"أنا الكابتن".. أوديسة أفريقية معاصرة صوب الحلم الأوروبي
الفيلم يدين الجحيم الذي يلتهم المهاجرين في الصحراء والبحر.
شعلة الأمل لا تنطفئ أبدا
قدمت السينما مقاربات مختلفة لقضية الهجرة غير النظامية، ومازالت الكثير من القصص الحقيقية أقوى بكثير مما نراه على الشاشة، قصص تسرد تراجيديات مفزعة تثبت كمّ البؤس الإنساني، والنظرة القاصرة إلى موضوع الهجرة والمهاجرين. وهذا ما يحاول تجاوزه فيلم “أنا الكابتن” للمخرج الإيطالي ماتيو غارون.
يروي فيلم “أنا الكابتن” رحلة شابين أفريقيين، سيدو (سار) وموسى (مصطفى فال)، وهما أبناء عم، يبلغان من العمر 16 عاما يعيشان في داكار ويحلمان بالانتقال إلى أوروبا. كانا يعملان سراُ لأكثر من ستة أشهر لجمع ما يكفي من المال للقيام بالرحلة من أفريقيا إلى أوروبا.
كان الشابان يعيشان حياة بسيطة ضمن روابط عائلية قوية وتضامن بين الجيران. يذهبان إلى المدرسة ويغنيان في الحفلات. يغيب سيدو كثيرا عن أمّه، حتى أنها تتصور أنه يلهو بلعب كرة القدم مع أقرانه، لكنه اتخذ لنفسه عملا بدائيا لتدبير مبلغ من المال يغطي تكاليف السفر، وهو يسعى لإقناع ابن عمه موسى بالذهاب معه إلى إيطاليا لتحقيق حلم الشهرة ويصبحا من نجوم البوب في أوروبا، على عكس الآلاف من المهاجرين الفارين من الحروب الأهلية أو المجاعات.
تغضب والدته (سيدوس موتر) بشدة وتنهره وتحذره من الموت الذي ينتظره كما حدث للكثيرين “هل تعرف عدد الذين غادروا وماتوا في الصحراء؟ وهل تعرف كم عدد الذين غرقوا في البحر؟”. ورغم ذلك، كان الفتى مصمما على عبور البحر الأبيض المتوسط لبدء حياة جديدة على شواطئ أوروبا.
رحلة العذاب
الفيلم رسالة طليعية سياسية ينأى بنفسه عن المنطق الغربي الذي يحاول أن ينظر إلى أزمة اللجوء بأنانية شديدة
يتسلل الشابان ليلا من دون علم الأهل ويركبان حافلة تنقلهما إلى مالي، وهناك يدفعان مبلغا محترما من مدخراتهما للحصول على جوازي سفر ماليين مزورين، يكفلان لهما مواصلة الرحلة. وفي مفارقة طريفة، يوقفهما ضابط الحدود عند عبورهما إلى النيجر، فهما يرتديان نفس القميص في صورة جواز السفر، رغم أن تاريخ صدور الجواز قبل سنتين.
من أجل تجاوز هذه المعضلة يتعين عليهما دفع مبلغ آخر رشوة. بعد مالي تستمر الرحلة إلى ليبيا، ومن هناك يتعين دفع مبلغ آخر لعصابة المهربين للعبور إلى ليبيا. تنقلهم سيارة مع عدد كبير من اللاجئين لعبور الصحراء الأفريقية، فجأة تتوقف ويأمر السائق الجميع بالخروج ومواصلة السير في الصحراء مشياً على الأقدام .
تصبح رحلتهما أوديسة أفريقية معاصرة من خلال مزالق الصحراء وأهوال مراكز الاحتجاز في ليبيا، لم يمض وقت طويل قبل أن يتم خداعهما في ما يتعلق بتزويدهما ببطاقات الهوية المزيفة، والاعتماد على دليل عبر الصحراء الكبرى إلى ليبيا. في كل خطوة من الطريق يتم استنزاف أموالهما من قبل المهربين المحتالين الذين يعدونهما بسهولة العبور.
تتم قيادة سيدو وموسى عبر الصحراء في سيارات الجيب التي ترتد عبر الكثبان الرملية في مشهد يبدو مثيرا تقريبا حتى يصبح من الواضح أنه إذا سقط أيّ من الركاب المعلقين، فإنهم ميتون. لن يستدير أحد، أصبحت حياة الإنسان رخيصة. المناظر الرملية الجميلة التي تم تصويرها بشكل جميل من قبل باولو كارنيرا مشاهد غنية بالموسيقى والألوان.
يحافظ الشاب (سيدو) على بصيص من التفاؤل الشبابي في البقاء على قيد الحياة، حتى عندما يواجه أكواما من الجثث أو يكلف بمسؤوليات أكبر من عمره. الصبي عازف الطبول في داكار لن يتخلى عن أحلامه. يشاهد جثثا تطفو عبر الصحراء إلى بر الأمان أو يسافر لرؤية والدته، مسترشدا بالموروثات الشعبية والقصص الخيالية وبالتحديد في مشهد المرأة التي تحتضر ويطفو جسدها محلقا طائراً فوق رأس الشاب (سيدو). يحاول سيدو الحفاظ على إنسانيته وحتى أحلامه بإنقاذ حياة امرأة تطفو فوقه.
