أحمد الأغبري
لوحة القدس لليمني زكي يافعي: حرارة التلوين واشتعال الموقف في تفاصيل التكوين
8 - أبريل - 2024م
صنعاء ـ «القدس العربي»: أعلن التشكيلي اليمني زكي يافعي، مؤخرا، عن لوحة أنجزها لمدينة القدس بألوان أكريليك على كنفاس بمقاس 140 في 200 سم، أراد من خلالها إيصال رسالته تجاه ما تتعرض له فلسطين، خاصة قطاع غزة، من عدوان إسرائيلي متواصل منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. جاءت اللوحة مفعمة بقدرة لونية فائقة على استنطاق رؤية باتت واضحة في التفاصيل الصغيرة والهائلة، التي اشتغل عليها يافعي بعناية تكوينية، لم يهمل معها حتى ما تعرضت لها أحجار بيوتها جراء مرور الأزمان عليها؛ لتتجلى عن كل ذلك الروح العربية للمدينة العتيقة؛ وهي تخبر المشاهد حكايات من عبروا تاريخها، وكتبوا سيرتها، وتبتلوا في محاريبها وكنائسها، ونهلوا من معينها الحضاري، الذي يؤكد هُويتها العربية الفلسطينية. وفكرة اللوحة في الحقيقة، كما يوضح زكي لـ«القدس العربي» جاءت خلال ذهابه في الدوحة لتعزية الصحافي الفلسطيني وائل الدحدوح، الذي قضى معظم عائلته تحت القصف الإسرائيلي الراهن على القطاع.
يقول: «شعرتُ ساعتها بأن الكلمات لا تكفي لإيصال الرسالة؛ لأن الفقد كبير، والمصاب عظيم، والألم حاد جدا. فآثرت أن أقدم أقصى ما أملك؛ من خلال فرشتي وقدراتها التعبيرية، وذلك من خلال اختيار أكبر مشهد للقدس، بأكبر مقاس، واجتهد في إبراز تفاصيل المدينة العتيقة العتيدة». ويضيف: «لوحة تحمل عدة غايات، واستفادت من لغة الفن الناعمة، التي تعبر الحدود عبر الفضاء الأزرق، وتدخل القلوب دون استئذان. منها غايات قومية ووطنية وجمالية وإنسانية وتضامن وحب لهذه البقعة، التي علمت العالم معنى عشق الحرية والإباء والشموخ والكرامة». يافعي من أبرز فناني المدرسة الواقعية في اليمن، ينتمي إلى ما يمكن تسميته بجيل الوسط أو ما بعد جيل الشباب، إن جاز التوصيف.
الملمح البانورامي
تحمل اللوحة في موضوعها نصا بصرياً على قدر من الاختلاف في التعبير عن جمال مدينة القدس وملامحها، لاسيما وقد تعامل الفنان معها من زاوية أبرزت الملمح البانورامي لبؤرة المدينة؛ ممثلا في المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، ومحيطهما المديني، علاوة على أن توقيت اشتغالها يُمثل بُعدا إضافيا، باعتبارها تأتي في مرحلة حرجة من تاريخ القضية الفلسطينية؛ يشعرُ كل عربي إزاءها بجرح آخر دامٍ، يمكن قراءته في العجز والخذلان العربي الرسمي عن الانتصار لهذه المظلومية!
زكي يافعي
المنظور
عن اختياره للمنظور وزاويته، يقول:» اخترتُ هذا المنظور بإحساس الفنان المحب والمتعاطف، ومن قوة التعاطف والحب لرسمها كنت طماعا في اختيار زاوية مختلفة؛ كي أنجز عملا بحجم ذلك الشغف، الذي يتجاوز العادي، فالمحب عندما يُهدي فهو يُهدي أجمل ما لديه». ويضيف: «تعاملتُ مع اللوحة كتحدٍ لقدراتي كفنان، وتحدٍ آخر لمشاعري كعربي ومسلم. وقسوت بقوة على نفسي في اختيار الزاوية وإنجازها بهذا المنظور. أردتُ أن أنجز عملا لم يُنجز من قبل، من خلال الزاوية التي ظهرت معها المدينة في اللوحة، وكذلك المقاس الكبير،
والتفاصيل الهائلة؛ لأن أغلب مَن رسم القدس كان التركيز، في الغالب، على مسجد قبة الصخرة، مع أن المسجد الأقصى، هو الذي يلي قبة الصخرة بالقبة ذات اللون الكحلي، ولا أعلم لماذا في الإعلام يتم التركيز على صورة قبة الصخرة بشكل كبير على حساب بقية المكونات وفي مقدمتها المسجد الأقصى».
التكنيك
تمتاز تجربة يافعي بحرارتها العالية في التعامل مع الألوان، واستنطاق التفاصيل بحدة ما جعل من لوحاته، خاصة ذات العلاقة بالوجوه والمكان من التجارب التشكيلية الواقعية المميزة في المحترف اليمني. في ما يتعلق بالتكنيك والخامة فقد استخدم ألوان الأكريليك على كنفاس. وخاصية تكنيك هذا اللون كما يقول: إنها تحتاج لعدة طبقات حتى تظهر نظارة اللون. ولك أن تتخيل أن التفاصيل تم إعادة وتكرار رسمها بمعدل أربع إلى خمس طبقات أو مرات. فتخيل الحضور الذهني مع ضربات الفرشاة في التفاصيل مع هذا التكرار». تعامل يافعي مع التفاصيل بإحساس مختلف. يقول: وأنا أرسم المدينة، وأعيد الطبقات كي تظهر نظارة اللون كنت أشعر وكأنني أعيش في أزقتها، واستمع لقصص المارين عبر تاريخها، بما فيها قصص التضحية والفداء، التي ما زالت مقابر المدينة شاهدا عليها. وأضاف:» كنت أقرأ للشعراء قبل موعد جلسة الرسم، وأسمع أغاني للقدس كي أعيش جو المدينة، وأحاول وضع نفسي في قلب المشهد». واستطرد: «كانت رحلتي مع اللوحة مليئة بالصبر والتعب والمتعة. وأجمل ما يعيشه الفنان مع لوحته هو شعوره بالانتماء والحب لعمله وللموضوع. اعتبرها تجربة غير مسبوقة على امتداد تجربتي منذ ثلاثين سنة». ويتساءل يافعي: «متى يصير العالم منصفا، ويقول الحق، ويتألم لما يحصل في غزة. غزة التي فضحت كل دول العالم الكبرى التي تدعي حقوق الإنسان؛ بمعنى أنها أسقطت ورق التوت عن العالم. في مثل هذه الأحداث لن تكفي عبارات الشجب أو التعازي والمواساة». ويرى يافعي أن «للفن التشكيلي دورا كبيرا في اإصال رسائل عديدة لا تستطيع وسائل أخرى إيصالها. الفن هو لغة العالم التي تصل إلى كل مكان، بالاستفادة من نعومة لغته التي يقرأها ويفهمها جميع سكان المعمورة، ونحن نستفيد هنا من الشبكة العنكبوتية لإيصال صوتنا لونا وتعبيرا بصريا إلى أبعد مدى».