Mohammed Dunia
مقالات مترجمة
مغامرة الكلمة الأولى
استطاع الباحثون تتبع مراحل تطور الطفل الصغير نحو اكتساب كلماته الأولى، خطوة بخطوة، وأصبحوا أفضل فهماً له. عموماً، يطلق الرضيع كلمته الأولى في سن ثمانية عشر شهراً: " بابا "، " ماما ".. . ولكن، لفهم كيفية ابتناء كائن متكلم، تلزم العودة إلى ما قبل الولادة بوقت طويل. في الواقع، تنطوي حكاية هذه المأثرة اللغوية على العلاقات التي يمكن أن يعقدها الطفل مع محيطه لاحقاً، وقبل ذلك على نمو حواسه، الذي يبدأ خلال الأسابيع الأولى من الحمل. يعيش الطفل حياته الرحمية مغموراً في عالم من الأحاسيس، فيكون على تماس مباشر وناشط مع المنبهات ( المثيرات ) التي تلتقطها حواسه الجديدة. ومنذئذ، يرتب هذه الأحاسيس بين مألوف، وممتع، ومزعج، ومنفر. بعد الولادة، يتأثر الرضيع بعالم أمه، المفعم بالأحاسيس، والذي يغدو بالتدريج مستندَه العاطفي ومرتكز أمانه الحتمي للشروع بنسج علاقاته مع الآخرين. إلا أن عالم تصوراته ينضم شيئاً فشيئاً إلى عالم أحاسيسه. في البداية، يعبّر الرضيع بالإيماءات والحركات والصراخ عما يريده من محيطه. وهكذا، تصبح ابتسامته حركةً ذات معنى له وللآخرين، كذلك الحال بالنسبة لكل حركات الجسم الأخرى، التي تتحول إلى مؤثرات ذات مغزى ودلالة. يزداد بذلك ثراءُ حياته النفسية، خصوصاً مع إحساسه بالتمايز عن أشخاص محيطه واتساع مدى ذاكرته، مما يساعده بعد ذلك في إدراك التسلسل المنطقي للأحداث. ثم يكتشف النوايا والذكريات، ويفهم أنه يستطيع التأثير على حياة الآخرين النفسية – العقلية بتواصله معهم عبر الأشياء. في وقت لاحق، يتمكن حتى من التحرر من هذه الأشياء، باستبدالها بالإشارات السائدة في محيطه: الكلمات.
بينت تقنيات استكشاف الرحم أن الرضع يتلقون منبهات حسية منذ الأسابيع الأولى من الحمل. مثلاً، اكتشف الباحثون أن تدخين المرأة الحامل يسبب حتى الفُواق ( صوت شهيقي حاد ) للجنين الذي تحمله. وفي نهاية الحمل، يتحرك الجنين، ويتسارع نظمه القلبي حين تسليط ضوء قوي على بطن أمه من الخارج... .
حمّام أحاسيس:
تتكون منظومات الجنين الحسية منذ وقت مبكر: اللمس أولاً، منذ الأسبوع السابع من الحمل، وتتنبه هذه الحاسة بشكل خاص من خلال حركاته نفسها في بطن أمه. ثم، الذوق والشم في الأسبوع الحادي عشر، حيث تعملان كحاسة واحدة. في الشهر الخامس، يدرك الجنين الأصوات الصادرة عن أمه ( أصوات القلب والأوعية والهضم... )، وكذلك تلك التي تأتيه من الوسط الخارجي عبر سائل السلى. أما الرؤية، فيتأخر ظهورها إلى ما قبل وقت قصير من الوضع. ومنذ الشهر السادس، يقضي الجنين جزءاً كبيراً من وقته في حالة نوم سريع، شبيه بالنوم العميق عند الراشد، والمسمى " نوم الأحلام ".
عندما يولد، يكون الطفل " مجهزاًً " منذ وقت مضى بما يساعده في تمييز عالمه الجديد: رائحة أمه، وصوتها.. . تكون كل الأشياء المألوفة والمُطمئِنة منقوشة في ذاكرته، وتمكّنه من أن يزداد نشاطاً وحيوية في عالمه الجديد. ويبدأ في هذا الحين تعلُّقه بأمه، وبوسطه المحيط، الذي سيكيف إلى حد كبير مستقبله الاجتماعي – العاطفي. وقد لوحظ أن الأطفال المُهمَلين أو المحرومين من الحب منذ الولادة تظهر عليهم علامات يأس أولاً، ثم انغلاق على الذات.
وسرعان ما يقترن عالم حواسه بالتصورات، وترتدي الأشياء والحركات معاني إضافية، فإن بدت الأم يائسة أو قلقة مثلاً، انعكس ذلك على الرضيع يأساً أو قلقاً، وإذا كانت مبتهجة ازداد فرحاً وابتساماً خصوصاً عبر ما يلقاه من دفء تناغمهما وتنغيماتِها الصوتية.
دور الذاكرة:
يقول طبيب الأطفال النفساني " دانيال. ن. شتيرن ": يتيح نمو الذاكرة للرضيع منذ الشهر الثالث أو الرابع أن يدرك تماماً أن هنالك ثوابت في وجوده، أي أشياء تسير معاً دائماً ولا تتغير. ويبدأ الرضيع، تدريجياً، بتمييز نفسه عن الآخرين وتعيين ما يخصه هو وما يخصهم هم: يشرع بتنظيم عالمه الاجتماعي. هنا أيضاً يزداد نمو ذاكرته، التي ستمكنه من بناء الزمن. ونحو سن ثلاثة أشهر، يأخذ الطفل باستيعاب تسلسل الوقائع وعلاقات السببية. إلا أن بدايات هذه القدرة تعود إلى فترة سابقة، إذ كان منذ ستة أسابيع يكف عن البكاء حين يجوع مثلاً حالما يرى أمه، بينما لم يكن قبل هذه السن يسكت قبل أن تبدأ بإطعامه.