في الواقع الفيلم ينضح بالإنسانية حتى في أكثر المواقف المأساوية حيث يتشبث البطل بالشعور بالأخوة والأمل في النجاة
يواصل الشابان السير مع الآخرين على طول الصحراء، وبينما يشرع الأولاد في رحلتهم، تلقوا نصيحة محنكة حول تخزين أموالهم في قنواتهم الشرجية أو المخاطرة بسرقتها من قبل مجموعات متمردة مختلفة أثناء عبورهم الصحراء الكبرى، ولكن النصيحة فات وقتها، إذ تتعرض قافلة السائرين في الصحراء لهجوم من قبل عصابة ليبية مدججة بالسلاح، توهم الجميع بأنهم حراس الحدود الليبيين، فهم يتكلمون العربية. تسلب العصابة أموال قافلة اللاجئين ويقتادون موسى بعد أن استولوا على ماله.
بعدها، يقودون الجميع إلى معسكر رهيب، يتعرضون فيه للتعذيب والتهديد والترويع، ويخيّرونهم بين الاتصال بذويهم وطلب فدية وتحويل مبالغ مالية على الفور أو يكون مصيرهم الموت. في أحد المشاهد المزعجة، حين تجبر العصابة سيدو ورفاقه اللاجئين على شرب السوائل من أجل التغوط وفحص برازهم بحثا عن المال. تصبح الأمور أكثر قتامة عندما يختطف رجال العصابات الليبيون سيدو وقافلته، ويعذبون أولئك الذين لا يستطيعون ابتزاز عائلاتهم في الوطن من أجل المال.
تتعرض قافلة اللاجئين المتعبين لمجموعة مشاهد من التعذيب على يد العصابات الليبية. والأسوأ من ذلك، ما ينتظرهم في مركز الفرز، حيث يتم تقسيم المهاجرين وفقا لجنسيتهم ويتم تعذيبهم لإجبارهم على الاتصال بالمنزل والحصول على عائلاتهم على إرسال الأموال لإعادة شراء حريتهم. يتابع الشاب سيدو رحلة التعب وحده بعد فصله عن رفيقة (موسى)، في إحدى المرات، يستعبد من قبل أحد تجار الحروب في ليبيا من أجل بناء نافورة مقابل حريته.
ملحمة عبر المتوسط
محاولة الفرار في رحلة العذاب
رغم كل الصعاب إلى مدينة طرابلس الساحلية واجتماعه مع ابن عمه (موسى) المصاب بجروح، يتمكن الشابان من الإفلات ويستعدان للإبحار من المدينة الساحلية زوارة الليبية، التي أصبحت في السنوات القليلة الماضية مركزا رئيسيا لمغادرة المهاجرين الأفارقة الذين يصلون في النهاية إلى سواحل لامبيدوزا أو صقلية. يعهد المتاجرون بالبشر الذين ينظمون الرحلة على متن قارب صيد متهالك السفينة إلى الشاب سيدو في قيادة المركب. بعد تزويده بالحد الأدنى من التعليمات من قبل المهربين.
يصبح قائد القارب (ومن هنا جاء عنوان الفيلم)، يتم تكليفه بنقل المئات من اللاجئين على بعد 500 كم إلى صقلية. قيل لسيدو الذي لم يقد أيّ قارب أبدا في حياته إنه يمكنه الذهاب إذا قاد قاربا مليئا باللاجئين الآخرين وقاده إلى إيطاليا. في الواقع، هذه ممارسة شائعة بين المهربين الذين يتجنبون السجن في إيطاليا عن طريق إرسال أطفال لا تتجاوز أعمارهم 15 عاما لقيادة سفنهم الخاصة. هذا بالطبع يفسر العديد من الكوارث البحرية.
ورغم صغر القارب، لكنه امتلأ بالأفارقة المذعورين في كل شبر صدئ منه. يجد الشاب سيدو نفسه مسؤولا عن حمولة قارب من اللاجئين، بعضهم في حالة صحية سيئة، أطفال ونساء ورجال من كبار السن وامرأة حامل. على متن المركب، هناك نقص في مياه الشرب، ولكن على رأس القيادة قائد شجاع هو الصبي سيدو.
ماتيو غارون: سيناريو الفيلم كتبته من وجهة نظر اللاجئين وتلك نظرة معاكسة مقارنة بالصور التي اعتدنا رؤيتها في أوروبا
كتب غارون سيناريو الفيلم مع ثلاثة إيطاليين، ماسيمو تشيشيريني وماسيمو غاوديوسو وأندريا تاغليافيري، لكنه استفاد من تعاون مختلف الأفارقة الذين أخبروه برحلاتهم، على وجه الخصوص كواسي بلي أداما مامادو، وهو شاب إيفواري فر من المجاعة والحرب الأهلية التي كانت تعصف ببلاده حتى عام 2011، والذي يعمل اليوم كوسيط متعدد الثقافات (يتحدث 13 لغة) في كاسيرتا. صرح المخرج بأنه كتب سيناريو الفيلم من وجهة نظر اللاجئين وتلك نظرة معاكسة مقارنة بالصور التي اعتدنا رؤيتها من خلال وجهة النظر الغربية.
