ركبة عهد" صورة سوداء للمجتمع الإسرائيلي ودولته المتطرفة
المخرج الإسرائيلي - الفرنسي نداف لابيد يفضح عنصرية الاحتلال.
كشف تناقضات المجتمع الإسرائيلي
ما من صورة تكشف حقيقة المجتمع والسلطة مثل الصورة التي تأتي من داخله ومن بين أبنائه، وفق هذا التمشي فإن محاولة فهم المجتمع الإسرائيلي ونظامه يجب أن تبدأ بهما من الداخل، من خلال تتبع ما يكتب من أدب وما ينجز من فنون وخاصة من أفلام، سواء المنحازة كليا للسلطة أو المعارضة لها. ولعل أفلام المخرج الإسرائيلي – الفرنسي نداف لابيد تعتبر أفضل وسيلة لفهم عنصرية هذه الدولة التي تركها انتصارا للإنسان فيه.
تداولت العديد من المواقع الفلسطينية والدولية خبر قيام القوات الصهيونية باختطاف الناشطة عهد التميمي من سريرها، إثر اقتحام منزل عائلتها بقرية “النبي صالح” في الضفة الغربية بعد أسبوع على اعتقال والدها، للاشتباه بتحريضها على العنف ونشاطات إرهابية في بلدتها. وأحيلت التميمي على قوات الأمن الإسرائيلية للمزيد من الاستجواب.
المناضلة عهد التميمي البالغة من العمر 22 عاما، والتي أطلق سراحها قبل سنوات في ظل التحرك العالمي الواسع، لم تترك الميادين مذ كانت طفلة، وقد صارت اليوم رمزا للنضال البطولي للشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني عندما رفعت صورها وجالت العالم، وهي طفلة مراهقة آنذاك، وقد انتشر شريط فيديو على فيسبوك على نحو واسع يظهرها وهي تدفع مبعدة عنها جنديين إسرائيليين وتصفعهما وتركلهما في قريتها “النبي صالح” في التاسع عشر من ديسمبر عام 2017 أمام كاميرات التلفزة أثناء مسيرة مناهضة للاستيطان في قريتها.
بالطبع لم يمر فعل عهد مرور الكرام فقد ألقتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في السجن لمدة ثمانية أشهر هي وأمها، لكنها خرجت منه أقوى مما كانت لتتحول إلى أيقونة فلسطينية وعالمية لمقاومة الاحتلال والاستيطان، ولهذا السبب تم تقديمها للمحاكمة أمام محكمة “عوفر” العسكرية في الضفة الغربية المحتلة بتهمة الاعتداء والضرب و11 تهمة أخرى، وصدر حكم بسجنها لمدة 8 أشهر، لكن تم إطلاق سراحها قبل إتمام مدة الحكم بـ21 يوما إثر حملة التعاطف العالمي معها.
تأتي الاعتقالات الأخيرة التي شملت العشرات من النشطاء والشباب الفلسطيني في الضفة الغربية بدعوى تهمة “التحريض على الإرهاب” بالموازاة مع المذبحة التي تحدث في غزة بتواطؤ أوروبي وأميركي، حيث يقوم جيش الاحتلال بالقتل والاعتقال والتعذيب وحرق الحقول وهدم المنازل وقرى بأكملها، في الضفة الغربية، والاستمرار بتسليح المستوطنين لإرهاب الشعب الفلسطيني، وتسييج القطاع، لمنع أي نهوض للمقاومة وتوسع رقعتها، وتعميق عملية مصادرة المزيد من الأراضي في أفق تحويل الضفة الغربية إلى منطقة شبيهة بغزة.
صراع ضد القمع
فيلم “ركبة عهد” للمخرج المثير للجدل الإسرائيلي – الفرنسي نداف لابيد يشير بشكل واضح إلى ركبة الشابة الفلسطينية عهد التميمي، فقد غرد نائب رئيس الكنيست بتسليل سموت ريتش برغبته في إطلاق النار عليها في ركبتها لمنعها من المشي. وأعطى هذا التعليق الحافز للمخرج الإسرائيلي نداف لابيد وأخذ هذه التغريدة نقطة انطلاق في تعرية قسوة الاحتلال والسادية التي يمتاز بها نوابه وساسته.
رغم أن عنوان الفيلم يثير قضية الناشطة الفلسطينية عهد التميمي، ولكنه يكشف تناقضات المجتمع الإسرائيلي وتطرفه وجنوحه إلى العنصرية وتكميم أفواه المعارضين. الشخصية الرئيسية في الفيلم مخرج يعرف فقط باسم واي يقوم بدوره أفشالوم بولاك، يريد استخدام السينما لفضح الأكاذيب والأوهام المستمرة التي بنت عليها إسرائيل دولتها.
تمر بنا المباني سريعة وتتساقط الأمطار وتتدفق عبر العدسة، هذه اللقطة الافتتاحية لأحدث أفلام نداف لابيد، في يوم ممطر راكب دراجة يجوب شوارع تل أبيب، عند رفع خوذة الرأس يكشف عن مغنية راب بصدد تسجيل أغنية عن ركبة الشابة الفلسطينية عهد التميمي. ثم ينتقل إلى مشهد تمثيلي لمحاكمة الفتاة الفلسطينية “طفولتي في سجون الاحتلال، عندما كان عمري ستة عشر عاما سجنت في سجون الاحتلال لصفعي جنديا إسرائيليا، والدتي معي في السجن وابن عمي أصيب برصاص جندي إسرائيلي”. ثم تظهر صورة من الأرشيف لحظة اعتقال الشابة عهد التميمي ثم يظهر شخص يقدم نفسه “أنا بتسلئيل سموت ريتش وزير ونائب في الكنيست وزعيم البيت اليهودي”. كان يجب أن تتلقى رصاصة على ركبتها (عهد) وجعلها مقعدة طول عمرها بدل وضعها تحت الإقامة الجبرية، ثم يمسك المخرج مطرقة ليهوي على ركبة عهد، ويبدأ فصل جديد من الفيلم.
