الطائرُ المُلوّن The Painted Bird
ربما كان الكثير قد غادر صالات العرض السينمائي عند مشاهدة فيلم ( الطائر المُلوّن ) المنتج عام 2019 ، و آخرون قطعوا مشاهدته و لم يكملوها ، ممن أرادوا التفرج عليه في بيوتهم ، لأنه ربما بدا لهم غامضاً ، مملاً و بلا معنى ، و هو بالأسود و الأبيض ، و فوق هذا لم يعلم الذين لم يكملوا مشاهدته أن طوله يقترب من الثلاث ساعات ، كما أن الفيلم أثار غضب و إحتجاج مشاهدين آخرين ، و دَعَوا الى مقاطعته ، لما تضمنه من مشاهد عنف ( مثل مشهد قلع العينين بملعقة ) ، ولكن ــ على الرغم من ذلك ــ فقد حظي الفيلم بإهتمام النقاد و نال الجوائز ، منها جائزة مهرجان ڤينسيا ( البندقية ) السينمائي الدولي في دورته السادسة و السبعين و وصل الى القائمة القصيرة لترشيحات أوسكار للأفلام الدولية الناطقة بلغة أجنبية في دورة عام 2020 .
فيلم ( الطائر الملون ) مقتبس من رواية بذات العنوان للكاتب الپولندي / الأمريكي " جيرزي كوزينسكي " ( 1933 ــ 1991 ) ، و يصور سيرة صبي يهودي ، مجهول الهوية و الإسم ، يشهد أهوال الحرب العالمية الثانية ( لعب دوره الصبي الچيكي " پيتر كوتلار " المولود عام 2007 ) . ولكن يمكن القول أن الفيلمَ مستفيدٌ من فيلم ( تعال و انظر ) الذي أخرجه ــ عام 1985 ــ المخرجُ الروسي " إليم كليموف " ( 1933 ــ 2003 ) ، و هو فيلم يتناول أيضاً سيرة صبي في الخامسة عشرة من عمره يشهد في بيلاروسيا أهوال الحرب العالمية الثانية ، و قد استفاد " كليموف " من تجربته الشخصية في تلك الحرب التي يقول عنها : (عندما كنت طفلاً ، كنت أعيش في الجحيم ، و لو أنني ضمّنت الفيلم كل ما رأيته وعرفته وأظهرت الحقيقة كاملة ، لما كان بوسعي ــ أنا شخصياً ــ أن أشاهده ) . غير أن فيلمه عليه عدة ملاحظات فنية ، ولكنه كان يدغدغ مشاعر القادة السوڤييت حينها فنال الجائزة الذهبية من مهرجان موسكو السينمائي الدولي في دورته الرابعة عشرة ، و إلا فإنه فيلمٌ عادي جداً .
ولكني أرى أن كلا الفيلمين يشكلان ظِلّين لرواية ( الساعة الخامسة و العشرون ) العظيمة التي كتبها الروماني " كونستانتين جورجيو " ( 1916 ــ 1992 ) ، و التي تتناول سيرة الشاب " أيوهان موريتز " الذي كان يخطط للسفر الى أمريكا من أجل كسب المال كي يؤسس عائلة ً مع حبيبته " سوزانا " ، ولكنه يَعدِل عن ذلك في اليوم التالي ، ثم تبدأ ــ لاحقاً ــ رحلة عذابه ، بعد أن أوقع به عريفٌ لئيم أراد أن ينال وطره من " سوزانا " .. فصدّتهُ . و هكذا يعيش في متاهة الحرب العالمية الثانية و يتنقل ــ طَوالَ الحرب ــ بين معسكرات الحلفاء و معسكرات النازيين التي تجري عليه تجارب بايولوجية . فيعيش في متاهة المعسكرات و البراري و المدن ، و لم يرَ " سوزانا طوال سنوات الحرب ، و عندما يلتقيها ، في النهاية ، يجدها تجر خلفها أطفالاً .. لا تعرف آباءَهم .
