التشريح كان عدة الطبيب الجراح. لم يقدِم الجراحون المسلمون على تشريح الجسد البشري، وإن كان بعضهم قد فعل ذلك سرًا، لكنهم شرحوا الحيوانات خاصة الخيل والظباء. |
كان التشريح عُدّة الطبيب الجراح. وصرّح الأطباء المسلمون أن الجراح ينبغي أن يكون عالمًا بالتشريح، ووظائف الأعضاء ومواضعها "ليجتنب في فتح المواد قطع الأعضاء وأطراف العضل والأوتار والألياف". ولا شك أن الجراحين المسلمين اعتمدوا كثيرًا في فقههم الجراحي على ما ترجموه من اللغة اليونانية وبخاصة كتاب جالينوس الذي ترجم بعنوان قاطاجانس في الجراحات والمراهم. وكانت معرفة الجراحين بهذا الكتاب أمرًا إلزاميًا، لأن الطبيب ينبغي أن يكون واعيًا بكيفية فتح البدن والخياطة واستعمال المراهم وعيًا كاملاً. ومن الكتب الأخرى التي ترجمها المسلمون لجالينوس في التشريح: اختصار كتاب مارنيس في التشريح ؛ في تشريح الحيوان الحي ؛ في تشريح الحيوان الميت ؛ علم أبقراط في التشريح ؛ تشريح الرحم ؛ تشريح العين ؛ تشريح آلات الصوت. وقد ساعدت هذه الترجمات وغيرها المسلمين في علم التشريح ومنافع الأعضاء، ثم استفادوا منها في علم الجراحة. وكان على رأس الاختبارات التي يؤديها الطبيب اختبارًا في علم التشريح يسمى محنة. فعلى سبيل المثال، يقول الرازي في كتابه محنة الطبيب: "فأول ما تسأله عن التشريح ومنافع الأعضاء، وهل عنده علم بالقياس وحسن فهم ودراية في معرفة كتب القدماء، فإن لم يكن عنده ذلك، فليس بك حاجة إلى امتحانه في المرضى. وإن كان عالمًا بهذه الأشياء، فأكمل امتحانه حينئذ في المرضى". وقد برع ابن طفيل (ت 581هـ،1185م) في تشريح الأجسام الميتة والحية ؛ وقد شرَّح ظبية حيّة وشق عن قلبها، وذكر أن الدم الموجود في القلب كالدم الموجود في سائر الجسد، وأنه متى سال من الجسم جمد.
شرَّح الأطباء المسلمون عيون الحيوانات، واكتسبوا من ذلك خبرة. وقد وضع ابن عيسى رسالة في تشريح العين وأمراضها الظاهرة والباطنة، ترجمت إلى اللاتينية، وكانت ذات أثر بالغ إبان ما اصطلح عليه في أوروبا القرون الوسطى.
ولم يقْدم الأطباء المسلمون على عمليات تشريح الجسد البشري، ولعل ذلك يعود إلى أسباب دينية أو إنسانية أو اجتماعية. لكن هناك من يقولون إن بعضهم قد مارس ذلك سرًّا، ويستدلون على ذلك بدليلين ؛ أولهما أنهم وصفوا أجزاء الجسم البشري ـ كالعين والقلب والكبد ـ وصفًا بالغ الدقة، وثانيهما أنهم خرجوا بآراء تخالف آراء كثير من الأطباء اليونانيين، وبينوا خطأهم في بعض ما ذهبوا إليه. فعلى سبيل المثال، نجد أن ابن النفيس ينتقد آراء جالينوس في التشريح، وكذلك آراء ابن سينا الذي قال بآراء جالينوس ؛ فقد وجد من خلال تشريحه للقلب والحنجرة أن هناك صلة بين التنفس والنبض، أو بين التنفس وانتقال الدم إلى القلب من الرئتين. فأظهر أخطاء جالينوس وابن سينا فيما يختص بتركيب الرئتين ووظيفتهما، وكذلك وظيفة الأوعية الشعرية التي تربط بين الشرايين والأوردة ووظيفة الحويصلات الرئوية والعروق الممتدة بين الرئة والقلب.