مخرج أفلام إسرائيلي (يلعب دوره أفشالوم بولاك) يشار إليه بشكل غامض بالحرف الإنجليزي واي فقط يصل إلى قرية سأبير في منطقة وادي عربة الصحراوية على الحدود الأردنية لعرض أحدث أفلامه في المكتبة المحلية. بطائرة خاصة تأتي امرأة مع مجموعة من الجنود جاءت بنفسها لاستقباله لكون القرية مسقط رأسها بالإضافة إلى أنها من المعجبات بالمخرج. وكإجراء شكلي تطلب منه التوقيع على وثيقة تشير إلى الموضوعات المحددة التي سيناقشها في المناقشة بعد عرض فيلمه، وهذا أول مؤشر على تقييد الحرية الفنية للفنان.
لا يخفي واي تقززه واشمئزازه من وزارة الثقافة الإسرائيلية ووزيرتها منذ بداية وصوله إلى قرية سأبير. تخبره ياهالوم بأن عليه توقيع استمارة من الوزارة لغرض حصوله على مكافأته على عرضه فيلمه في مكتبة القرية، فيسأل المخرج عن ماهية هذه الاستمارة ولماذا يجب أن يوقعها، فتخبره بأن الجميع يوقع دون طرح أسئلة حتى يحصلوا على المكافأة المالية، كما أنها ضمانة لالتزامه بالحديث عن أحد الموضوعات المفروضة من قبل وزارة الثقافة ورئاسة الأركان.
الفيلم عمل سينمائي سياسي وشخصي أيضا ويعد من بين الأفلام الأكثر كثافة وتطلبا جسديا إذ لا يصور قصة محددة
يتأكد لدى المخرج واي ما يعرفه بالفعل من أن وزارة الثقافة تريد أن تكمم أفواه الكتاب والمفكرين ولا تريد لأحد أن يتحدث إلا بما يتناسب مع سياستها. يدخل المخرج في مونولوج مع نفسه يحلم بحدوث معجزة تغير المجتمع وتفتح العيون على الحقيقة، لا يجد حلا إلا بفضح تلك الطغمة الحاكمة، فيقرر مع صديقه الصحافي الذي يحدثه على الهاتف بعد تسجيل رأي الشابة ياهالوم، تلك الموظفة المسؤولة عن تنفيذ أوامر وزيرتها وسياساتها القمعية في اختيار ما يقرأه الناس وما يؤمنون به.
إنه فيلم شخصي للغاية للمخرج لابيد، الذي كتب السيناريو في أسبوعين ونصف بعد وقت قصير من وفاة والدته، التي عملت كمحررة في العديد من أعماله. ويقوم بطل الفيلم بتصوير مقاطع فيديو شعرية يرسلها عبر الهاتف إلى والدته، وهي كاتبة سيناريو مصابة بسرطان الرئة. وهو يقاتل ضد فقدان الحرية في بلده والخوف من فقدان والدته.
يلعب الممثل أفشالوم بولاك دور المخرج، الذي يتفوق كمخرج معذب من المدينة المبتذلة (تل أبيب)، ينتقل إلى القرية النائية وتتحول الرحلة أيضا إلى شيء ما يوقظ ذاكرة المخرج. يتذكر أيامه العسكرية، الجندي الضعيف، الرقيب السادي، القسوة المرتكبة. ناهيك عن الشعور بالذنب عند استذكار خدمته في جيش الدفاع الإسرائيلي.
يتنقل الفيلم بين الأحداث الماضية على طريقة “الفلاش باك” وبين الفترة التي قضاها المخرج في الخدمة العسكرية وصولا إلى اليأس الذي ينخر الأرواح في تلك الصحراء. هناك قضية واحدة يجب حلها قبل أن يتم دفع أجور المخرج وهي اشتراط وزارة الثقافة الإسرائيلية توقيعه على نموذج الرقابة الذاتية، والموافقة على التحدث فقط عن “المواضيع المقبولة” التي لا يتضمن أي منها كلمات مثل “الفلسطينية” أو “الاجتياح”.
يقول بطل الفيلم واي لجمهوره الذي أتى لمشاهدة فيلمه إنه يصور فيلما عن ركبة عهد التميمي، وهو عمل لن تفهمه وزارة الثقافة العنصرية ولن يفهموه هم أنفسهم لأنه تمت قولبة عقولهم في قوالب مغلفة بالعنصرية ورفض الآخر. وبالتالي سوف يدخل المخرج لابيد في صراع مع حكومة قمعية.
الفنان صوت الحق
المخرج الإسرائيلي نداف لابيد يقدم دراما شائكة وذكية حول الصراع ويتناول رقابة الكيان الصهيوني للعمل الفني والمطبوعات
أظهرت جميع أفلام نداف لابيد شكوكا شديدة في المواقف والسياسات الإسرائيلية. في فيلم “ركبة عهد” يقدم نقدا حادا للرقابة والنفاق الذي حرضت عليه السلطات الإسرائيلية. في الوقت نفسه، يعكس الفيلم الاضطراب الأيديولوجي الذي عانى منه المخرج لابيد على مر السنين في وطنه، وردود الأفعال العنيفة التي واجهها بسبب أفلامه المثيرة للجدل.
