الموضوع أن تورد هنا حقيقة أثبتتها عمليات التنقيب في تلول أبو الصلابيخ، في ناحية الدغارة في محافظة الديوانية العراقية الحالية، وهو موقع مدينة أيريش القديمة في عصر فجر السلالات. فقد كشفت تلك العمليات عن ألواح طينية تحمل أولى قطع الأدب المدون بالسومرية، وكانت المفاجأة الكبرى أن أسماء مؤلفي تلك القطع كانت أمورية / كنعانية وليست سومرية، وكذلك كان سكان المدينة نفسها. ومن الملفت أن هذه المدينة كانت في حالة تشبه التوأمة (سكانياً ومعرفياً) مع مدينة أمورية مهمة أخرى، وهي أيبلا (تل مرديخ في سوريا حالياً) على الرغم من بعد المسافة في ما بينهما. ومن الناحية اللغوية فإن اللغة الأمورية/ الكنعانية، التي تأخر تدوينها، هي اللغة الأقرب إلى الأصل المشترك القديم للغات "السامية" بدليل احتوائها على أكبر نسبة من الكلمات المشتركة بين تلك اللغات الشقيقة. والآن يخلص المرء، من فهم هذا الواقع السكاني القديم، إلى أنه من الضروري دراسة دور كل قوم في تطوير حضارة وادي الرافدين على أسس جديدة مستقبلاً
بناة حضارة وادي الرافدين الأوائل | أ.د. نائل حنون
2024/04/07
آثار
الفراتيون الأوائل وبناء الحضارة في وادي الرافدين
في أربعينيات القرن العشرين (1943– 1945م) نشر عالم المسماريات الألماني بينو لاندزبيرجر، بحثاً على درجة كبيرة من الأهمية في مجلة "اللغة والتاريخ- الجغرافيا" التي تصدرها جامعة أنقرة. ولاندزبيرجر يعد أبرز علماء المسماريات واللغة السومرية في القرن العشرين، وهو الذي أعد "مادة المعجم السومري" (MSL) من المعاجم المسمارية القديمة وأصدرها في سلسلة علمية صارت أساساً لكل دراسة تخص اللغة السومرية والمسماريات عموماً. لقد توصل لاندزبيرجر في بحثه ذاك إلى أن هناك كلمات في النصوص المسمارية، ذات دلالات حضارية مهمة، كانت تعد سومرية من قبل لأنها ظهرت أولاً في النصوص السومرية في الألف الثالث قبل الميلاد، واستمر استعمالها في النصوص الأكادية خلال عصور الحضارة المختلفة، لكنه وجد أنها لا تنتمي إلى السومرية أصلاً ولا إلى الأكادية. وكان دليله الرئيسي على ما توصل إليه هو أن تلك الكلمات تتألف من مقطعَين، أو أكثر من ذلك، بخلاف معظم الكلمات السومرية التي كانت تتألف من مقطع واحد فقط. كما أنه توجد خصائص لفظية في تلك الكلمات، وخصوصاً في أواخرها، غير مألوفة في الكلمات السومرية. لقد أرجع لاندزبيرجر تلك الكلمات إلى قوم مجهولين دعاهم باسم "الفراتيين الأوائل" (Proto-Euphrates). ولم تقتصر أهمية هذه الكلمات على عددها الكبير (أكثر من أربعمئة كلمة) وإنما على كونها أيضاً تشمل أسماء معظم المدن الرئيسية القديمة في جنوب العراق ووسطه وشرقيه، وأغلبها كان يعد سومرياً، فضلاً عن اسمي دجلة والفرات. وتشمل هذه الكلمات أيضاً أسماء أهم المهن والصناعات والمصطلحات الزراعية. وهذا يدل على أن أولئك القوم هم بناة حضارة وادي الرافدين وليس السومريون.
