د. عفيف بهنسي في محاضرة :النمط الأوروبي الفني لم يستطع القضاء النهائي على الخصائص العربية –الإسلامية
ما يعنينا من العمارة هو صانعها أي الانسان-المجتمع الذي تفاعل مع بيئته الطبيعية وتماهى مع بعضه البعض فاستنبط ابداعه الخاص عمارة وفناً وأساطير وأفكاراً. وبلاد الشام تدخل غي هذا الإطار اذ شكل موقعها الجغرافي عاملاً مهماً في التفاعل مع الأقوام والشعوب المختلفة. والبحث عن الأصالة الدمشقية في العمارة الحديثة كان عنوان محاضرة الدكتور بهنسي التي ألقيت في المركز الثقافي العربي في دمشق قبل مدة.
أما ما يقصده الدكتور بهنسي في العمارة الدمشقية فهو العمارة العربية الإسلامية كون دمشق أول عاصمة عربية إسلامية وهو يؤكد أن العمارة بعد الفتح الإسلامي استندت على ركائز تعود الى ألف عام فالجامع الأموي قام مكان كنيسة قامت سابقاً مكان معبد روماني قام بدوره مكان معبد سوري قديم.
المرحلة الأولى الاستمرارية:
حركة المجتمع تفرز دائماً شروطها ونتائجها علماً أن الدين الإسلامي بعد فتح الشام لم يفرض أي شكل من اشكال العمارة الدينية أو المدنية.
وليس هناك مصادر شرعية تحدد شكل الجامع اجمالاً. لذا فثمة فرق كبير بين جامع الرسول في المدينة وجامع الرسول أيام عمر بن عبد العزيز مما يعني أن للبيئة دورها. فالبيئة العربية ام تتأثر بالحضارات المتصارعة كما في بيئة بلاد الشام.
والتطور المعماري كان سريعاً في تلك الفترة ولكن ضمن نطاق الاستمرارية.
المرحلة الثانية الابداع:
وهي تواكبت مع مرحلة تكون الشخصية العربية الإسلامية في العمارة والفن. وكانت مستقلة عن التأثيرات الخارجية مع فهم أعمق للفكر العربي الإسلامي.
المرحلة الثالثة التنوع:
ترافقت مع الحوار والاحتكاك الثقافي بين الشعوب الإسلامية والحضارات الأخرى. هذا التفاعل اعطى نوعاً من الفن المعماري والفني.
والمحاضر يحدد الخصائص الحضارية للعمارة الدمشقية في مرحلة الابداع والتنوع مؤكداً أن معظم الباحثين لم يستطع تحديد هذه الخصائص لأنه لم يربط مظاهر هذه العمارة بالفكر العربي الإسلامي.
الخصيصة الأولى هي الجوانية بمعنى الانعطاف نحو الروح" أي الداخل" وهنا تتجلى المعاني التوحيدية فالإنسان عندما يقف بعيداً عم العالم يفصل نفسه عن المؤثرات الخارجية وينفتح على مثله الحضاري الذي يعطيه معرفة أفضل بخالقه. وهذا يستتبع أن يبتكر جنت الخاصة والزخارف والتريين وكل المعالم الفنية التي يشملها البيت الدمشقي هي تماه مع رؤية الانسان للجنة في ذهنيته وايمانه. فكل انسان يصنع "جنته" على طريقته.
الخصيصة الثانية الجمالية: ليس هناك بيت شامي الا وفي تفاصيله معان جمالية إبداعية لا حد لها. النقوش الهندسية في باطن الاقواس وعلى العتبات والنوافذ تجعلنا تقف مدهوشين تجاه تقنية روحية لا تدانيها التقنية المادية الحديثة. والعامل الأمي-في اغلب الأحيان هو الذي أشاد ابداعه لأنه استمرار ولأنه محمل بمثله الحضاري.
الخصيصة الثالثة وظيفية: الخشبيات في البيت الشامي ليست مجرد تغطية بل تحمل وظيفة للخزن، لحماية الحاجيات النهارية التي تخفى في (اليوك) المستعمل للخزن ولكننا في الظاهر امام مواضيع زخرفية فنية نباتية او هندسية وهذا يضفي على القاعة صورة فنية تزينها ابيات من الشعر أو آيات من القرآن الكريم والزخارف خشبية أو حجرية والمشقف هو الذي يتألف من الأحجار والرخام ونراه على الأرض في القاعات او في صحن الدار آية من آيات الابداع.