لابيد المعروف بفيلم “المرادفات” (2019) الفائز بالدب الذهبي في مهرجان برلين، ويتحدث عن شاب يتخلى عن هويته الإسرائيلية وراءه ويصل إلى باريس عاريا، ويرفض التحدث باللغة العبرية أو التحدث إلى والديه في الوطن بعد إقناع نفسه بأنه “ولد في الشرق الأوسط عن طريق الخطأ”، جميع أفلام لابيد تعكس هذا التناقض المشحون تجاه الفكر القمعي لإسرائيل، مخرج لديه أسلوب محدد للغاية خاصة مع مواقفه السياسية الواضحة إزاء دولته وقسوتها المفرطة بحق الشعب الفلسطيني واستنكاره الشديد للحرب والخدمة العسكرية والرقابة الشديدة في بلده.
في مشهد تطلب ممثلة وزارة الثقافة من بطل الفيلم التوقيع على استمارة تعهد عرض فيلمه بعد الموافقة على الشروط والتي تتضمن ضوابط رقابية منها تعليمات يجب الالتزام بها والتركيز على المواضيع التالية: التجربة اليهودية، الهوية اليهودية والتاريخ اليهودي، والشتات اليهودي معاداة السامية، العرق في إسرائيل والصهيونية، الأعياد اليهودية والطفولة، والهولوكوست وعواقب المحرقة، وسائل الإعلام الجديدة، والقدس عاصمة أبدية وكذلك الجيش الصهيوني. وتضيف أن “هذه أوامر من وزير الثقافة ورئيس الأركان”.
الفيلم يقدم نقدا حادا للرقابة والنفاق الذي حرضت عليه السلطات الإسرائيلية كما يعكس الاضطراب الأيديولوجي المنتشر
يصرخ المخرج واي بوجه مسؤولة المكتبة “هذه الدولة ضد الإنسانية، هذه دولة قومية وعنصرية خطاب حكامها فارغ ويكشف حقيقة حكام هذه الدولة الذين ينضح عمقهم حقدا وكراهية، مهوسين بمصادرة أملاك وحرية المختلفين معهم والرافضين لوجودهم، اقرئي فقط الكتب في مكتبتك وللكتاب مثل جول فيرن، ديكنز، دوستويفسكي وكافكا، أدغار ألان بو، جورج ساند”.
ويضيف “لنفترض أني أريد أن أتحدث عن دولة يهودية قومية وعنصرية وسادية ودنيئة، هدفها إضعاف الروح وخاصة الروح العربية كي تنهار تحت وطأة الاضطهاد والإبادة والتعسف لتكون تحت رحمتها بالكامل، دولة مريضة وقاتلة ومعادية، قمامة تاريخية فاسدة، أتمنى أن لا أنتمي إلى هذه الدولة وتنتهي أن لا تكون لي علاقة بهذه الأرض”، عندها ترد عليه المسؤولة “سيتم الرفض وإدراجك في القائمة السوداء، بل واعتبارك خائنا”، يصرخ “إني أتقيأ إسرائيل، وعندي رغبة بالصراخ بوجه وزير الثقافة، تصفوني بالخائن، وزير الفنون يكره الفنون، ودولة تكره الفن وتكره الجمال”.
يمكن اعتبار فيلم “ركبة عهد” أكثر من مجرد صرخة ضد حزب الليكود وسياساته. مخرج أفلام يواجه احتمال التضحية بحريته الفنية وكرامته الشخصية وخسارة تمويل الدولة لأفلامه. المخرج، المسمى واي، من خلال الضغط الذي يواجهه يجسد كسرا جسيما في صميم المجتمع الإسرائيلي وإخفاء عسكرته الراديكالية والقومية الإقصائية تحت ستار الكياسة الثقافية والحداثة التكنولوجية هي القشة الأخيرة، إنه يدفعه إلى أزمة نهائية وقطيعة مع النظام والعمل على فضح أساليبه القمعية. أراد المخرج أن يصنع فيلما يعلن فيه تضامنه مع الفتاة الفلسطينية، منتقدا الجيش وأساليبه الوحشية ضد الشعب الفلسطيني.
صورة سوداء
سيرة ذاتية لمخرج يواجه القمع
فيلم “ركبة عهد” هو عمل سينمائي سياسي وشخصي أيضا، ويعد من بين الأفلام الأكثر كثافة وتطلبا جسديا. إنه لا يصور قصة محددة، بل سيرة ذاتية للمخرج نداف لابيد مع دولته العنصرية الدموية. إلى حد كبير يجسد إرهاصاته وثورته، ويرصد تصدع الشخصية الرئيسية في الفيلم (واي) بصورة تقترب من لابيد في التصور السينمائي والأداء والسرد نفسه وكأنها ثورة المخرج لابيد نفسه على سياسة بلده وكذلك الاتهامات والإدانات المستمرة للاحتلال الإسرائيلي، مما أدى إلى مونولوج موسع حول الطبيعة المتطورة للفن والهوية والحقيقة في بلد حريص على تقييد حرية التعبير.