تحدث كواسي بلي أداما مامادو صاحب القصة الحقيقة في مقابلات عديدة عن القسوة والعنف اللذين واجههما خلال رحلة اللجوء والوصول إلى الشواطئ الإيطالية، “كانت القسوة والمعاناة والعنف في الحقيقة أعنف وأشد مما أظهره الفيلم”. فمحنة اللاجئين ظهرت عبر أفلام كثيرة في السينما الأوروبية التي تصور عذاب اللجوء من بلدان العالم الثالث، وآخرها فيلم المخرجة البولندية أغنيسا هولاند الذي يحمل عنوان “الحدود الخضراء”، حيث ترصد الكاميرا رحلة الفرار من بؤس أفريقيا إلى أوروبا على تلك القوارب المعبأة بالآلاف من البشر.
لقد جعلنا الفيلم مشدودين مع خوف وقلق الصبي سيدو وثقل المسؤولية على كتفه. نتوقع الأسوأ والشك بنجاح الصبي سيدو في إدارة دفة القارب والوصول به إلى بر الأمان، مما يخلق شيئا من اللغز مع اللحظات الختامية للفيلم. على الرغم من أنهما يبدوان محكومين على فقدان حياتهما عدة مرات خلال الفيلم، إلا أن سيدو وموسى تمكنا دائما من الخروج من أصعب المواقف أكثر قوة وشجاعة وإصرارا.
ختام رحلتهما كانت بنهاية متفائلة حيث تمكن سيدو من الإبحار بقارب يحمل المئات من المهاجرين إلى صقلية، ونسمع صرخة القبطان الشاب سيدو المرتجلة المؤثرة، هذه الصرخة تحطم الآذان الصماء للعناصر اليمينية وأحزابها “أنا الكابتن، لم يمت أحد في عبور البحر الأبيض المتوسط؛ أحضرت الجميع إلى إيطاليا”.
يذكرنا الهيكل العام لرحلة “آيو كابيتانو” بالفعل بقصيدة هوميروس الملحمية، مما يعكس رحلة اللاجئين السنغاليين إلى أوروبا.
هل القصة حقيقية
رسالة قوية تهز الضمائر
يتحدث المخرج عن فيلمه قائلا “ما دفعني إلى سرد هذه القصة هو ما يحدث في أوروبا طوال الوقت، نشاهد في نشرات الأخبار كل يوم مأساة عن قارب جديد من المهاجرين. غالبا ما يترك هؤلاء الأشخاص عائلاتهم ويتحملون هذه المخاطرة بناء على أحلامهم ورغباتهم وتطلعاتهم وعواطفهم. كانت فكرة الفيلم هي إظهار أجزاء هذه الرحلة التي لا يعرفها الكثير من الناس. أردت أن أعطي صوتا للأشخاص الذين لا يفعلون ذلك في الكثير من الأحيان وأن تروى القصة من خلالهم”.
ومع ذلك، فإن الطريقة التي يتعامل بها المخرج مع هذه الأحداث وسرده للقصة كانت بصيغة تقليدية وتثير تساؤلات. ما الذي يمكن أن تضيفه حكاية فيلم “إيو كابيتانو” إلى الخطاب المتشدد حول الهجرة وسطوة الأحزاب اليمينية المتطرفة؟ يبدو أن سرد غارون المبسط يهون المصاعب والمواقف الحقيقية التي يجد اللاجئون أنفسهم فيها والمتاعب والخيارات التي يتعين عليهم اتخاذها.
على النقيض من تصريح مامادو كواسي أحد أبطال القصة الحقيقية الذي عانى من هذا “حتى اليوم، أينما شاهدت الفيلم، أتذكر، لم أستطع إنقاذ إنسان أمام عيني، يموت في الصحراء. لقد تم بيعنا مثل العبيد في ليبيا. لقد رأيت في الفيلم كيف عوملنا كحيوانات. وهذه حقيقة واقعة، وأعتقد أيضا، عندما طلب مني المخرج ماتيو سرد هذه القصة؛ لم أخف ذلك ببساطة لأنني رأيت أنه مهم. بالنسبة إليّ، أتذكر أنه قبل بضعة قرون، قالوا إن العبودية قد ألغيت في أميركا أولا، ثم في أوروبا وبلدان أخرى، ولكن الحقيقة أنها مازالت موجودة. يدور الفيلم حول إعطاء الحقوق لجميع الناس في العالم”.
في الواقع الفيلم ينضح بالإنسانية حتى في أكثر المواقف المأساوية حيث يتشبث البطل بالشعور بالأخوة والأمل في النجاة
من المشاهد المؤثرة لحظة عثور سيدو على ابن عمه. ولحظة استسلامه وانهيار موسى، والرغبة في العودة إلى المنزل وندمه على قراره. ويرد المخرج ماتيو غارون على سؤال لماذا تناول هذا الموضوع ؟ فيقول “استغرق الأمر مني بعض الوقت لمعالجة هذه القصة بعد أن سمعت قصة ألهمتني. ظللت أؤجله. جمعت قصة ثلاثة رجال قاموا بهذه الرحلة. نظمت معهم عدة لقاءات قبل كتابة السيناريو. كان لديّ شعور بأن هناك جزءا من هذه الرحلة لم يكن معروفا في الخيال الغربي”.