الخصيصة الرابعة الاستقلالية أو المناخ المستقل: المسكن الشامي ليس مجرد شكل فهو يحقق هدفا ووظيفة وقد صمم ونفذ بحيث يجعل ساكنيه في مأمن عن الأشياء السيئة ويقي من العدوان الوحشي والمؤذي. ومن عدوان الطبيعة ويبعد عن الضجيج والتلوث الصحن هو المحور الأساسي للبيت مسدود من اطرافه حتى الباب الخارجي ولا يتصل الا بدهليز منحرف والباب بعيد جدا عن الصحن. وحين يفتح الباب نشعر ان هواء الصحن تحرك قليلا وحين يغلق الباب تتوقف حركة الهواء.
ودراسة ديناميكية الهواء تبين ان الصحن مؤلف من جورة (حفرة) وعندما يهب الهواء لا ينل الى أعماق الصحن الا إذا كان الباب الخارجي مفتوحا فالهواء سواء كان باردا او دافئا لا يدخل في الصحن الذي يبقى بمنأى عن التأثير الخارجي من ملوثات وغبار الخ.
الصحن إذن هو مصفاة داخلية تقي الساكنين من التأثيرات الهوائية الضارة. وهو تهوية حقيقية تترافق مع عوامل ترطيب للجو الجاف تؤمنها البرك المائية.
الخصيصة الخامسة المقباس الإنساني:
كل ما ذكر يؤمن المقياس الإنساني ولكن ليس بشرطه الجسدي-المادي بل يكرس الشرط الروحي في عالم خاص "فردوس" للإنسان يشعره بالطمأنينة والسكينة.
وينتقل المحاضر الى البحث في المؤثرات الفنية على العمارة الدمشقية وينطلق من الفن المدجن في منتصف القرن التاسع عشر عندما ظهر نوع من العمارة العربية الإسلامية المتأثرة بما يسمى ب "فن الباروك" وهذه الكلمة عربية حسب معجم المصطلحات العربية-الاسبانية ومصدرها براق. والنزعة الباروكية شملت كل أوروبا وامتدت الينا عن طريق الإمبراطورية العثمانية. وهي تظهر في مكتب عنبر وبيت شكر الدين الموجود في القاعة الشامية وهذه النزعة افسدت معالم العمارة الدمشقية لكنها لم تدم طويلاً وبقيت تأثيراتها محدودة.
العمارة الدمشقية والكلاسيكية المحدثة
يجسد الكلاسيكية المحدثة في دمشق مبنى البلدية الذي شيد في العام 1895. وهذا النمط يعتمد على الجبهة ولعل بناء الخط الحديدي الحجازي في زمن السلطان عبد الحميد والذي أدى الى سيولة مادية جعلت الاهتمام بمدينة دمشق كبيرا دفع الى استيراد المعمارين والمهندسين الأجانب ومنهم الألماني والاسباني والفرنسي والتركي كل هذا اعطى تحولاً كبيراً في نظام العمارة الدمشقية فكانت السرايا ومبنى اشرطة وكل الأبنية التي تحمل شكل العمارة الكلاسيكية المحادثة الشبيهة بالعمارة الرومانية إن كانت مبسطة جداً. والبيوت الدمشقية تأثرت بدورها بالخط الكلاسيكي المحدث عبر الجبهات وفي وضع الواكف على النوافذ والأبواب. وظهر هذا التحول جلياً في البيوت التي شيدت خارج الأسوار كما في حي الصالحية وحي الشهداء اما داخل الأسوار فبقي النمط المعماري محافظاً على طابعه العربي الإسلامي.
أما بناء محطة الحجاز فهو يحمل صفات محدثة على رغم ان ساحته الداخلية دمشقية محضة إضافة الى بعض الزخارف العربية الإسلامية وإذا شئنا ان نحدد أول غزو للعمارة الأوروبية في دمشق. فلسوف نوجه اصبعنا نحو بناء "كسم وقباني" الذي يقدم البصمات الأوروبية بشكل قوي وجريء. والدمشقية المحدثة يجسدها بناءان في شارع النصر هما عين الفيجة وقصر العدل. وتلاحظ فيها استعارة من معالم العمارة الاوروبية من ناحية البرانية وليس الجوانية ومن ناحية الغاء الصحن وشكل النوافذ والفتحات الخارجية.