يتأرجح المونولوج بين الذكريات الشخصية والإدانات المؤكدة، وهو حوار عن بلده، بينما يصب غضبه في جدل يغطي كل قضية كانت تثقل كاهله، يسقط على ركبتيه، ويتشبث بشدة بياهالوم للحصول على الدعم. لأنه رجل يستهلكه الغضب إلى درجة أنه مستعد حتى لإذلال ياهالوم في تمرده الصالح، عازما على جعلها تعترف بتواطؤها في نظام القمع هذا.
قال الكاتب والمخرج نداف لابيد “إن الخطوط العريضة لـ’ركبة عهد’ تستند إلى الأحداث التي حدثت له حول عرض مرادفاته السابقة، ولا تزال قسوة العواطف بالكاد موجودة لفترة طويلة جدا”.
ويواجه المخرج واي، أشياء تجعله يائسا من حالة بلاده وبوصلتها الأخلاقية الأوسع، والزيارة المنفردة إلى الصحراء هي المحفز لإطلاق العنان لحرية الغضب ضد السلطة بشكل عام، ولكن على وجه التحديد الجيش الإسرائيلي، ووزارة الثقافة (وبالتالي الحكومة بأكملها). وقد اشتهر مخرج الأفلام الإسرائيلي المشهور نداف لابيد بأنه أحد أكثر صانعي الأفلام الإسرائيليين صدامية، في حالة من خيبة الأمل العميقة تجاه بلده.
جميع أفلام لابيد تحمل غضبا وتشنجا مع إحباط فنان من وطنه، جامح للغاية وثوري بحيث لا يتناسب مع عدسة الكاميرا. قال لابيد “لقد عانيت كثيرا في موقع التصوير، يرتبط الفيلم بوفاة والدتي، لذلك بطريقة ما تظهر في موقع التصوير في كل مشهد، شعرت وكأنني أسير في جنازة أمي”. ووصف فيلمه “ركبة العهد” بأنه قصة فلسفية وليست حكاية سياسية بحتة قائلا “لا يتعلق الأمر فقط بالأزمة الحالية للحياة السياسية الإسرائيلية. لا يتعلق الأمر فقط بأزمة عالمية لحرية التعبير وحرية الفن والفكر. في النهاية، إنه فيلم عن الحالة الأساسية لكونك فردا يعيش في مجتمع”.
عند رؤية بلده يميل نحو الفاشية. يتفاقم الغضب ضد ظلم أساليب الدولة بسبب ظلم المرض الذي تعاني منه والدة المخرج، فهو لا يفقد حريته الفنية وولاءه لبلد ولادته فحسب، بل يفقد أيضا الشخص الذي كان دائما في حياته منذ اللحظة التي بدأ فيها التنفس. بعيدا عن أن يكون رجلا غاضبا بعض الشيء في منتصف العمر، فإنه يصبح يائسا وغاضبا وضائعا في نفس الوقت.
الخلاصة: “ركبة عهد” فيلم جدير بالمشاهدة أنجزه مخرج قرر بمحض إرادته ترك إسرائيل والهجرة منها ليستقر في فرنسا لأنها لم تعد تمثل حلمه ولأنها لم تعد البلاد التي تينع فيها زهرة الحرية.
يكشف فيلم “ركبة عهد” اشمئزازا من أي شيء يتعلق بإسرائيل، لذا فإن وجهة نظر الفيلم حادة وسلبية، وأرى أن تفتح صالات العرض في البلدان العربية لكي يقف المشاهد العربي على شهادة اليهودي الرافض والغاضب من أي شيء يتعلق بالحكومة الإسرائيلية، صور مليئة باليأس من القمع الدائم للفلسطينيين.
يقدم المخرج الإسرائيلي نداف لابيد دراما شائكة وذكية حول الصراع ويتناول رقابة الكيان الصهيوني للعمل الفني والمطبوعات، باستلهام الإحباط من وزيرة الثقافة السابقة (ميري ريغيف) التي استعدَت الفنانين الإسرائيليين بجعل الولاء للدولة شرطًا لتمويل الفنون، لكنني أعتقد دائما أن أسوأ رقابة في إسرائيل هي الرقابة الداخلية، جهاز الاستشعار الصغير الموجود في عقل ونفس كل إسرائيلي تقريبا.
“ركبة عهد” صورة سوداء قاتمة تضع المجتمع الإسرائيلي وجها لوجه أمام مرآة الضياع والعنف وكراهية الآخر. يبدأ الفيلم بجملة قالها نائب في الكنيست الإسرائيلي عن حادثة صفع المناضلة الفلسطينية عهد التميمي للجنود الإسرائيليين وحكم القضاء بسجنها ثمانية أشهر. يقول النائب: ثمانية أشهر فقط، كان عليهم أن يطلقوا الرصاص على ركبتها لتصبح عاجزة طيلة حياتها. الجملة التي بنى عليها المخرج لابيد حبكة فيلمه وتسلسل أحداثه. عهد التميمي حاضرة في الفيلم ولو من وراء ستار، حاضرة بوصفها الآخر الذي لا يريده المحتل ولا نطيق وجوده أو سماع صوته. الفيلم يبدو وكأنه محاولة فنان لفضح الاستبداد والظلم اللذين تتسم بهما سلطات الاحتلال وقوانينه. فيلم “ركبة عهد” هو عمل غاضب ومواجهة مع ظلم المحتل وغطرسته وتطهير للنفس البشرية من أدران الصهيونية ومنهجها في إبادة شعب ومصادرة وطن.