ويضيف “بالطبع هناك أشخاص يعرفون – أو على الأقل يجب أن يعرفوا – أن هناك رحلة عبر الصحراء، ومعسكرات اعتقال في ليبيا، ونظاما كامل وراء المهربين. لكنه عالم كامل لم يتم إخباره بصريا. هذا ما دفعني إلى وضع الكاميرا من زاويتهم”.
ما يميز فيلم غارون في تصوري هو إدانة الجحيم الذي يقابل المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى وعبورها للوصول إلى الشواطئ الإيطالية. رسالة قوية جدا، تهز الضمائر: عندما يطلب اليمين المتطرف العنصري والاستعمار الجديد الوقوف ضدهم.
القصة التي يرسمها ماتيو غارون مستوحاة من الأحداث الحقيقية لبعض المهاجرين، قصة مامادوم الذي وصل إلى إيطاليا قبل خمسة عشر عاما من كوت ديفوار بعد سجنه وتعذيبه لمدة 40 شهرا في مخيم ليبي، وقصة القصر فوفانا أمارا، الذي أنقذ المئات من الأشخاص على متن قارب غادر ليبيا، وعند الوصول إلى إيطاليا، تم القبض عليه وإدانته كتوجيه. فيلم “أنا الكابتن” في الواقع، ينضح بالإنسانية حتى في أكثر المواقف المأساوية، يتشبث بطل الرواية بالشعور بالأخوة، في حاجة ماسة إلى البقاء إنسانا. لا تنطفئ شعلة الأمل أبدا حتى في أكثر اللحظات فظاعة وقسوة.
أدت رؤية الفيلم من ناحية إلى التأكيد بأنها قصة حقيقية أو على الأقل معقولة (أعلن المخرج أن القصة تستند إلى شهادات أولئك الذين واجهوا الرحلة حقا)، رحلة الأوديسا الأفريقية والتي تشبه إلى حد كبير رحلة هوميروس تنتهي بنهاية سعيدة رغم جهلنا في معرفة ما يحدث للشابين في إيطاليا، عندما يهبط المهاجرون على سواحل صقلية يهتف الرجال والنساء الذين أحضرهم سيدو إلى بر الأمان حين يدركون أنهم وصلوا إلى إيطاليا بعد رحلة هادئة تماما باستثناء لحظات اليأس بسبب العطش والتعب. ينزلق القارب بهدوء فوق المياه الهادئة وتلد امرأة حامل بأعجوبة.
بالطبع يعرض لنا الفيلم صور الجثث في الصحراء، والتعذيب الرهيب الذي يعاني منه المهاجرون في السجون الليبية، لا يخبرنا غارون هنا بأي شيء جديد، أو على الأقل، لا ينبغي له، إذا كان المشاهد فقط مهتما بالمسألة، أن يجد ذلك في نشرات الأخبار. يبدأ المخرج غارون بفكرة عدم الرغبة في صنع فيلم سياسي، ربما يكون خيارا مثيرا للجدل إلى حد ما بالنظر إلى نطاق القصة التي يرويها. كانت محاولة المخرج إضفاء الطابع الإنساني على تاريخ الناس الذي يتم تهميشه الآن باستمرار عن طريق الأدوات السياسية، وذلك بفضل الأداء الصادق والقوي لسيدو (سار) الحائز على جائزة مارسيلو ماستروياني المستحقة عن جدارة لأفضل ممثل ناشئ.
الفيلم تم تصويره في السنغال وإيطاليا والمغرب مع مجموعة من الممثلين غير المحترفين، أراد مخرجه تقديم فيلم حقيقي عبر شابين مراهقين لم يغير حتى اسميهما، حتى أنه أخذهما إلى منزل والدته. يعيش الشابان حاليا مع السيدة غاروني في فريجيني. ويلعب سيدو كرة القدم في الفريق المحلي.
يريد المخرج غارون أن يظهر هجرة مختلفة عن تلك الناجمة عن الجوع والحرب والكوارث المناخية. هجرة غير قسرية ولكن ببساطة مرغوبة من قبل رجلين يحلمان (بفضل وسائل التواصل الاجتماعي) للوصول إلى أوروبا وأن يصبحا موسيقيين مشهورين . وهكذا يعيد صورة السنغال الفقيرة والبسيطة، حيث يعيش أهلها في أكواخ خشبية ملونة ونظيفة وحيث لا ندرك أيا من المشاكل الخطيرة التي تصيب البلاد (البطالة والفساد والاستيلاء على الأراضي ومضاربة البناء والاستعمار الجديد).
في الختام أرسل فيلم “أنا الكابتن” رسالة طليعية واضحة وسياسية، وبذلك ينأى بنفسه عن المنطق الغربي الذي يحاول أن ينظر إلى أزمة اللجوء بأنانية شديدة. والتأثير على الرأي العام الأوربي عند طرح مأساة الهجرة من وجهة نظر قاصرة، فمن الصعب تجريد فيلم عن الهجرة من المحتوى الاجتماعي والسّياسي المصاحب للظاهرة، وبدلا من مواجهة موجات اللاجئين بالعنف والإقصاء والعنصرية لا بد من إيجاد الحلول.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
علي المسعود
كاتب عراقي
الفيلم يدين الجحيم الذي يلتهم المهاجرين في الصحراء والبحر.
