قطر الندى
(… ـ 287هـ /… ـ 900م)
أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون من شهيرات النساء عقلاً وأدباً ومن ربات الحسن والجمال.
لما تولى الخلافة المعتضد أبو العباس أحمد بن الموفق طلحة بعد عمه المعتمد في 17رجب سنة 279هـ، بادر خمارويه للتصالح معه، فبعث إليه بهدايا وتحف، وسأله أن يزوج ابنته قطر الندى لولده المكتفي (أبو محمد علي) ولي العهد، فقال المعتضد: بل أنا أتزوجها، فتزوجها في سنة 282هـ في بغداد وأصدقها ألف ألف درهم.
أزالت هذه المصاهرة الوحشة بين خمارويه والمعتضد وصار بينهما مودة ومحبة، وولاه المعتضد ولآله من بعده الفرات إلى برقة ثلاثين سنة، وجعل إليه الصلاة والخراج والقضاء بمصر، على أن يحمل إليه كل عام ثلاثمئة ألف دينار، وجاء رسول المعتضد إلى خمارويه باثنتي عشرة خلعة وسيفاً وتاجاً ووشاحاً، وإرضاءً لابنه المكتفي قلده ولاية الري وقزوين وهمدان والدينور.
وكّل خمارويه الحسن بن عبد الله المعروف بابن الجصاص تدبير أمر الجهاز، وإعداده حتى يضاهي نعمة الخلافة، وكان ابن الجصاص رجلاً جوهرياً، وتاجراً، له نسب في بغداد وموطن في مصر, وبفنه وتدبيره راح يعد الجهاز على ما يتخيله جوهري وما يشتهيه تاجر، وفتحت له خزائن مصر على مصراعيها يغرف منها الآلاف الآلاف وينفق منها ولا يحاسبه أحد.
ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته قطر الندى أمر فبنى لها على رأس كل منزلة تنزل فيها قصرا فيما بين مصر وبغداد، وامتدت القصور بين شاطئ النيل وشاطئ بغداد حتى لا تحس العروس بعناء السفر, وخرج معها عمها نائباً عن أخيه خمارويه في جماعة من الأمراء مع ابن الجصاص، وحُمل معها جهاز لم يُرَ مثله أو يسمع، كان من جملة الجهاز دكة (سرير) أربع قطع من ذهب عليها قبة من ذهب مشبك في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة من جوهر لايعرف لها قيمة، ومئة هاون من الذهب لدق الطيب، ويقول الذهبي: «ألف هاون، وعشرون صينية ذهبية في عشرة منها مشام الصندل (مجامر لإحراق خشب الصندل والبخور) زنتها أربعة وثمانون رطلاً، وعشرون صينية فضة في عشر منها مجامر وزنها نيف وثلاثون رطلاً، ومن الثياب ما ثمنه عشرة آلاف دينار».
وكانت مصر يومئذ في مهرجان، فازينت كل دار فيها، وعلى كل لسان غنوة يتردد صداها على شطآن النيل «الحنة الحنة ياقطر الندى»، ولم تزل هذه الأغنية تردد على الألسن حتى اليوم.
وشيعتها عمتها العباسة إلى آخر أعمال مصر من جهة الشام ونزلت هناك في قرية سميت باسمها قيل لها العباسة، وهي عامرة إلى اليوم وبها جامع وسوق.
ومضى الموكب مشرقاً يطلب مطلع الشمس، وقد جلست العروس في هودجها بين النمارق والحشايا، وكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فكانت إذا وافت المنزلة، وجدت قصراً قد فُرش، فيه جميع ما تحتاج إليه، وأُعد فيه كل ما يصلح لمثلها.
كانت في مسيرها على بعد الشقة كأنها في قصر أبيها، حتى قدمت بغداد في أول محرم سنة اثنين وثمانين ومئتين.
ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته وإرسالها إلى زوجها المعتضد، تجهز وخرج إلى دمشق، وكان قد بنى قصراً بسفح قاسيون وأقام به.
بلغ موكب العروس شاطئ بغداد، ونودي في جانبي المدينة ألا يعبر أحد في دجلة، وغلقت أبواب الدروب التي تلي الشط والشوارع النافذة إلى دجلة، ووكل بجانبي دجلة من يمنع الناس أن يظهروا في دورهم أوأن يفتحوا النوافذ المطلة على الشاطئ.
ولما دخل بها الخليفة المعتضد أحبها حباً شديداً لجمال صورتها وكثرة آدابها، نام يوماً فلما استيقظ ولم يجدها عاتبها وقال لها: «أسلمت نفسي فتركتني وحيداً، وأنا في النوم لا أدري ما يفعل بي!» فقالت: «يا أمير المؤمنين: ما جهلت قدر ما أنعمت علي، ولكن فيما أدبني به والدي خمارويه: أني لا أجلس مع النيام، ولا أنام مع الجلوس، وأمير المؤمنين بعيني وعين الله»، وأكبر المعتضد جوابها، وتمكنت من قلبه.
ومضت شهور قبل أن يصلها نعي مقتل أبيها على يد غلمانه في فراشه ليلة الأحد 26 ذي القعدة سنة 282هـ وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وحمل في تابوت من دمشق إلى القطائع بمصر، وكانت مدة حكمه على مصر والشام اثنتي عشرة سنة وثمانية عشر يوماً.
وأشفق القدر على قطر الندى فلم تعش حتى تشهد زوال الدولة الطولونية، وماتت في ريعان شبابها، ودفنت داخل قصر الرصافة ببغداد إلى جانب الموفق والد الخليفة المعتضد.