بشار خليف – صحيفة الحياة اللندنية - 8\7\1991
ما يعنينا من العمارة هو صانعها أي الانسان-المجتمع الذي تفاعل مع بيئته الطبيعية وتماهى مع بعضه البعض فاستنبط ابداعه الخاص عمارة وفناً وأساطير وأفكاراً. وبلاد الشام تدخل غي هذا الإطار اذ شكل موقعها الجغرافي عاملاً مهماً في التفاعل مع الأقوام والشعوب المختلفة. والبحث عن الأصالة الدمشقية في العمارة الحديثة كان عنوان محاضرة الدكتور بهنسي التي ألقيت في المركز الثقافي العربي في دمشق قبل مدة.
أما ما يقصده الدكتور بهنسي في العمارة الدمشقية فهو العمارة العربية الإسلامية كون دمشق أول عاصمة عربية إسلامية وهو يؤكد أن العمارة بعد الفتح الإسلامي استندت على ركائز تعود الى ألف عام فالجامع الأموي قام مكان كنيسة قامت سابقاً مكان معبد روماني قام بدوره مكان معبد سوري قديم.
المرحلة الأولى الاستمرارية:
حركة المجتمع تفرز دائماً شروطها ونتائجها علماً أن الدين الإسلامي بعد فتح الشام لم يفرض أي شكل من اشكال العمارة الدينية أو المدنية.
وليس هناك مصادر شرعية تحدد شكل الجامع اجمالاً. لذا فثمة فرق كبير بين جامع الرسول في المدينة وجامع الرسول أيام عمر بن عبد العزيز مما يعني أن للبيئة دورها. فالبيئة العربية ام تتأثر بالحضارات المتصارعة كما في بيئة بلاد الشام.
والتطور المعماري كان سريعاً في تلك الفترة ولكن ضمن نطاق الاستمرارية.
المرحلة الثانية الابداع:
وهي تواكبت مع مرحلة تكون الشخصية العربية الإسلامية في العمارة والفن. وكانت مستقلة عن التأثيرات الخارجية مع فهم أعمق للفكر العربي الإسلامي.
المرحلة الثالثة التنوع:
ترافقت مع الحوار والاحتكاك الثقافي بين الشعوب الإسلامية والحضارات الأخرى. هذا التفاعل اعطى نوعاً من الفن المعماري والفني.
والمحاضر يحدد الخصائص الحضارية للعمارة الدمشقية في مرحلة الابداع والتنوع مؤكداً أن معظم الباحثين لم يستطع تحديد هذه الخصائص لأنه لم يربط مظاهر هذه العمارة بالفكر العربي الإسلامي.
الخصيصة الأولى هي الجوانية بمعنى الانعطاف نحو الروح" أي الداخل" وهنا تتجلى المعاني التوحيدية فالإنسان عندما يقف بعيداً عم العالم يفصل نفسه عن المؤثرات الخارجية وينفتح على مثله الحضاري الذي يعطيه معرفة أفضل بخالقه. وهذا يستتبع أن يبتكر جنت الخاصة والزخارف والتريين وكل المعالم الفنية التي يشملها البيت الدمشقي هي تماه مع رؤية الانسان للجنة في ذهنيته وايمانه. فكل انسان يصنع "جنته" على طريقته.
الخصيصة الثانية الجمالية: ليس هناك بيت شامي الا وفي تفاصيله معان جمالية إبداعية لا حد لها. النقوش الهندسية في باطن الاقواس وعلى العتبات والنوافذ تجعلنا تقف مدهوشين تجاه تقنية روحية لا تدانيها التقنية المادية الحديثة. والعامل الأمي-في اغلب الأحيان هو الذي أشاد ابداعه لأنه استمرار ولأنه محمل بمثله الحضاري.
الخصيصة الثالثة وظيفية: الخشبيات في البيت الشامي ليست مجرد تغطية بل تحمل وظيفة للخزن، لحماية الحاجيات النهارية التي تخفى في (اليوك) المستعمل للخزن ولكننا في الظاهر امام مواضيع زخرفية فنية نباتية او هندسية وهذا يضفي على القاعة صورة فنية تزينها ابيات من الشعر أو آيات من القرآن الكريم والزخارف خشبية أو حجرية والمشقف هو الذي يتألف من الأحجار والرخام ونراه على الأرض في القاعات او في صحن الدار آية من آيات الابداع.