نحو سن أربعة أو خمسة أشهر، يختبر الرضيع أولى تآثراته الاجتماعية: ينظر إلى عيون المحيطين به مباشرة ويعبر لهم عن انفعالاته ويتلقى انفعالاتهم عبر مجموعة كاملة من الإيماءات، والحركات، والصراخ. وتشكل هذه مرحلة هامة من تطور الطفل، حتى أنه إذا ما تأذت إحدى قابليات النمو لديه، فإن كل مستقبل علاقاته سيتأذى. الأطفال المنطوون على ذاتهم autistes مثلاً، يتضايقون عندما تقع نظرات الآخرين عليهم ويهربون من هذا النوع من التواصل، مما يكبل خبرتهم الاجتماعية بقيود ثقيلة، منذ وقت مبكر جداً من الحياة. ولكن، عندما ينمو الطفل بشكل طبيعي، تتطور تعابير نظراته شيئاً فشيئاً، متيحة له وللمحيطين المؤثرين به تقاسم المعلومات حول العالم الخارجي على نحو متنام. وحتى سن عشرة أشهر تقريباً، يعرب الطفل لأمه، حين تثبيته في مقعده المرتفع، أمام شيء يحبه ولا يستطيع الوصول إليه، عن رغبته في الحصول عليه، بأن يمد ذراعه وراحة يده نحو الأسفل، مع تهيّج شديد وأصوات نغمية قوية، مترافقة بأنظاره الموجهة بالتعاقب إلى الشيء وإلى أمه. ولكن نحو الشهر الثالث عشر، يتغير موقفه جذرياًً، ذلك أن الطفل يتمكن حينذاك من تصويب سبابته كي يشير إلى الشيء المرغوب. منذئذ، يهدأ، وتغدو تصويتاته النغمية أقل قنوطاً، وهو ما يثبت مزايا التهدئة الكامنة في هذه اللغة القبْلية!.
قلم حبر أو زهرة:
أول شيء يشير إليه الطفل هو دائماً شيء له دلالة، ذو معنى، كان قد ثمّنه الأبوان عبر سلوكهما. يسدد الرضيع إصبعه إلى قلم الحبر ليتواصل مع أب كاتب، ونحو زهرة إن كان الأبوان من زارعي أو بائعي الأزهار... . في هذه الحال، إن هذه الأزهار نفسها هي ما يعبث بها الصغير بغضب ليعبر عن استيائه من والديه!. إذن، يستخدم الأشياء كعلامات من أجل أن يشاطر والديه عالمهما العقلي.
نحو نهاية سنته الأولى، يدرك الرضيع أن له أوضاعه النفسية الخاصة به، وأنها غير مرئية بالنسبة إلى الآخرين، إلا إذا كشفها لهم. يتبين له إذن، في الوقت نفسه، أن بالإمكان أن يقاسم الآخرين بعض هذه الأوضاع. هذا الطفل، الذي كان حتى ذلك الحين في وضع رد الفعل استجابةً لتنبيهات آتية من الداخل، كالجوع، ومن الخارج، كابتسامة من شخص متعلق به، يبدأ بالتصرف على أساس فكرة أنه جزء من عالم الآخرين العقلي، مثلما يفعل كل راشد آخر!. نحو سن الـ 16 شهراً، يعي ذلك فيثير فيه حيرةً تستمر شهراً أو شهرين. " يبتعد عن قارة الإدراكات ليحط الرحال في قارة التصورات ما قبل اللفظية، وهذه القارة الجديدة التي يكتشفها تتمخض عن تحولات في سلوكاته. ولكن، عندما يفهم أن عالم الآخرين الداخلي ينفتح له، يحتار، إذ لا يعرف بعد كيف يجب استكشافه "، وفقاً لتحليل الطبيب النفساني وعالم السلوك " بوريس سيرولنيك ". يحدث أن يميل الرضيع حينذاك إلى الصمت، بعد أن كان يمتع المحيطين به بالثغثغة والمناغاة. في الواقع، تلك هي فترة انتباه مكثف، حيث يتهيأ الطفل من أجل الكلام. يدرك أن الكلمات لا تفيد إلا في إنتاج نوع من الموسيقى غير أنها رموز تفيد في الإشارة إلى شيء ما غير مرئي، تعيش في مكان آخر.
فترة سن 16 – 17 شهراً هذه، حيث يأبى الطفل أن يتكلم، تعقبها مرحلة يعود فيها إلى تقليد الأشخاص المحببين إليه. ولكن، في هذه السن، التفسير الذي يعطى للتقليد هو أمر مختلف تماماً. فحسب " بوريس سيرولنيك "، يكشف هذا التقليد عن متعة الطفل في " سكنى عالم الآخر ". بات الرضيع هنا يتمكن من القيام بشيء ما شاهد أحدهم يقوم به، ولكن لم يسبق أن قام به هو نفسه من قبل. لا يعود لصيق الواقع، إذ بات يعي أن بالإمكان تصور العالم.
هكذا، كالزهرة التي استغرقت أسابيع كي تنضج ولكن لتتفتح ذات ليلة، ينطق الرضيع كلمته الأولى. وتشمل أولاً الأشخاص المؤثرين عليه: بابا، ماما ...، ثم أشياء حياته اليومية. وشيئاً فشيئاً، يميل الطفل على نحو متنام إلى التجريد، إلى أن يشير إلى أشياء غائبة عنه ثم عن الآخرين.
المصدر Science & Vie / عدد خاص باللغة
ترجمة محمد الدنيا