غير أن فيلم ( تعال و انظر ) ذو أسلوب واقعي بحت ، حمل في بدايته نكهة كوميدية ، بل كاد أن يغرق في الكوميديا ، فيما فيلم ( الطائر المُلوّن ) ذو مسحة فانتازية ــ سوريالية ، يحمل طابعاً تراجيدياً ، زادَهُ تراجيديةً كونه بالأسود و الأبيض ، و هو يكاد يقترب في إطاره العام من فيلم ( 120 يوماً في سُدوم ) للإيطالي " بيير باولو بازوليني " ( 1922 ــ 1975 ) الذي تصدى فيه للفاشية و الكنيسة ، فكان الفيلم ( أحد ) الأسباب التي أودت بحياته و رميِّ جثته في القمامة ، في ظرفٍ غامض ، بحيث مازالت الجهة التي قتلته غامضة الهوية حتى اليوم .
فيلم ( الطائر الملون ) فيلمٌ مليء بالرموز ، و مثلما الصبي مجهول الهوية و الإسم فإن الأماكن التي يحط فيها هي أماكن مجهولة و بلا أسماء أيضاً ، سوى أن الفيلم مجزأ الى إجزاء ، يحمل كل جزء منها إسمَ الشخصية التي سيكون مصير الصبي تحت رحمتها خلال متاهته ، و أولهم عمته " مارتا " ( لعبت دورها الممثلة " نينا أونيفيتش " ) ، التي تموت على كرسيها بهدوء و استرخاء ، و عندما يكتشف الصبي موتها يصيبه الهلعُ فيسقط من يده المصباح الزيتي ، ما يؤدي الى اشتعال النار التي تأتي على المنزل و ما فيه ، فلم يعد ثمة ما يربطه بالمكان ، و من هنا تبدأ رحلته في المتاهة . و لعل رمزية الفيلم و تعمُّد مجهولية هويات الأشخاص و أسماء الأماكن أملت على المخرج التشيكي " فاتسلاف مرهول " أن يستخدم في الفيلم لغة سلافية عامة ، أي اللغة التي يتحدث بها جميع السلافيين ، و ذلك كي لا يحدد دولة ما من دول أوروبا الشرقية التي تدور فيها أحداث الفيلم . و في رحلة متاهته يحط الصبي في عدة أماكن متنوعة ، ولكنها غرائبية ، و فيها يلتقي بأشخاص مختلفي الطبائع ، بعضهم غامض و آخر رحيم و آخر غير سَوي حد إغتصاب الصبي ، بل و يقع أيضاً في قبضة الآلمان الذين حيّرهم وجودُه بينهم ، ولكن عندما يعلم ضابطُهم أن الصبيَّ يهودي يكلف الضابط " هانز " بتصفيته على السكة الحديد في الغابة ( لعب دورَه القصير الممثلُ السويدي المعروف " ستيللان سكارسگارد " ) ولكنه ينفذ أمر التصفية بطريقة مراوغة .
يتميز فيلم ( الطائرُ المُلوّن ) بأن بطله الصبي يتحرك في فضاءات واسعة مفتوحة ، كونه هائماً في متاهة تسوقه عَبْرَها الصدفةُ و القدر ، و على عكس متاهة بطل فيلم ( تعال و شاهد ) الروسي ، مع الجموع ، فإن متاهة بطل ( الطائرُ المُلوّن ) متاهة فردية ، شبيهة بمتاهة " إيوهان موريتز " بطل رواية ( الساعة الخامسة و العشرون ) . غير أن ما يجمع الأعمال الثلاثة كون أحداثها تدور في أوقات متقاربة أثناء الإحتلال النازي لبلدان أوروبا الشرقية . ولكننا لو قارنا الفيلمين برواية ( الساعة الخامسة و العشرون ) سنكتشف عمق الرواية الفارق ، كون الفيلمين اعتمدا العنصر البصري الحركي الممنتج ، فيما كانت الرواية مبنية على أساس التوصيل اللغوي المتأني و المتأمل في إيصال الصورة الذهنية المتماسكة ، كما أن الرواية المبنية بتأنٍ تختلف كلياً عن العمل السينمائي المصنوع خلال فترة لا تتجاوز العام .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
ربما كان الكثير قد غادر صالات العرض السينمائي عند مشاهدة فيلم ( الطائر المُلوّن ) المنتج عام 2019 ، و آخرون قطعوا مشاهدته و لم يكملوها ، ممن أرادوا التفرج عليه في بيوتهم ، لأنه ربما بدا لهم غامضاً ، مملاً و بلا معنى ، و هو بالأسود و الأبيض ، و فوق هذا لم يعلم الذين لم يكملوا مشاهدته أن طوله يقترب من الثلاث ساعات ، كما أن الفيلم أثار غضب و إحتجاج مشاهدين آخرين ، و دَعَوا الى مقاطعته ، لما تضمنه من مشاهد عنف ( مثل مشهد قلع العينين بملعقة ) ، ولكن ــ على الرغم من ذلك ــ فقد حظي الفيلم بإهتمام النقاد و نال الجوائز ، منها جائزة مهرجان ڤينسيا ( البندقية ) السينمائي الدولي في دورته السادسة و السبعين و وصل الى القائمة القصيرة لترشيحات أوسكار للأفلام الدولية الناطقة بلغة أجنبية في دورة عام 2020 .