وفي عام 1960م قدم عالم كبير آخر من أبرز علماء المسماريات، وهو إغنيس جيلب، الذي أشرف على مشروع معجم شيكاغو لسنوات طويلة، بحثاً إلى المؤتمر الدولي التاسع للآشوريات في جنيف أكد فيه بقوة نظرية الفراتيين الأوائل، وأضاف في بحثه تسع حجج مبرهنة لغوياً وأثرياً على أن اللغة السومرية لا تصلح دليلاً على وجود عرق أو هوية قومية سومرية متميزة عن الهوية الأكادية، وعدها جزءاً من الواقع اللغوي القديم المتعلق بالكتابة وغير المنفصل عن التدوين بالأكادية. وفي عام 1973م قدم الأستاذ الراحل طه باقر، العالم الموسوعي العربي الوحيد في الآثار والمسماريات في القرن العشرين، عرضاً علمياً رصيناً لنظرية الفراتيين الأوائل، مؤيداً كونهم بناة حضارة وادي الرافدين القديمة ومؤكداً أن تسمية السومريين "لا تحمل مدلولاً قومياً"، وأن "ما سمي بالحضارة السومرية هي ليست سوى حلقة تمتد جذورها الأولى في عصور ما قبل التاريخ" ولا تمثل عنصراً طارئاً يمكن فصله عن سياق تطور حضارة وادي الرافدين خلال تاريخها الطويل.
من هم "الفراتيون الأوائل"؟
كان لأهم نظرية، طرحت حتى الآن، عن بناة حضارة وادي الرافدين الأوائل، أن تطور وتستكمل جوانبها وتعزز بالدليل الأثري. ولكن هذا لم يحصل للأسف الشديد، بل حصل العكس. فقد انهمك اللغويون بقراءة نصوصهم، وانشغل الأثريون بحفرياتهم. وتصدى من هم ليسوا باللغويين ولا بالأثريين للتحدث والكتابة عن حضارة عظيمة غزيرة الإنجازات ومعقدة التكوين من غير علم بها ولا دراسة، فثبتوا المفاهيم السطحية الواهية وجعلوها من المسلمات. ويحدث اليوم إصرار غريب على أن تسمى حضارة وادي الرافدين بالحضارة "السومرية"، وتطغى صفة "السومرية" على لغاتها القديمة على الرغم من أن جل مآثرها كانت باللغة الأكادية. ولا يقتصر مصدر التحريف هذا على ما يأتي به البعض في بلادنا بل انجرف به الأجانب أيضاً في غياب كبار العلماء المختصين. ويلاحظ أن الأحاديث في مواقع التواصل اليوم تكون تحت عنوان "الحضارة السومرية" حتى وإن كان الموضوع الفن الآشوري أو العصور البابلية. ومما يثير الشكوك والأسف أنه صدر كتاب في أمريكا قبل سنتين، موجه للناشئة، عن "الحضارة السومرية" وحمل غلافه صورة للمئذنة الملوية في سامراء مع شرح يصفها على أنها "الزقورة السومرية"، ولا يعلم لمصلحة مَن يحدث هذا في بلادنا، على وجه الخصوص، وفي بلدان الغرب.
يتبقى سؤالان لم تجب عنهما نظرية الفراتيين الأوائل، لكن الإجابة عنهما نضجت من خلال الدراسات والمكتشفات الحديثة. السؤال الأول عن الدليل الأثري الذي ينبغي أن يدعم هذه النظرية. والسؤال الثاني هو ببساطة: من كان أولئك القوم؟ السؤال الأول أجابت عنه عمليات التنقيب الأثري في وادي الفرات ورافديه البليخ والخابور في سورية. وهي عمليات جرت بكثافة منذ سبعينيات القرن العشرين، وقد كشفت عن أن وادي الفرات ورافده الرئيسي الخابور استوطن منذ ظهور أولى القرى المستقرة في التاريخ، ولم تنقطع السكنى فيه بعد ذلك. وكان هذا قبل العصر الحجري الحديث (مواقع أبو هريرة، مريبط وخشام). ومن العصر الحجري الحديث كشف حتى الآن عن 15 موقعاً. من العصر الحجري – النحاسي كشف عن ثلاثة مواقع من دوري حسونة وسامراء، و24 موقعاً من دور حلف. أما في دور العبيد، الذي حدث فيه الانتشار العظيم إلى وادي الفرات في جنوب العراق، فقد بلغ مجموع المواقع المكتشفة في سورية حتى الآن 68 موقعاً منها ستة عشر في وادي الفرات والخابور فقط. وفي دور أوروك بلغ عدد المواقع المكتشفة حتى الآن اثنين وعشرين. هذه الحقائق تفصح عن الموطن الحقيقي للفراتيين الأوائل وتوضح من أين انحدروا إلى جنوب العراق حاملين تراثاً حضارياً عميقاً وتراكماً للخبرة الحضارية على مر العصور المتواصلة، وما كانوا قادمين من المجهول أو من المنبسطات الخالية. فوادي الفرات موطنهم منذ فجر التاريخ ومهد حضارتهم.