علاء حسن
كاتب عراقي
المخرج الإسرائيلي - الفرنسي نداف لابيد يفضح عنصرية الاحتلال.
كشف تناقضات المجتمع الإسرائيلي
ما من صورة تكشف حقيقة المجتمع والسلطة مثل الصورة التي تأتي من داخله ومن بين أبنائه، وفق هذا التمشي فإن محاولة فهم المجتمع الإسرائيلي ونظامه يجب أن تبدأ بهما من الداخل، من خلال تتبع ما يكتب من أدب وما ينجز من فنون وخاصة من أفلام، سواء المنحازة كليا للسلطة أو المعارضة لها. ولعل أفلام المخرج الإسرائيلي – الفرنسي نداف لابيد تعتبر أفضل وسيلة لفهم عنصرية هذه الدولة التي تركها انتصارا للإنسان فيه.
تداولت العديد من المواقع الفلسطينية والدولية خبر قيام القوات الصهيونية باختطاف الناشطة عهد التميمي من سريرها، إثر اقتحام منزل عائلتها بقرية “النبي صالح” في الضفة الغربية بعد أسبوع على اعتقال والدها، للاشتباه بتحريضها على العنف ونشاطات إرهابية في بلدتها. وأحيلت التميمي على قوات الأمن الإسرائيلية للمزيد من الاستجواب.
المناضلة عهد التميمي البالغة من العمر 22 عاما، والتي أطلق سراحها قبل سنوات في ظل التحرك العالمي الواسع، لم تترك الميادين مذ كانت طفلة، وقد صارت اليوم رمزا للنضال البطولي للشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني عندما رفعت صورها وجالت العالم، وهي طفلة مراهقة آنذاك، وقد انتشر شريط فيديو على فيسبوك على نحو واسع يظهرها وهي تدفع مبعدة عنها جنديين إسرائيليين وتصفعهما وتركلهما في قريتها “النبي صالح” في التاسع عشر من ديسمبر عام 2017 أمام كاميرات التلفزة أثناء مسيرة مناهضة للاستيطان في قريتها.
بالطبع لم يمر فعل عهد مرور الكرام فقد ألقتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في السجن لمدة ثمانية أشهر هي وأمها، لكنها خرجت منه أقوى مما كانت لتتحول إلى أيقونة فلسطينية وعالمية لمقاومة الاحتلال والاستيطان، ولهذا السبب تم تقديمها للمحاكمة أمام محكمة “عوفر” العسكرية في الضفة الغربية المحتلة بتهمة الاعتداء والضرب و11 تهمة أخرى، وصدر حكم بسجنها لمدة 8 أشهر، لكن تم إطلاق سراحها قبل إتمام مدة الحكم بـ21 يوما إثر حملة التعاطف العالمي معها.
تأتي الاعتقالات الأخيرة التي شملت العشرات من النشطاء والشباب الفلسطيني في الضفة الغربية بدعوى تهمة “التحريض على الإرهاب” بالموازاة مع المذبحة التي تحدث في غزة بتواطؤ أوروبي وأميركي، حيث يقوم جيش الاحتلال بالقتل والاعتقال والتعذيب وحرق الحقول وهدم المنازل وقرى بأكملها، في الضفة الغربية، والاستمرار بتسليح المستوطنين لإرهاب الشعب الفلسطيني، وتسييج القطاع، لمنع أي نهوض للمقاومة وتوسع رقعتها، وتعميق عملية مصادرة المزيد من الأراضي في أفق تحويل الضفة الغربية إلى منطقة شبيهة بغزة.
صراع ضد القمع
فيلم “ركبة عهد” للمخرج المثير للجدل الإسرائيلي – الفرنسي نداف لابيد يشير بشكل واضح إلى ركبة الشابة الفلسطينية عهد التميمي، فقد غرد نائب رئيس الكنيست بتسليل سموت ريتش برغبته في إطلاق النار عليها في ركبتها لمنعها من المشي. وأعطى هذا التعليق الحافز للمخرج الإسرائيلي نداف لابيد وأخذ هذه التغريدة نقطة انطلاق في تعرية قسوة الاحتلال والسادية التي يمتاز بها نوابه وساسته.
رغم أن عنوان الفيلم يثير قضية الناشطة الفلسطينية عهد التميمي، ولكنه يكشف تناقضات المجتمع الإسرائيلي وتطرفه وجنوحه إلى العنصرية وتكميم أفواه المعارضين. الشخصية الرئيسية في الفيلم مخرج يعرف فقط باسم واي يقوم بدوره أفشالوم بولاك، يريد استخدام السينما لفضح الأكاذيب والأوهام المستمرة التي بنت عليها إسرائيل دولتها.
تمر بنا المباني سريعة وتتساقط الأمطار وتتدفق عبر العدسة، هذه اللقطة الافتتاحية لأحدث أفلام نداف لابيد، في يوم ممطر راكب دراجة يجوب شوارع تل أبيب، عند رفع خوذة الرأس يكشف عن مغنية راب بصدد تسجيل أغنية عن ركبة الشابة الفلسطينية عهد التميمي. ثم ينتقل إلى مشهد تمثيلي لمحاكمة الفتاة الفلسطينية “طفولتي في سجون الاحتلال، عندما كان عمري ستة عشر عاما سجنت في سجون الاحتلال لصفعي جنديا إسرائيليا، والدتي معي في السجن وابن عمي أصيب برصاص جندي إسرائيلي”. ثم تظهر صورة من الأرشيف لحظة اعتقال الشابة عهد التميمي ثم يظهر شخص يقدم نفسه “أنا بتسلئيل سموت ريتش وزير ونائب في الكنيست وزعيم البيت اليهودي”. كان يجب أن تتلقى رصاصة على ركبتها (عهد) وجعلها مقعدة طول عمرها بدل وضعها تحت الإقامة الجبرية، ثم يمسك المخرج مطرقة ليهوي على ركبة عهد، ويبدأ فصل جديد من الفيلم.
