* المشغل الفوتوغرافي
** Photographic operator
Kahlil Altayar
*** الترابط والانفصال في منسيات
أعمال المصورة تمارا لاندروم
Tamara kirks Landrum
* د خليل الطيار
"لا شيء في حياتنا صامت، حتى الجماد له مهمة نطق خاص"
هكذا تبدو لي مهمة محتوى هذا الأعمال الفوتوغرافية الكبيرة رغم بساطة شيئياتها التي تمثل قيمة جمالية عالية تعكسها أعمال المصورة العالمية المبدعة Tamara landrum
ولدت المصورة الأمريكية (تام) كما ترغب بمناداتها اختصارا في ولاية ميزوري, ودرست الفنون في العام 1975 Fontbonne University لتحصل على شهادة البكالوريوس في مجال الفنون ومن ضمنها التصوير الفوتوغرافي، وفي العام 1989 أكملت دراستها العليا في جامعة Maryville University لتحصل على شهادة الماجستير ، لتعمل بعدها مدّرسة لمجالات الفنون التطبيقية ومنها فن التصوير الفوتوغرافي، وتدرجت في وظائف مختلفة. وبعد إحالتها على التقاعد أخذت تتفرغ لتعزيز مشوار اهتمامها بالتصوير معتمدة على خبرة دراستها وتجاربها المتخصصة بتصوير الزهور التي عملت على تقديم اشتغالات نوعية في عالمها.
الاهتمام في تصوير الزهور يتطلب من المصور أن يكون على مسافة اقتراب وتناص مع بيئاتها، والاعتماد على دقة تصويرها بمسافات قريبة وبأحجام لقطات الكلوز والكلوز آب والمايكرو. كما يتطلب زوايا نوعية خاصة لإظهار تفاصيل جمالياتها.
هذه الخبرة الطويلة في الاقتراب من الزهور وفر "لتمارا"فرصة رصد مخبوآت قريبة منها، أخذت عدستها تقترب منها شيئا فشيئا لتبدأ رحلة التركيز عليها في بادي الأمر كأشياء قديمة ومبعثرة تخلق عوالمها جماليات بَصًرية غريبة في إنشائية مجسماتها، شكّلت عندها أول انتباهة لإعادة الصلة بهذه الأشياء ومحاولة محاورتها جماليا، فعمدت على جعلها موضوعة لقصة فوتوغرافية خرجت منها بمحتوى بَصًري مختلف، ساعدت خبرتها في تصوير الزهور على استثمار عوالمها الساكنة ومراقبة دقيقة لتكويناتها والغوص في تراكيبها المختلفة، لتجد بيئة من العلاقات بدأت تكتشف فيها محتوى قادر على السرد انتزعته من عوالمها المنسية والمتروكة والمطمورة في دهاليز حياتها القديمة.
فذهبت لاقتناص وضعيات خاصة للسلاسل والأقفال و"البراغي" والنوابض وعقد الحبال والثقالات والمساند، مقيمة بينها علاقة وشائج تفضي لمحتوى سردي باهر.
فرغم كونها مصنوعات جامدة، لكنها تحتفظ بغاية سببية في حياتنا عبرت فيه عن تشكيل دعامات لتوطيد الأمان، وفرض الاستقرار وإقامة حدود التشابك القوي للأواصر المترابطة بين أمكنتها محافظة عليها من الخرق والانفلات.
وهي مفردات تشكل قيمة مكانية واعتبارية تلتصق بنا كعلامات ودلائل مؤثّرة في مسار حياتنا.
هذه المقاربة البَصًرية وجدنا المصورة "تمارا" تركّز فيها على تصوير آخر نقاط الالتصاق لحياة شيئياتها، متوقفة عند بداية إعلان انفصالها. أو تظهر رغبتها في البحث عن عرى ارتباط آخر تكون فيه متدلية وحائرة وقد فقدت الارتباط بالآخر .
كما أظهرت زوايا عدستها الذكية، قدرة هذه الأشياء على التعبير والبحث عن الشريك وإقامة علاقة وشيجة معه.
أعمال أفصحت عن سرد صامت وحزين إلا أنه ملغّم بالمعنى.
فمهما كانت الأشياء صلبة وعصية على الانكسار والفتح فلابد من نهاية لآجالها، وقد تصمد طويلا بفعل قوتها، لكن لن يكن بمقدورها مقاومة العوامل الطبيعية وتأثير قوى قاهرة، كثيرا ما عبّرت عنه "تمارا" بتركيزها على تصوير آخر نقاط الصمود ومقاومة الانفلات والتفكك بفعل إرادة خارجية.
ربما هذا الاشتغال هو جزء من التفريغ النفسي الذي وجدت المصورة "تمارا" نفسها فيه وهي تفقد زوجها في العام ٢٠١٣ بعد أن عاشت معه قصة حياة رائعة، جسدتها بالزهور ليرحل ويتركها أرملة تصارع لوحدها معترك الحياة بعد أن انكسرت آخر حلقة ارتباط في ديمومة حياتها!
هذا الانفصال الإنساني والروحي حاكته بتصوير هذه الأشياء المنسية في دهاليز حياتنا، فلا شيء يستمر بالحياة إلى ما لا نهاية رغم حجم مواردنا القوية ولا بد أن تنهي يوما ما وتتآكل شيئا فشيئًا وتزول حلقاتها.
تمارا" تنجح دائما باختيار زوايا ذكية لأعمالها يجعل موضوعة صورها يعبّر بقوة عن هذه القيمة التعبيرية فهي تتقصد ترك سلاسلها تتدلى نحو الأسفل في دلالة معبرة وقد خسرت أول حلقاتها التي ستكون الخطوة الأولى نحو نهايات حياتها الحتمية ، وان حاولت المقاومة لتبقى.
وكثيرا ما تركّز على إظهار حجم التآكل والصدأ في أجساد شيئياتها لتكشف عن معادنها الحقيقية بعد التعري عن أصباغها الصناعية!
"الالوان معرقلة للطريق"
رغم إحساسها العميق باللون جراء خبرتها الطويلة بتصوير الزهور، إلاّ أن "تمارا" لا تفضل تصوير هذه العوالم الخاصة بألوانها الطبيعية وتركّز على تصويرها بالأسود والأبيض وتعده ملاذها الأول، في رغبة أخرى للعزلة بلا مؤثرات خارجية، لأنها كما توصفه في تعبير دقيق "الألوان معرقلة للطريق" .
"لا فلسفة بغياب الانسان"
مسيرة فوتوغرافية متفردة تقول "تمارا" عنها "إنها لا تحب تصوير الناس فيها"، بل هي تبتعد عنهم فلا وجود للإنسان في جميع صورها! وهي دالة أخرى في تعبيرية اشتغالها، وتفضّل التركيز على تصوير الزهور والأشياء القديمة المتروكة ولا تتقصّد بعدا فلسفيا فيها، بقدر ما يشغلها تلك العوالم والأشياء المنسية في حياتنا دون ان ينتبه احد لمحاكاتها.
وهي أعمال كبيرة في ثرائها البَصًري رغم اعتمادها مفردات بسيطة نجحت المصورة العالمية "تمارا" في وضعها في جماليات فوتوغرافية معبّرة.
*********************
ملاحظة: المقال منشور في العدد الأخير " السابع والأربعين" من مجلة مدارات الثقافيّة.
تعليق