الخصيصة الرابعة الاستقلالية أو المناخ المستقل: المسكن الشامي ليس مجرد شكل فهو يحقق هدفا ووظيفة وقد صمم ونفذ بحيث يجعل ساكنيه في مأمن عن الأشياء السيئة ويقي من العدوان الوحشي والمؤذي. ومن عدوان الطبيعة ويبعد عن الضجيج والتلوث الصحن هو المحور الأساسي للبيت مسدود من اطرافه حتى الباب الخارجي ولا يتصل الا بدهليز منحرف والباب بعيد جدا عن الصحن. وحين يفتح الباب نشعر ان هواء الصحن تحرك قليلا وحين يغلق الباب تتوقف حركة الهواء.
ودراسة ديناميكية الهواء تبين ان الصحن مؤلف من جورة (حفرة) وعندما يهب الهواء لا ينل الى أعماق الصحن الا إذا كان الباب الخارجي مفتوحا فالهواء سواء كان باردا او دافئا لا يدخل في الصحن الذي يبقى بمنأى عن التأثير الخارجي من ملوثات وغبار الخ.
الصحن إذن هو مصفاة داخلية تقي الساكنين من التأثيرات الهوائية الضارة. وهو تهوية حقيقية تترافق مع عوامل ترطيب للجو الجاف تؤمنها البرك المائية.
الخصيصة الخامسة المقباس الإنساني:
كل ما ذكر يؤمن المقياس الإنساني ولكن ليس بشرطه الجسدي-المادي بل يكرس الشرط الروحي في عالم خاص "فردوس" للإنسان يشعره بالطمأنينة والسكينة.
وينتقل المحاضر الى البحث في المؤثرات الفنية على العمارة الدمشقية وينطلق من الفن المدجن في منتصف القرن التاسع عشر عندما ظهر نوع من العمارة العربية الإسلامية المتأثرة بما يسمى ب "فن الباروك" وهذه الكلمة عربية حسب معجم المصطلحات العربية-الاسبانية ومصدرها براق. والنزعة الباروكية شملت كل أوروبا وامتدت الينا عن طريق الإمبراطورية العثمانية. وهي تظهر في مكتب عنبر وبيت شكر الدين الموجود في القاعة الشامية وهذه النزعة افسدت معالم العمارة الدمشقية لكنها لم تدم طويلاً وبقيت تأثيراتها محدودة.
العمارة الدمشقية والكلاسيكية المحدثة
يجسد الكلاسيكية المحدثة في دمشق مبنى البلدية الذي شيد في العام 1895. وهذا النمط يعتمد على الجبهة ولعل بناء الخط الحديدي الحجازي في زمن السلطان عبد الحميد والذي أدى الى سيولة مادية جعلت الاهتمام بمدينة دمشق كبيرا دفع الى استيراد المعمارين والمهندسين الأجانب ومنهم الألماني والاسباني والفرنسي والتركي كل هذا اعطى تحولاً كبيراً في نظام العمارة الدمشقية فكانت السرايا ومبنى اشرطة وكل الأبنية التي تحمل شكل العمارة الكلاسيكية المحادثة الشبيهة بالعمارة الرومانية إن كانت مبسطة جداً. والبيوت الدمشقية تأثرت بدورها بالخط الكلاسيكي المحدث عبر الجبهات وفي وضع الواكف على النوافذ والأبواب. وظهر هذا التحول جلياً في البيوت التي شيدت خارج الأسوار كما في حي الصالحية وحي الشهداء اما داخل الأسوار فبقي النمط المعماري محافظاً على طابعه العربي الإسلامي.
أما بناء محطة الحجاز فهو يحمل صفات محدثة على رغم ان ساحته الداخلية دمشقية محضة إضافة الى بعض الزخارف العربية الإسلامية وإذا شئنا ان نحدد أول غزو للعمارة الأوروبية في دمشق. فلسوف نوجه اصبعنا نحو بناء "كسم وقباني" الذي يقدم البصمات الأوروبية بشكل قوي وجريء. والدمشقية المحدثة يجسدها بناءان في شارع النصر هما عين الفيجة وقصر العدل. وتلاحظ فيها استعارة من معالم العمارة الاوروبية من ناحية البرانية وليس الجوانية ومن ناحية الغاء الصحن وشكل النوافذ والفتحات الخارجية.
بشار خليف – صحيفة الحياة اللندنية - 8\7\1991