مخرج أفلام إسرائيلي (يلعب دوره أفشالوم بولاك) يشار إليه بشكل غامض بالحرف الإنجليزي واي فقط يصل إلى قرية سأبير في منطقة وادي عربة الصحراوية على الحدود الأردنية لعرض أحدث أفلامه في المكتبة المحلية. بطائرة خاصة تأتي امرأة مع مجموعة من الجنود جاءت بنفسها لاستقباله لكون القرية مسقط رأسها بالإضافة إلى أنها من المعجبات بالمخرج. وكإجراء شكلي تطلب منه التوقيع على وثيقة تشير إلى الموضوعات المحددة التي سيناقشها في المناقشة بعد عرض فيلمه، وهذا أول مؤشر على تقييد الحرية الفنية للفنان.
لا يخفي واي تقززه واشمئزازه من وزارة الثقافة الإسرائيلية ووزيرتها منذ بداية وصوله إلى قرية سأبير. تخبره ياهالوم بأن عليه توقيع استمارة من الوزارة لغرض حصوله على مكافأته على عرضه فيلمه في مكتبة القرية، فيسأل المخرج عن ماهية هذه الاستمارة ولماذا يجب أن يوقعها، فتخبره بأن الجميع يوقع دون طرح أسئلة حتى يحصلوا على المكافأة المالية، كما أنها ضمانة لالتزامه بالحديث عن أحد الموضوعات المفروضة من قبل وزارة الثقافة ورئاسة الأركان.
الفيلم عمل سينمائي سياسي وشخصي أيضا ويعد من بين الأفلام الأكثر كثافة وتطلبا جسديا إذ لا يصور قصة محددة
يتأكد لدى المخرج واي ما يعرفه بالفعل من أن وزارة الثقافة تريد أن تكمم أفواه الكتاب والمفكرين ولا تريد لأحد أن يتحدث إلا بما يتناسب مع سياستها. يدخل المخرج في مونولوج مع نفسه يحلم بحدوث معجزة تغير المجتمع وتفتح العيون على الحقيقة، لا يجد حلا إلا بفضح تلك الطغمة الحاكمة، فيقرر مع صديقه الصحافي الذي يحدثه على الهاتف بعد تسجيل رأي الشابة ياهالوم، تلك الموظفة المسؤولة عن تنفيذ أوامر وزيرتها وسياساتها القمعية في اختيار ما يقرأه الناس وما يؤمنون به.
إنه فيلم شخصي للغاية للمخرج لابيد، الذي كتب السيناريو في أسبوعين ونصف بعد وقت قصير من وفاة والدته، التي عملت كمحررة في العديد من أعماله. ويقوم بطل الفيلم بتصوير مقاطع فيديو شعرية يرسلها عبر الهاتف إلى والدته، وهي كاتبة سيناريو مصابة بسرطان الرئة. وهو يقاتل ضد فقدان الحرية في بلده والخوف من فقدان والدته.
يلعب الممثل أفشالوم بولاك دور المخرج، الذي يتفوق كمخرج معذب من المدينة المبتذلة (تل أبيب)، ينتقل إلى القرية النائية وتتحول الرحلة أيضا إلى شيء ما يوقظ ذاكرة المخرج. يتذكر أيامه العسكرية، الجندي الضعيف، الرقيب السادي، القسوة المرتكبة. ناهيك عن الشعور بالذنب عند استذكار خدمته في جيش الدفاع الإسرائيلي.
يتنقل الفيلم بين الأحداث الماضية على طريقة “الفلاش باك” وبين الفترة التي قضاها المخرج في الخدمة العسكرية وصولا إلى اليأس الذي ينخر الأرواح في تلك الصحراء. هناك قضية واحدة يجب حلها قبل أن يتم دفع أجور المخرج وهي اشتراط وزارة الثقافة الإسرائيلية توقيعه على نموذج الرقابة الذاتية، والموافقة على التحدث فقط عن “المواضيع المقبولة” التي لا يتضمن أي منها كلمات مثل “الفلسطينية” أو “الاجتياح”.
يقول بطل الفيلم واي لجمهوره الذي أتى لمشاهدة فيلمه إنه يصور فيلما عن ركبة عهد التميمي، وهو عمل لن تفهمه وزارة الثقافة العنصرية ولن يفهموه هم أنفسهم لأنه تمت قولبة عقولهم في قوالب مغلفة بالعنصرية ورفض الآخر. وبالتالي سوف يدخل المخرج لابيد في صراع مع حكومة قمعية.
الفنان صوت الحق
المخرج الإسرائيلي نداف لابيد يقدم دراما شائكة وذكية حول الصراع ويتناول رقابة الكيان الصهيوني للعمل الفني والمطبوعات
أظهرت جميع أفلام نداف لابيد شكوكا شديدة في المواقف والسياسات الإسرائيلية. في فيلم “ركبة عهد” يقدم نقدا حادا للرقابة والنفاق الذي حرضت عليه السلطات الإسرائيلية. في الوقت نفسه، يعكس الفيلم الاضطراب الأيديولوجي الذي عانى منه المخرج لابيد على مر السنين في وطنه، وردود الأفعال العنيفة التي واجهها بسبب أفلامه المثيرة للجدل.