ويمكن إيجاز مآثر الأطباء المسلمين وعلى رأسهم ابن النفيس في مجال التشريح فيما يلي:
1ـ اكتشاف الدورة الدموية الصغرى التي تجري في الرئة ويمر الدم خلالها من الشريان الرئوي إلى القلب. وقد يكون هذا الاكتشاف هو الذي مهد الطريق لوليم هارفي ليكتشف الدورة الدموية الكبرى. 2ـ نقل مؤلفات جالينوس وحفاظهم عليها وعدم اتباعهم له في كل ما أتى به، بل درسوه بوعي وأضافوا إليه وخالفوه فيما وجدوا أنه الأصوب. 3ـ الوقوف على تركيب الرئة والأوعية الشعرية، ووصف الشريان الإكليلي ووصف الدورة الدموية فيه، وإثبات أن للقلب بطينين فقط 4ـ إثبات عدم وجود أي هواء أو رواسب مع الدم في شرايين الرئتين ـ مخالفين رأى جالينوس. 5ـ انتقدوا وصف جالينوس للهيكل العظمي ؛ فقد بين عبداللطيف البغدادي (ت 619هـ، 1222م) أن الفك الأسفل قطعة واحدة وليس قطعتين بعد أن فحص أكثر من 2,000 جمجمة بشرية 6ـ اكتشف ابن القف (ت 685هـ،1286م) عدد الأغشية القلبية ووظيفتها واتجاه فتحاتها لمرور الدم 7ـ معرفتهم أن الدم يجري إلى الرئتين حيث يتجدد، ويتشبع بالهواء وليس لمدِّهما بالغذاء ؛ وهذا ما أكده وليم هارفي فيما بعد. 8ـ وصف علي بن عباس المجوسيّ الدورة الدموية في الأوعية الشعرية أثناء شرحه لوظيفتي الانقباض والانبساط، وكان وصفه دقيقًا إلى حدّ كبير 9ـ تأكيدهم على وجود اتصال بين الشرايين الموجودة في الرئتين وأوردتهما حتى تتم الدورة الدموية داخل الرئة 10ـ ملاحظة أن "تشريح العروق الصغار في الجلد يعسر في الأحياء لتألمهم، وفي الموتى الذين ماتوا بسبب أمراض تقلل الدم كالإسهال والنزف، ويسهل فيمن مات بالخنق..." وهذا قريب مما يؤكده علم الأمراض (الباثولوجيا) حاليًا. 11ـ اكتشاف أن جدران أوردة الرئتين أغلظ كثيرًا من جدران شرايينها، وأنها تتألف من طبقتين 12ـ البراعة في تشريح العيون وإجراء العمليات فيها، وبيّن ابن سينا أن العضلات "المحركة للمقل ست ؛ أربع منها في جوانبها الأربعة فوق وأسفل المآقي"، وقال ابن النفيس: "إن العين آلة للبصر وليست باصرة، ومنفعة هذه الآلة تتم بروح مدرك يأتي من المخ. وهذا ما أثبته العلم حاليًا ؛ حيث ينقل العصب البصري الصورة إلى الدماغ الذي يقوم بدوره بتفسير المرئيات 13ـ مخالفتهم رأي جالينوس الذي يقول بوجود فتحة في جدار القلب الفاصل بين البطينين، وتوضيح أن الدم يجري في القلب ويدور فيه دورة كاملة، ويتدفق في أوردة الرئتين لينتشر فيهما ويتحد مع الهواء فيتخلص مما فيه من شوائب، ثم يجري في شريان الرئتين ليصل إلى البطين الأيسر بعد امتزاجه بالهواء.