فايز الحموي
(… ـ 287هـ /… ـ 900م)
أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون من شهيرات النساء عقلاً وأدباً ومن ربات الحسن والجمال.
لما تولى الخلافة المعتضد أبو العباس أحمد بن الموفق طلحة بعد عمه المعتمد في 17رجب سنة 279هـ، بادر خمارويه للتصالح معه، فبعث إليه بهدايا وتحف، وسأله أن يزوج ابنته قطر الندى لولده المكتفي (أبو محمد علي) ولي العهد، فقال المعتضد: بل أنا أتزوجها، فتزوجها في سنة 282هـ في بغداد وأصدقها ألف ألف درهم.
أزالت هذه المصاهرة الوحشة بين خمارويه والمعتضد وصار بينهما مودة ومحبة، وولاه المعتضد ولآله من بعده الفرات إلى برقة ثلاثين سنة، وجعل إليه الصلاة والخراج والقضاء بمصر، على أن يحمل إليه كل عام ثلاثمئة ألف دينار، وجاء رسول المعتضد إلى خمارويه باثنتي عشرة خلعة وسيفاً وتاجاً ووشاحاً، وإرضاءً لابنه المكتفي قلده ولاية الري وقزوين وهمدان والدينور.
وكّل خمارويه الحسن بن عبد الله المعروف بابن الجصاص تدبير أمر الجهاز، وإعداده حتى يضاهي نعمة الخلافة، وكان ابن الجصاص رجلاً جوهرياً، وتاجراً، له نسب في بغداد وموطن في مصر, وبفنه وتدبيره راح يعد الجهاز على ما يتخيله جوهري وما يشتهيه تاجر، وفتحت له خزائن مصر على مصراعيها يغرف منها الآلاف الآلاف وينفق منها ولا يحاسبه أحد.
ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته قطر الندى أمر فبنى لها على رأس كل منزلة تنزل فيها قصرا فيما بين مصر وبغداد، وامتدت القصور بين شاطئ النيل وشاطئ بغداد حتى لا تحس العروس بعناء السفر, وخرج معها عمها نائباً عن أخيه خمارويه في جماعة من الأمراء مع ابن الجصاص، وحُمل معها جهاز لم يُرَ مثله أو يسمع، كان من جملة الجهاز دكة (سرير) أربع قطع من ذهب عليها قبة من ذهب مشبك في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة من جوهر لايعرف لها قيمة، ومئة هاون من الذهب لدق الطيب، ويقول الذهبي: «ألف هاون، وعشرون صينية ذهبية في عشرة منها مشام الصندل (مجامر لإحراق خشب الصندل والبخور) زنتها أربعة وثمانون رطلاً، وعشرون صينية فضة في عشر منها مجامر وزنها نيف وثلاثون رطلاً، ومن الثياب ما ثمنه عشرة آلاف دينار».
وكانت مصر يومئذ في مهرجان، فازينت كل دار فيها، وعلى كل لسان غنوة يتردد صداها على شطآن النيل «الحنة الحنة ياقطر الندى»، ولم تزل هذه الأغنية تردد على الألسن حتى اليوم.
وشيعتها عمتها العباسة إلى آخر أعمال مصر من جهة الشام ونزلت هناك في قرية سميت باسمها قيل لها العباسة، وهي عامرة إلى اليوم وبها جامع وسوق.
ومضى الموكب مشرقاً يطلب مطلع الشمس، وقد جلست العروس في هودجها بين النمارق والحشايا، وكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فكانت إذا وافت المنزلة، وجدت قصراً قد فُرش، فيه جميع ما تحتاج إليه، وأُعد فيه كل ما يصلح لمثلها.
كانت في مسيرها على بعد الشقة كأنها في قصر أبيها، حتى قدمت بغداد في أول محرم سنة اثنين وثمانين ومئتين.
ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته وإرسالها إلى زوجها المعتضد، تجهز وخرج إلى دمشق، وكان قد بنى قصراً بسفح قاسيون وأقام به.
بلغ موكب العروس شاطئ بغداد، ونودي في جانبي المدينة ألا يعبر أحد في دجلة، وغلقت أبواب الدروب التي تلي الشط والشوارع النافذة إلى دجلة، ووكل بجانبي دجلة من يمنع الناس أن يظهروا في دورهم أوأن يفتحوا النوافذ المطلة على الشاطئ.
ولما دخل بها الخليفة المعتضد أحبها حباً شديداً لجمال صورتها وكثرة آدابها، نام يوماً فلما استيقظ ولم يجدها عاتبها وقال لها: «أسلمت نفسي فتركتني وحيداً، وأنا في النوم لا أدري ما يفعل بي!» فقالت: «يا أمير المؤمنين: ما جهلت قدر ما أنعمت علي، ولكن فيما أدبني به والدي خمارويه: أني لا أجلس مع النيام، ولا أنام مع الجلوس، وأمير المؤمنين بعيني وعين الله»، وأكبر المعتضد جوابها، وتمكنت من قلبه.
ومضت شهور قبل أن يصلها نعي مقتل أبيها على يد غلمانه في فراشه ليلة الأحد 26 ذي القعدة سنة 282هـ وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وحمل في تابوت من دمشق إلى القطائع بمصر، وكانت مدة حكمه على مصر والشام اثنتي عشرة سنة وثمانية عشر يوماً.
وأشفق القدر على قطر الندى فلم تعش حتى تشهد زوال الدولة الطولونية، وماتت في ريعان شبابها، ودفنت داخل قصر الرصافة ببغداد إلى جانب الموفق والد الخليفة المعتضد.
فايز الحموي