لابيد المعروف بفيلم “المرادفات” (2019) الفائز بالدب الذهبي في مهرجان برلين، ويتحدث عن شاب يتخلى عن هويته الإسرائيلية وراءه ويصل إلى باريس عاريا، ويرفض التحدث باللغة العبرية أو التحدث إلى والديه في الوطن بعد إقناع نفسه بأنه “ولد في الشرق الأوسط عن طريق الخطأ”، جميع أفلام لابيد تعكس هذا التناقض المشحون تجاه الفكر القمعي لإسرائيل، مخرج لديه أسلوب محدد للغاية خاصة مع مواقفه السياسية الواضحة إزاء دولته وقسوتها المفرطة بحق الشعب الفلسطيني واستنكاره الشديد للحرب والخدمة العسكرية والرقابة الشديدة في بلده.
في مشهد تطلب ممثلة وزارة الثقافة من بطل الفيلم التوقيع على استمارة تعهد عرض فيلمه بعد الموافقة على الشروط والتي تتضمن ضوابط رقابية منها تعليمات يجب الالتزام بها والتركيز على المواضيع التالية: التجربة اليهودية، الهوية اليهودية والتاريخ اليهودي، والشتات اليهودي معاداة السامية، العرق في إسرائيل والصهيونية، الأعياد اليهودية والطفولة، والهولوكوست وعواقب المحرقة، وسائل الإعلام الجديدة، والقدس عاصمة أبدية وكذلك الجيش الصهيوني. وتضيف أن “هذه أوامر من وزير الثقافة ورئيس الأركان”.
الفيلم يقدم نقدا حادا للرقابة والنفاق الذي حرضت عليه السلطات الإسرائيلية كما يعكس الاضطراب الأيديولوجي المنتشر
يصرخ المخرج واي بوجه مسؤولة المكتبة “هذه الدولة ضد الإنسانية، هذه دولة قومية وعنصرية خطاب حكامها فارغ ويكشف حقيقة حكام هذه الدولة الذين ينضح عمقهم حقدا وكراهية، مهوسين بمصادرة أملاك وحرية المختلفين معهم والرافضين لوجودهم، اقرئي فقط الكتب في مكتبتك وللكتاب مثل جول فيرن، ديكنز، دوستويفسكي وكافكا، أدغار ألان بو، جورج ساند”.
ويضيف “لنفترض أني أريد أن أتحدث عن دولة يهودية قومية وعنصرية وسادية ودنيئة، هدفها إضعاف الروح وخاصة الروح العربية كي تنهار تحت وطأة الاضطهاد والإبادة والتعسف لتكون تحت رحمتها بالكامل، دولة مريضة وقاتلة ومعادية، قمامة تاريخية فاسدة، أتمنى أن لا أنتمي إلى هذه الدولة وتنتهي أن لا تكون لي علاقة بهذه الأرض”، عندها ترد عليه المسؤولة “سيتم الرفض وإدراجك في القائمة السوداء، بل واعتبارك خائنا”، يصرخ “إني أتقيأ إسرائيل، وعندي رغبة بالصراخ بوجه وزير الثقافة، تصفوني بالخائن، وزير الفنون يكره الفنون، ودولة تكره الفن وتكره الجمال”.
يمكن اعتبار فيلم “ركبة عهد” أكثر من مجرد صرخة ضد حزب الليكود وسياساته. مخرج أفلام يواجه احتمال التضحية بحريته الفنية وكرامته الشخصية وخسارة تمويل الدولة لأفلامه. المخرج، المسمى واي، من خلال الضغط الذي يواجهه يجسد كسرا جسيما في صميم المجتمع الإسرائيلي وإخفاء عسكرته الراديكالية والقومية الإقصائية تحت ستار الكياسة الثقافية والحداثة التكنولوجية هي القشة الأخيرة، إنه يدفعه إلى أزمة نهائية وقطيعة مع النظام والعمل على فضح أساليبه القمعية. أراد المخرج أن يصنع فيلما يعلن فيه تضامنه مع الفتاة الفلسطينية، منتقدا الجيش وأساليبه الوحشية ضد الشعب الفلسطيني.
صورة سوداء
سيرة ذاتية لمخرج يواجه القمع
فيلم “ركبة عهد” هو عمل سينمائي سياسي وشخصي أيضا، ويعد من بين الأفلام الأكثر كثافة وتطلبا جسديا. إنه لا يصور قصة محددة، بل سيرة ذاتية للمخرج نداف لابيد مع دولته العنصرية الدموية. إلى حد كبير يجسد إرهاصاته وثورته، ويرصد تصدع الشخصية الرئيسية في الفيلم (واي) بصورة تقترب من لابيد في التصور السينمائي والأداء والسرد نفسه وكأنها ثورة المخرج لابيد نفسه على سياسة بلده وكذلك الاتهامات والإدانات المستمرة للاحتلال الإسرائيلي، مما أدى إلى مونولوج موسع حول الطبيعة المتطورة للفن والهوية والحقيقة في بلد حريص على تقييد حرية التعبير.