شعلة الأمل لا تنطفئ أبدا
قدمت السينما مقاربات مختلفة لقضية الهجرة غير النظامية، ومازالت الكثير من القصص الحقيقية أقوى بكثير مما نراه على الشاشة، قصص تسرد تراجيديات مفزعة تثبت كمّ البؤس الإنساني، والنظرة القاصرة إلى موضوع الهجرة والمهاجرين. وهذا ما يحاول تجاوزه فيلم “أنا الكابتن” للمخرج الإيطالي ماتيو غارون.
يروي فيلم “أنا الكابتن” رحلة شابين أفريقيين، سيدو (سار) وموسى (مصطفى فال)، وهما أبناء عم، يبلغان من العمر 16 عاما يعيشان في داكار ويحلمان بالانتقال إلى أوروبا. كانا يعملان سراُ لأكثر من ستة أشهر لجمع ما يكفي من المال للقيام بالرحلة من أفريقيا إلى أوروبا.
كان الشابان يعيشان حياة بسيطة ضمن روابط عائلية قوية وتضامن بين الجيران. يذهبان إلى المدرسة ويغنيان في الحفلات. يغيب سيدو كثيرا عن أمّه، حتى أنها تتصور أنه يلهو بلعب كرة القدم مع أقرانه، لكنه اتخذ لنفسه عملا بدائيا لتدبير مبلغ من المال يغطي تكاليف السفر، وهو يسعى لإقناع ابن عمه موسى بالذهاب معه إلى إيطاليا لتحقيق حلم الشهرة ويصبحا من نجوم البوب في أوروبا، على عكس الآلاف من المهاجرين الفارين من الحروب الأهلية أو المجاعات.
تغضب والدته (سيدوس موتر) بشدة وتنهره وتحذره من الموت الذي ينتظره كما حدث للكثيرين “هل تعرف عدد الذين غادروا وماتوا في الصحراء؟ وهل تعرف كم عدد الذين غرقوا في البحر؟”. ورغم ذلك، كان الفتى مصمما على عبور البحر الأبيض المتوسط لبدء حياة جديدة على شواطئ أوروبا.
رحلة العذاب
الفيلم رسالة طليعية سياسية ينأى بنفسه عن المنطق الغربي الذي يحاول أن ينظر إلى أزمة اللجوء بأنانية شديدة
يتسلل الشابان ليلا من دون علم الأهل ويركبان حافلة تنقلهما إلى مالي، وهناك يدفعان مبلغا محترما من مدخراتهما للحصول على جوازي سفر ماليين مزورين، يكفلان لهما مواصلة الرحلة. وفي مفارقة طريفة، يوقفهما ضابط الحدود عند عبورهما إلى النيجر، فهما يرتديان نفس القميص في صورة جواز السفر، رغم أن تاريخ صدور الجواز قبل سنتين.
من أجل تجاوز هذه المعضلة يتعين عليهما دفع مبلغ آخر رشوة. بعد مالي تستمر الرحلة إلى ليبيا، ومن هناك يتعين دفع مبلغ آخر لعصابة المهربين للعبور إلى ليبيا. تنقلهم سيارة مع عدد كبير من اللاجئين لعبور الصحراء الأفريقية، فجأة تتوقف ويأمر السائق الجميع بالخروج ومواصلة السير في الصحراء مشياً على الأقدام .
تصبح رحلتهما أوديسة أفريقية معاصرة من خلال مزالق الصحراء وأهوال مراكز الاحتجاز في ليبيا، لم يمض وقت طويل قبل أن يتم خداعهما في ما يتعلق بتزويدهما ببطاقات الهوية المزيفة، والاعتماد على دليل عبر الصحراء الكبرى إلى ليبيا. في كل خطوة من الطريق يتم استنزاف أموالهما من قبل المهربين المحتالين الذين يعدونهما بسهولة العبور.
تتم قيادة سيدو وموسى عبر الصحراء في سيارات الجيب التي ترتد عبر الكثبان الرملية في مشهد يبدو مثيرا تقريبا حتى يصبح من الواضح أنه إذا سقط أيّ من الركاب المعلقين، فإنهم ميتون. لن يستدير أحد، أصبحت حياة الإنسان رخيصة. المناظر الرملية الجميلة التي تم تصويرها بشكل جميل من قبل باولو كارنيرا مشاهد غنية بالموسيقى والألوان.
يحافظ الشاب (سيدو) على بصيص من التفاؤل الشبابي في البقاء على قيد الحياة، حتى عندما يواجه أكواما من الجثث أو يكلف بمسؤوليات أكبر من عمره. الصبي عازف الطبول في داكار لن يتخلى عن أحلامه. يشاهد جثثا تطفو عبر الصحراء إلى بر الأمان أو يسافر لرؤية والدته، مسترشدا بالموروثات الشعبية والقصص الخيالية وبالتحديد في مشهد المرأة التي تحتضر ويطفو جسدها محلقا طائراً فوق رأس الشاب (سيدو). يحاول سيدو الحفاظ على إنسانيته وحتى أحلامه بإنقاذ حياة امرأة تطفو فوقه.