فيلم ( الطائر الملون ) مقتبس من رواية بذات العنوان للكاتب الپولندي / الأمريكي " جيرزي كوزينسكي " ( 1933 ــ 1991 ) ، و يصور سيرة صبي يهودي ، مجهول الهوية و الإسم ، يشهد أهوال الحرب العالمية الثانية ( لعب دوره الصبي الچيكي " پيتر كوتلار " المولود عام 2007 ) . ولكن يمكن القول أن الفيلمَ مستفيدٌ من فيلم ( تعال و انظر ) الذي أخرجه ــ عام 1985 ــ المخرجُ الروسي " إليم كليموف " ( 1933 ــ 2003 ) ، و هو فيلم يتناول أيضاً سيرة صبي في الخامسة عشرة من عمره يشهد في بيلاروسيا أهوال الحرب العالمية الثانية ، و قد استفاد " كليموف " من تجربته الشخصية في تلك الحرب التي يقول عنها : (عندما كنت طفلاً ، كنت أعيش في الجحيم ، و لو أنني ضمّنت الفيلم كل ما رأيته وعرفته وأظهرت الحقيقة كاملة ، لما كان بوسعي ــ أنا شخصياً ــ أن أشاهده ) . غير أن فيلمه عليه عدة ملاحظات فنية ، ولكنه كان يدغدغ مشاعر القادة السوڤييت حينها فنال الجائزة الذهبية من مهرجان موسكو السينمائي الدولي في دورته الرابعة عشرة ، و إلا فإنه فيلمٌ عادي جداً .
ولكني أرى أن كلا الفيلمين يشكلان ظِلّين لرواية ( الساعة الخامسة و العشرون ) العظيمة التي كتبها الروماني " كونستانتين جورجيو " ( 1916 ــ 1992 ) ، و التي تتناول سيرة الشاب " أيوهان موريتز " الذي كان يخطط للسفر الى أمريكا من أجل كسب المال كي يؤسس عائلة ً مع حبيبته " سوزانا " ، ولكنه يَعدِل عن ذلك في اليوم التالي ، ثم تبدأ ــ لاحقاً ــ رحلة عذابه ، بعد أن أوقع به عريفٌ لئيم أراد أن ينال وطره من " سوزانا " .. فصدّتهُ . و هكذا يعيش في متاهة الحرب العالمية الثانية و يتنقل ــ طَوالَ الحرب ــ بين معسكرات الحلفاء و معسكرات النازيين التي تجري عليه تجارب بايولوجية . فيعيش في متاهة المعسكرات و البراري و المدن ، و لم يرَ " سوزانا طوال سنوات الحرب ، و عندما يلتقيها ، في النهاية ، يجدها تجر خلفها أطفالاً .. لا تعرف آباءَهم .