يتأرجح المونولوج بين الذكريات الشخصية والإدانات المؤكدة، وهو حوار عن بلده، بينما يصب غضبه في جدل يغطي كل قضية كانت تثقل كاهله، يسقط على ركبتيه، ويتشبث بشدة بياهالوم للحصول على الدعم. لأنه رجل يستهلكه الغضب إلى درجة أنه مستعد حتى لإذلال ياهالوم في تمرده الصالح، عازما على جعلها تعترف بتواطؤها في نظام القمع هذا.
قال الكاتب والمخرج نداف لابيد “إن الخطوط العريضة لـ’ركبة عهد’ تستند إلى الأحداث التي حدثت له حول عرض مرادفاته السابقة، ولا تزال قسوة العواطف بالكاد موجودة لفترة طويلة جدا”.
ويواجه المخرج واي، أشياء تجعله يائسا من حالة بلاده وبوصلتها الأخلاقية الأوسع، والزيارة المنفردة إلى الصحراء هي المحفز لإطلاق العنان لحرية الغضب ضد السلطة بشكل عام، ولكن على وجه التحديد الجيش الإسرائيلي، ووزارة الثقافة (وبالتالي الحكومة بأكملها). وقد اشتهر مخرج الأفلام الإسرائيلي المشهور نداف لابيد بأنه أحد أكثر صانعي الأفلام الإسرائيليين صدامية، في حالة من خيبة الأمل العميقة تجاه بلده.
جميع أفلام لابيد تحمل غضبا وتشنجا مع إحباط فنان من وطنه، جامح للغاية وثوري بحيث لا يتناسب مع عدسة الكاميرا. قال لابيد “لقد عانيت كثيرا في موقع التصوير، يرتبط الفيلم بوفاة والدتي، لذلك بطريقة ما تظهر في موقع التصوير في كل مشهد، شعرت وكأنني أسير في جنازة أمي”. ووصف فيلمه “ركبة العهد” بأنه قصة فلسفية وليست حكاية سياسية بحتة قائلا “لا يتعلق الأمر فقط بالأزمة الحالية للحياة السياسية الإسرائيلية. لا يتعلق الأمر فقط بأزمة عالمية لحرية التعبير وحرية الفن والفكر. في النهاية، إنه فيلم عن الحالة الأساسية لكونك فردا يعيش في مجتمع”.
عند رؤية بلده يميل نحو الفاشية. يتفاقم الغضب ضد ظلم أساليب الدولة بسبب ظلم المرض الذي تعاني منه والدة المخرج، فهو لا يفقد حريته الفنية وولاءه لبلد ولادته فحسب، بل يفقد أيضا الشخص الذي كان دائما في حياته منذ اللحظة التي بدأ فيها التنفس. بعيدا عن أن يكون رجلا غاضبا بعض الشيء في منتصف العمر، فإنه يصبح يائسا وغاضبا وضائعا في نفس الوقت.
الخلاصة: “ركبة عهد” فيلم جدير بالمشاهدة أنجزه مخرج قرر بمحض إرادته ترك إسرائيل والهجرة منها ليستقر في فرنسا لأنها لم تعد تمثل حلمه ولأنها لم تعد البلاد التي تينع فيها زهرة الحرية.
يكشف فيلم “ركبة عهد” اشمئزازا من أي شيء يتعلق بإسرائيل، لذا فإن وجهة نظر الفيلم حادة وسلبية، وأرى أن تفتح صالات العرض في البلدان العربية لكي يقف المشاهد العربي على شهادة اليهودي الرافض والغاضب من أي شيء يتعلق بالحكومة الإسرائيلية، صور مليئة باليأس من القمع الدائم للفلسطينيين.
يقدم المخرج الإسرائيلي نداف لابيد دراما شائكة وذكية حول الصراع ويتناول رقابة الكيان الصهيوني للعمل الفني والمطبوعات، باستلهام الإحباط من وزيرة الثقافة السابقة (ميري ريغيف) التي استعدَت الفنانين الإسرائيليين بجعل الولاء للدولة شرطًا لتمويل الفنون، لكنني أعتقد دائما أن أسوأ رقابة في إسرائيل هي الرقابة الداخلية، جهاز الاستشعار الصغير الموجود في عقل ونفس كل إسرائيلي تقريبا.
“ركبة عهد” صورة سوداء قاتمة تضع المجتمع الإسرائيلي وجها لوجه أمام مرآة الضياع والعنف وكراهية الآخر. يبدأ الفيلم بجملة قالها نائب في الكنيست الإسرائيلي عن حادثة صفع المناضلة الفلسطينية عهد التميمي للجنود الإسرائيليين وحكم القضاء بسجنها ثمانية أشهر. يقول النائب: ثمانية أشهر فقط، كان عليهم أن يطلقوا الرصاص على ركبتها لتصبح عاجزة طيلة حياتها. الجملة التي بنى عليها المخرج لابيد حبكة فيلمه وتسلسل أحداثه. عهد التميمي حاضرة في الفيلم ولو من وراء ستار، حاضرة بوصفها الآخر الذي لا يريده المحتل ولا نطيق وجوده أو سماع صوته. الفيلم يبدو وكأنه محاولة فنان لفضح الاستبداد والظلم اللذين تتسم بهما سلطات الاحتلال وقوانينه. فيلم “ركبة عهد” هو عمل غاضب ومواجهة مع ظلم المحتل وغطرسته وتطهير للنفس البشرية من أدران الصهيونية ومنهجها في إبادة شعب ومصادرة وطن.
علاء حسن
كاتب عراقي