في الواقع الفيلم ينضح بالإنسانية حتى في أكثر المواقف المأساوية حيث يتشبث البطل بالشعور بالأخوة والأمل في النجاة
يواصل الشابان السير مع الآخرين على طول الصحراء، وبينما يشرع الأولاد في رحلتهم، تلقوا نصيحة محنكة حول تخزين أموالهم في قنواتهم الشرجية أو المخاطرة بسرقتها من قبل مجموعات متمردة مختلفة أثناء عبورهم الصحراء الكبرى، ولكن النصيحة فات وقتها، إذ تتعرض قافلة السائرين في الصحراء لهجوم من قبل عصابة ليبية مدججة بالسلاح، توهم الجميع بأنهم حراس الحدود الليبيين، فهم يتكلمون العربية. تسلب العصابة أموال قافلة اللاجئين ويقتادون موسى بعد أن استولوا على ماله.
بعدها، يقودون الجميع إلى معسكر رهيب، يتعرضون فيه للتعذيب والتهديد والترويع، ويخيّرونهم بين الاتصال بذويهم وطلب فدية وتحويل مبالغ مالية على الفور أو يكون مصيرهم الموت. في أحد المشاهد المزعجة، حين تجبر العصابة سيدو ورفاقه اللاجئين على شرب السوائل من أجل التغوط وفحص برازهم بحثا عن المال. تصبح الأمور أكثر قتامة عندما يختطف رجال العصابات الليبيون سيدو وقافلته، ويعذبون أولئك الذين لا يستطيعون ابتزاز عائلاتهم في الوطن من أجل المال.
تتعرض قافلة اللاجئين المتعبين لمجموعة مشاهد من التعذيب على يد العصابات الليبية. والأسوأ من ذلك، ما ينتظرهم في مركز الفرز، حيث يتم تقسيم المهاجرين وفقا لجنسيتهم ويتم تعذيبهم لإجبارهم على الاتصال بالمنزل والحصول على عائلاتهم على إرسال الأموال لإعادة شراء حريتهم. يتابع الشاب سيدو رحلة التعب وحده بعد فصله عن رفيقة (موسى)، في إحدى المرات، يستعبد من قبل أحد تجار الحروب في ليبيا من أجل بناء نافورة مقابل حريته.
ملحمة عبر المتوسط
محاولة الفرار في رحلة العذاب
رغم كل الصعاب إلى مدينة طرابلس الساحلية واجتماعه مع ابن عمه (موسى) المصاب بجروح، يتمكن الشابان من الإفلات ويستعدان للإبحار من المدينة الساحلية زوارة الليبية، التي أصبحت في السنوات القليلة الماضية مركزا رئيسيا لمغادرة المهاجرين الأفارقة الذين يصلون في النهاية إلى سواحل لامبيدوزا أو صقلية. يعهد المتاجرون بالبشر الذين ينظمون الرحلة على متن قارب صيد متهالك السفينة إلى الشاب سيدو في قيادة المركب. بعد تزويده بالحد الأدنى من التعليمات من قبل المهربين.
يصبح قائد القارب (ومن هنا جاء عنوان الفيلم)، يتم تكليفه بنقل المئات من اللاجئين على بعد 500 كم إلى صقلية. قيل لسيدو الذي لم يقد أيّ قارب أبدا في حياته إنه يمكنه الذهاب إذا قاد قاربا مليئا باللاجئين الآخرين وقاده إلى إيطاليا. في الواقع، هذه ممارسة شائعة بين المهربين الذين يتجنبون السجن في إيطاليا عن طريق إرسال أطفال لا تتجاوز أعمارهم 15 عاما لقيادة سفنهم الخاصة. هذا بالطبع يفسر العديد من الكوارث البحرية.
ورغم صغر القارب، لكنه امتلأ بالأفارقة المذعورين في كل شبر صدئ منه. يجد الشاب سيدو نفسه مسؤولا عن حمولة قارب من اللاجئين، بعضهم في حالة صحية سيئة، أطفال ونساء ورجال من كبار السن وامرأة حامل. على متن المركب، هناك نقص في مياه الشرب، ولكن على رأس القيادة قائد شجاع هو الصبي سيدو.
ماتيو غارون: سيناريو الفيلم كتبته من وجهة نظر اللاجئين وتلك نظرة معاكسة مقارنة بالصور التي اعتدنا رؤيتها في أوروبا
كتب غارون سيناريو الفيلم مع ثلاثة إيطاليين، ماسيمو تشيشيريني وماسيمو غاوديوسو وأندريا تاغليافيري، لكنه استفاد من تعاون مختلف الأفارقة الذين أخبروه برحلاتهم، على وجه الخصوص كواسي بلي أداما مامادو، وهو شاب إيفواري فر من المجاعة والحرب الأهلية التي كانت تعصف ببلاده حتى عام 2011، والذي يعمل اليوم كوسيط متعدد الثقافات (يتحدث 13 لغة) في كاسيرتا. صرح المخرج بأنه كتب سيناريو الفيلم من وجهة نظر اللاجئين وتلك نظرة معاكسة مقارنة بالصور التي اعتدنا رؤيتها من خلال وجهة النظر الغربية.