أما الجواب عن السؤال الثاني فيتجلى من خلال الدراسات اللغوية الحديثة، ومن ضمنها ما يحدد الكلمات ذات الأصل غير السومري ولا الأكادي كالتي أرجعت إلى الفراتيين الأوائل. فالتمعن في هذه الكلمات يقود إلى أن معظمها مشترك في اللغات "السامية" الشقيقة: الأكادية، الأمورية / الكنعانية، الآرامية والعربية. ومن هذه الكلمات: تِبِرا (العدّان، العامل على المعادن)، نَجار (نجار)، مَلّاخ (ملاح)، ﭘَﺨّﺎر (فخّار، صانع الفخار)، دامجار (تاجر)، إشبار (حائك) وأشجاب (إسكافي). يدل هذا على أنها كلمات تعود إلى الأصل المشترك لتلك اللغات الشقيقة. وأشار إغنيس جيلب إلى حقيقة مهمة، وهي أن انتشار المدن التي أرجعت أسماؤها إلى تراث الفراتيين الأوائل يطابق انتشار مواقع دور العبيد أثرياً، مما يعني أن سكان دور العبيد ما كانوا سومريين (وهو ما يجمع عليه العلماء حالياً)، وأنهم كانوا امتداداً للسكان القدماء وأصلاً للسكان اللاحقين. وتؤيد هذا المنحى حقيقة أثرية مهمة، وهي أن معظم المدن الكبرى الأولى في جنوب العراق تطورت من قرى دور العبيد التي كانت بقاياها تكتشف في الطبقات السفلى من موقع كل مدينة كبيرة قديمة. وانتقل أولئك السكان أنفسهم إلى دور أوروك اللاحق، وحينها نقلوا مرحلة الرموز القديمة إلى الكتابة الصورية التي أعطيت علاماتها أصواتاً في ما بعد. وكانت تلك الأصوات نواة طريقة الكتابة الأولى التي أطلقت عليها النصوص الأكادية اسم "السومرية". ووظف الخط السومري وعلاماته لتدون به اللغة الأكادية منذ عصر فجر السلالات. وجرى ذلك كله دون ورود إشارة واحدة إلى وجود "سومريين" في النصوص السومرية إطلاقاً، وإنما استعملت الصفة "سومري" في النصوص الأكادية للدلالة على الكاتب الذي يتمرن على الكتابة السومرية مهما كان أصله، وهذا ما ثبتته معاجم اللغة الأكادية الحديثة.
ومن وثيق الصلة بهذا الموضوع أن تورد هنا حقيقة أثبتتها عمليات التنقيب في تلول أبو الصلابيخ، في ناحية الدغارة في محافظة الديوانية العراقية الحالية، وهو موقع مدينة أيريش القديمة في عصر فجر السلالات. فقد كشفت تلك العمليات عن ألواح طينية تحمل أولى قطع الأدب المدون بالسومرية، وكانت المفاجأة الكبرى أن أسماء مؤلفي تلك القطع كانت أمورية / كنعانية وليست سومرية، وكذلك كان سكان المدينة نفسها. ومن الملفت أن هذه المدينة كانت في حالة تشبه التوأمة (سكانياً ومعرفياً) مع مدينة أمورية مهمة أخرى، وهي أيبلا (تل مرديخ في سوريا حالياً) على الرغم من بعد المسافة في ما بينهما. ومن الناحية اللغوية فإن اللغة الأمورية/ الكنعانية، التي تأخر تدوينها، هي اللغة الأقرب إلى الأصل المشترك القديم للغات "السامية" بدليل احتوائها على أكبر نسبة من الكلمات المشتركة بين تلك اللغات الشقيقة. والآن يخلص المرء، من فهم هذا الواقع السكاني القديم، إلى أنه من الضروري دراسة دور كل قوم في تطوير حضارة وادي الرافدين على أسس جديدة مستقبلاً