غير أن فيلم ( تعال و انظر ) ذو أسلوب واقعي بحت ، حمل في بدايته نكهة كوميدية ، بل كاد أن يغرق في الكوميديا ، فيما فيلم ( الطائر المُلوّن ) ذو مسحة فانتازية ــ سوريالية ، يحمل طابعاً تراجيدياً ، زادَهُ تراجيديةً كونه بالأسود و الأبيض ، و هو يكاد يقترب في إطاره العام من فيلم ( 120 يوماً في سُدوم ) للإيطالي " بيير باولو بازوليني " ( 1922 ــ 1975 ) الذي تصدى فيه للفاشية و الكنيسة ، فكان الفيلم ( أحد ) الأسباب التي أودت بحياته و رميِّ جثته في القمامة ، في ظرفٍ غامض ، بحيث مازالت الجهة التي قتلته غامضة الهوية حتى اليوم .
فيلم ( الطائر الملون ) فيلمٌ مليء بالرموز ، و مثلما الصبي مجهول الهوية و الإسم فإن الأماكن التي يحط فيها هي أماكن مجهولة و بلا أسماء أيضاً ، سوى أن الفيلم مجزأ الى إجزاء ، يحمل كل جزء منها إسمَ الشخصية التي سيكون مصير الصبي تحت رحمتها خلال متاهته ، و أولهم عمته " مارتا " ( لعبت دورها الممثلة " نينا أونيفيتش " ) ، التي تموت على كرسيها بهدوء و استرخاء ، و عندما يكتشف الصبي موتها يصيبه الهلعُ فيسقط من يده المصباح الزيتي ، ما يؤدي الى اشتعال النار التي تأتي على المنزل و ما فيه ، فلم يعد ثمة ما يربطه بالمكان ، و من هنا تبدأ رحلته في المتاهة . و لعل رمزية الفيلم و تعمُّد مجهولية هويات الأشخاص و أسماء الأماكن أملت على المخرج التشيكي " فاتسلاف مرهول " أن يستخدم في الفيلم لغة سلافية عامة ، أي اللغة التي يتحدث بها جميع السلافيين ، و ذلك كي لا يحدد دولة ما من دول أوروبا الشرقية التي تدور فيها أحداث الفيلم . و في رحلة متاهته يحط الصبي في عدة أماكن متنوعة ، ولكنها غرائبية ، و فيها يلتقي بأشخاص مختلفي الطبائع ، بعضهم غامض و آخر رحيم و آخر غير سَوي حد إغتصاب الصبي ، بل و يقع أيضاً في قبضة الآلمان الذين حيّرهم وجودُه بينهم ، ولكن عندما يعلم ضابطُهم أن الصبيَّ يهودي يكلف الضابط " هانز " بتصفيته على السكة الحديد في الغابة ( لعب دورَه القصير الممثلُ السويدي المعروف " ستيللان سكارسگارد " ) ولكنه ينفذ أمر التصفية بطريقة مراوغة .
يتميز فيلم ( الطائرُ المُلوّن ) بأن بطله الصبي يتحرك في فضاءات واسعة مفتوحة ، كونه هائماً في متاهة تسوقه عَبْرَها الصدفةُ و القدر ، و على عكس متاهة بطل فيلم ( تعال و شاهد ) الروسي ، مع الجموع ، فإن متاهة بطل ( الطائرُ المُلوّن ) متاهة فردية ، شبيهة بمتاهة " إيوهان موريتز " بطل رواية ( الساعة الخامسة و العشرون ) . غير أن ما يجمع الأعمال الثلاثة كون أحداثها تدور في أوقات متقاربة أثناء الإحتلال النازي لبلدان أوروبا الشرقية . ولكننا لو قارنا الفيلمين برواية ( الساعة الخامسة و العشرون ) سنكتشف عمق الرواية الفارق ، كون الفيلمين اعتمدا العنصر البصري الحركي الممنتج ، فيما كانت الرواية مبنية على أساس التوصيل اللغوي المتأني و المتأمل في إيصال الصورة الذهنية المتماسكة ، كما أن الرواية المبنية بتأنٍ تختلف كلياً عن العمل السينمائي المصنوع خلال فترة لا تتجاوز العام .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