تحدث كواسي بلي أداما مامادو صاحب القصة الحقيقة في مقابلات عديدة عن القسوة والعنف اللذين واجههما خلال رحلة اللجوء والوصول إلى الشواطئ الإيطالية، “كانت القسوة والمعاناة والعنف في الحقيقة أعنف وأشد مما أظهره الفيلم”. فمحنة اللاجئين ظهرت عبر أفلام كثيرة في السينما الأوروبية التي تصور عذاب اللجوء من بلدان العالم الثالث، وآخرها فيلم المخرجة البولندية أغنيسا هولاند الذي يحمل عنوان “الحدود الخضراء”، حيث ترصد الكاميرا رحلة الفرار من بؤس أفريقيا إلى أوروبا على تلك القوارب المعبأة بالآلاف من البشر.
لقد جعلنا الفيلم مشدودين مع خوف وقلق الصبي سيدو وثقل المسؤولية على كتفه. نتوقع الأسوأ والشك بنجاح الصبي سيدو في إدارة دفة القارب والوصول به إلى بر الأمان، مما يخلق شيئا من اللغز مع اللحظات الختامية للفيلم. على الرغم من أنهما يبدوان محكومين على فقدان حياتهما عدة مرات خلال الفيلم، إلا أن سيدو وموسى تمكنا دائما من الخروج من أصعب المواقف أكثر قوة وشجاعة وإصرارا.
ختام رحلتهما كانت بنهاية متفائلة حيث تمكن سيدو من الإبحار بقارب يحمل المئات من المهاجرين إلى صقلية، ونسمع صرخة القبطان الشاب سيدو المرتجلة المؤثرة، هذه الصرخة تحطم الآذان الصماء للعناصر اليمينية وأحزابها “أنا الكابتن، لم يمت أحد في عبور البحر الأبيض المتوسط؛ أحضرت الجميع إلى إيطاليا”.
يذكرنا الهيكل العام لرحلة “آيو كابيتانو” بالفعل بقصيدة هوميروس الملحمية، مما يعكس رحلة اللاجئين السنغاليين إلى أوروبا.
هل القصة حقيقية
رسالة قوية تهز الضمائر
يتحدث المخرج عن فيلمه قائلا “ما دفعني إلى سرد هذه القصة هو ما يحدث في أوروبا طوال الوقت، نشاهد في نشرات الأخبار كل يوم مأساة عن قارب جديد من المهاجرين. غالبا ما يترك هؤلاء الأشخاص عائلاتهم ويتحملون هذه المخاطرة بناء على أحلامهم ورغباتهم وتطلعاتهم وعواطفهم. كانت فكرة الفيلم هي إظهار أجزاء هذه الرحلة التي لا يعرفها الكثير من الناس. أردت أن أعطي صوتا للأشخاص الذين لا يفعلون ذلك في الكثير من الأحيان وأن تروى القصة من خلالهم”.
ومع ذلك، فإن الطريقة التي يتعامل بها المخرج مع هذه الأحداث وسرده للقصة كانت بصيغة تقليدية وتثير تساؤلات. ما الذي يمكن أن تضيفه حكاية فيلم “إيو كابيتانو” إلى الخطاب المتشدد حول الهجرة وسطوة الأحزاب اليمينية المتطرفة؟ يبدو أن سرد غارون المبسط يهون المصاعب والمواقف الحقيقية التي يجد اللاجئون أنفسهم فيها والمتاعب والخيارات التي يتعين عليهم اتخاذها.
على النقيض من تصريح مامادو كواسي أحد أبطال القصة الحقيقية الذي عانى من هذا “حتى اليوم، أينما شاهدت الفيلم، أتذكر، لم أستطع إنقاذ إنسان أمام عيني، يموت في الصحراء. لقد تم بيعنا مثل العبيد في ليبيا. لقد رأيت في الفيلم كيف عوملنا كحيوانات. وهذه حقيقة واقعة، وأعتقد أيضا، عندما طلب مني المخرج ماتيو سرد هذه القصة؛ لم أخف ذلك ببساطة لأنني رأيت أنه مهم. بالنسبة إليّ، أتذكر أنه قبل بضعة قرون، قالوا إن العبودية قد ألغيت في أميركا أولا، ثم في أوروبا وبلدان أخرى، ولكن الحقيقة أنها مازالت موجودة. يدور الفيلم حول إعطاء الحقوق لجميع الناس في العالم”.
في الواقع الفيلم ينضح بالإنسانية حتى في أكثر المواقف المأساوية حيث يتشبث البطل بالشعور بالأخوة والأمل في النجاة
من المشاهد المؤثرة لحظة عثور سيدو على ابن عمه. ولحظة استسلامه وانهيار موسى، والرغبة في العودة إلى المنزل وندمه على قراره. ويرد المخرج ماتيو غارون على سؤال لماذا تناول هذا الموضوع ؟ فيقول “استغرق الأمر مني بعض الوقت لمعالجة هذه القصة بعد أن سمعت قصة ألهمتني. ظللت أؤجله. جمعت قصة ثلاثة رجال قاموا بهذه الرحلة. نظمت معهم عدة لقاءات قبل كتابة السيناريو. كان لديّ شعور بأن هناك جزءا من هذه الرحلة لم يكن معروفا في الخيال الغربي”.
ويضيف “بالطبع هناك أشخاص يعرفون – أو على الأقل يجب أن يعرفوا – أن هناك رحلة عبر الصحراء، ومعسكرات اعتقال في ليبيا، ونظاما كامل وراء المهربين. لكنه عالم كامل لم يتم إخباره بصريا. هذا ما دفعني إلى وضع الكاميرا من زاويتهم”.
ما يميز فيلم غارون في تصوري هو إدانة الجحيم الذي يقابل المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى وعبورها للوصول إلى الشواطئ الإيطالية. رسالة قوية جدا، تهز الضمائر: عندما يطلب اليمين المتطرف العنصري والاستعمار الجديد الوقوف ضدهم.
القصة التي يرسمها ماتيو غارون مستوحاة من الأحداث الحقيقية لبعض المهاجرين، قصة مامادوم الذي وصل إلى إيطاليا قبل خمسة عشر عاما من كوت ديفوار بعد سجنه وتعذيبه لمدة 40 شهرا في مخيم ليبي، وقصة القصر فوفانا أمارا، الذي أنقذ المئات من الأشخاص على متن قارب غادر ليبيا، وعند الوصول إلى إيطاليا، تم القبض عليه وإدانته كتوجيه. فيلم “أنا الكابتن” في الواقع، ينضح بالإنسانية حتى في أكثر المواقف المأساوية، يتشبث بطل الرواية بالشعور بالأخوة، في حاجة ماسة إلى البقاء إنسانا. لا تنطفئ شعلة الأمل أبدا حتى في أكثر اللحظات فظاعة وقسوة.
أدت رؤية الفيلم من ناحية إلى التأكيد بأنها قصة حقيقية أو على الأقل معقولة (أعلن المخرج أن القصة تستند إلى شهادات أولئك الذين واجهوا الرحلة حقا)، رحلة الأوديسا الأفريقية والتي تشبه إلى حد كبير رحلة هوميروس تنتهي بنهاية سعيدة رغم جهلنا في معرفة ما يحدث للشابين في إيطاليا، عندما يهبط المهاجرون على سواحل صقلية يهتف الرجال والنساء الذين أحضرهم سيدو إلى بر الأمان حين يدركون أنهم وصلوا إلى إيطاليا بعد رحلة هادئة تماما باستثناء لحظات اليأس بسبب العطش والتعب. ينزلق القارب بهدوء فوق المياه الهادئة وتلد امرأة حامل بأعجوبة.
بالطبع يعرض لنا الفيلم صور الجثث في الصحراء، والتعذيب الرهيب الذي يعاني منه المهاجرون في السجون الليبية، لا يخبرنا غارون هنا بأي شيء جديد، أو على الأقل، لا ينبغي له، إذا كان المشاهد فقط مهتما بالمسألة، أن يجد ذلك في نشرات الأخبار. يبدأ المخرج غارون بفكرة عدم الرغبة في صنع فيلم سياسي، ربما يكون خيارا مثيرا للجدل إلى حد ما بالنظر إلى نطاق القصة التي يرويها. كانت محاولة المخرج إضفاء الطابع الإنساني على تاريخ الناس الذي يتم تهميشه الآن باستمرار عن طريق الأدوات السياسية، وذلك بفضل الأداء الصادق والقوي لسيدو (سار) الحائز على جائزة مارسيلو ماستروياني المستحقة عن جدارة لأفضل ممثل ناشئ.
الفيلم تم تصويره في السنغال وإيطاليا والمغرب مع مجموعة من الممثلين غير المحترفين، أراد مخرجه تقديم فيلم حقيقي عبر شابين مراهقين لم يغير حتى اسميهما، حتى أنه أخذهما إلى منزل والدته. يعيش الشابان حاليا مع السيدة غاروني في فريجيني. ويلعب سيدو كرة القدم في الفريق المحلي.
يريد المخرج غارون أن يظهر هجرة مختلفة عن تلك الناجمة عن الجوع والحرب والكوارث المناخية. هجرة غير قسرية ولكن ببساطة مرغوبة من قبل رجلين يحلمان (بفضل وسائل التواصل الاجتماعي) للوصول إلى أوروبا وأن يصبحا موسيقيين مشهورين . وهكذا يعيد صورة السنغال الفقيرة والبسيطة، حيث يعيش أهلها في أكواخ خشبية ملونة ونظيفة وحيث لا ندرك أيا من المشاكل الخطيرة التي تصيب البلاد (البطالة والفساد والاستيلاء على الأراضي ومضاربة البناء والاستعمار الجديد).
في الختام أرسل فيلم “أنا الكابتن” رسالة طليعية واضحة وسياسية، وبذلك ينأى بنفسه عن المنطق الغربي الذي يحاول أن ينظر إلى أزمة اللجوء بأنانية شديدة. والتأثير على الرأي العام الأوربي عند طرح مأساة الهجرة من وجهة نظر قاصرة، فمن الصعب تجريد فيلم عن الهجرة من المحتوى الاجتماعي والسّياسي المصاحب للظاهرة، وبدلا من مواجهة موجات اللاجئين بالعنف والإقصاء والعنصرية لا بد من إيجاد الحلول.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
علي المسعود
كاتب عراقي