"جبل موسى".. تجربة استثنائية عن فلسفتي الحياة والعقيدة
السينما قادرة على تعزيز فهم الإنسان لذاته وعالمه.
ممثلون أتقنوا أدوارهم
رغم أنه حديث العهد بالإخراج السينمائي، إلا أن المخرج المغربي إدريس المريني استطاع لفت الانتباه إلى موهبته من خلال فيلمه الروائي القصير الأول “جبل موسى” الذي قدم فيه نظرته الخاصة لحضور العقيدة والدين في حياة الشعوب، باعتبارها موضوعا حساسا يسهل توظيفه لدمغجة المجتمعات وإحداث تغييرات عميقة فيها.
الرباط- يعد “جبل موسى” الفيلم الذي أخرجه إدريس المريني وكتبه عبدالرحيم بهير من بين الأعمال السينمائية البارزة في تاريخ السينما المغربية، حيث يقدم هذا العمل تجربة سينمائية استثنائية تجمع بين جماليات الطبيعة والأبعاد الروحانية والإنسانية.
يروي الفيلم قصة “مروان”، شاب صغير يعاني فقدان القدرة على الكلام ويكون مقيدًا بكرسي متحرك. يقرر “مروان” أن يختار العيش بعيدًا عن العالم الخارجي ويعيش حياة منعزلة. في هذا الانعزال يبدأ في مواجهة شياطينه الداخلية وينغمس في عوالمه الخاصة. وفي الفيلم يمر البطل “حكيم” بتجربة درامية تؤثر في ثقته وذوقه في الحياة. يشعر بالغضب والاستياء تجاه العالم من حوله، باستثناء وجود أمه الوحيدة واهتماماته العميقة بالفلسفة والأفكار الصوفية، وحبه الشديد للموسيقى الكلاسيكية التي تدفعه نحو تساؤلات مهمة حول معنى الوجود والإيمان والحب والمأساة.
“حكيم” يجد نفسه محاطًا بأسئلة عميقة حول مفهوم الخلق والخالق والعلاقات الإنسانية ويشعر بالوفاء في قلبه، لكنه في الوقت ذاته يتعرض لصدمة الخيانة التي تجعله يبتعد عن التواصل مع الآخرين ويصبح عدوانيًا تجاه ذاته. مع ذلك، يأتي لقاؤه مع “مروان”، أستاذ الفلسفة، ليغير مجرى حياته تمامًا إذ يظهر هذا الأستاذ كشخصية مختلفة تمامًا عن البطل، حيث يسعى إلى الاستقرار الاجتماعي ولا يظهر لديه اهتمام فلسفي بارز. هذا اللقاء يساعد “حكيم” على استعادة صفاء ذهنه ويقين قلبه وروحه، ويعيد إشعال شغفه بالحياة والبحث عن الجوانب الجميلة والإيجابية في العالم من حوله.
لعبة القدر
◙ الفيلم يتناول موضوعا حساسا يتعامل مع قضايا مهمة تمتد عبر العمق الثقافي والاجتماعي في المجتمعين المغربي والعربي
يأتي المشهد الافتتاحي تصاعديا، مثيرا للاهتمام بين جهتين متضادتين. يبدأ الأمر بـ”مشهد الصدمة”، حيث يتعرض البطل لحادث مروع يترك آثارًا مدمرة على جسده وعقله. هذا المشهد يقلب الاستقرار الذي عاشه البطل مسبقًا ويفتح أبوابًا لرحلة تحول شخصي وعاطفي عميقة.
بعد ذلك، ننتقل إلى مقطع يظهر نمطًا أكثر تقليدية لقصة التحول، حيث يصل البطل الشاب إلى مكان جديد ومجهول ويمثل هذا المكان بداية مرحلة جديدة في حياته، حيث يُطلب منه أن يعمل على تغيير الواقع واكتشاف إمكانياته.
وفي مشهد لافت من هذا السياق، ينتقل “مروان” إلى الطابق السفلي من الفيلا الصغيرة ويبدأ في استكشافها بحثًا عن مفاتيح التحول ثم تأتي لحظة مميزة عندما يلاحظ قطعة واحدة في لوحة الشطرنج غير موضوعة بشكل صحيح، ويقرر تصحيح الموقف بنفسه. هذه الرؤية الأولى الافتتاحية تمثل نقطة تحول مصيرية في تطور الشخصية السردية، حيث يبدأ البطل في التفكير بشكل جدي في رحلته المقبلة وكيفية تحقيق توازنه الشخصي والروحي.
الفيلم يتناول موضوعًا ملتهبًا وحساسًا يتعامل مع قضايا مهمة تمتد عبر العمق الثقافي والاجتماعي في المجتمعين المغربي والعربي بشكل عام. كما يلامس هذا العمل السينمائي أوجهًا عديدة من الحياة اليومية والثقافية والدينية والسياسية، ويجسدها بأسلوب فني يلقي الضوء على تلك القضايا بطريقة مثيرة وعميقة. ومن خلال التركيز على أهمية العقل والاعتدال والاعتراف بالإيمان وبرب الكون كمطلب أساسي، يسلط الضوء على أهمية الروحانية والتفكير البنَّاء في مجتمع يعيش تحت تأثير تحولات ثقافية وسياسية.
سرد زمكاني
يشير فيلم “جبل موسى” إلى أن السينما تؤدي دورًا حيويًا في نقل الأفكار والقيم النبيلة، وتعزيز فهم الإنسان لذاته وعالمه الزمكاني حيث تتحول المدينة الساحلية ببطء إلى مكان تجريدي يستمد معانيه وأبعاده من خلال تلاقي الأحداث والمناظر. يتجسد هذا المكان بشكل مبتكر بين مشاهد البحر اللامتناهية وجمال المناظر الجبلية، وهو يتخطى القواعد الجغرافية التقليدية للموقع على الخريطة ويتداخل على نحو فريد مع تطورات السرد، كما تم تصميم هذا المكان بغرض أن يكون منصة لتطورات الأحداث وتطوير القصة بأكملها.
يظهر البعد السردي كجزء أساسي ومثير للاهتمام، وهو يتجلى من خلال تطور الشخصيات حيث يتم تجسيد هذا البعد من خلال فيلا “حكيم”، والتي تأخذ بنية معمارية مزدوجة تجمع بين الجزء العلوي والجزء السفلي، وبين الداخل والخارج، ويتم تمثيل هذه الهيكلية المعمارية المزدوجة من خلال وجود الأبواب والعتبات والسلالم والشُرفات، واستخدام متعدد للإضاءة يتراوح بين الإضاءة الطبيعية والإضاءة الاصطناعية، مما يمنح هذه البنية طابعًا فريدًا. ويأتي “مروان”، الأستاذ الشاب الذي يجلس على عرش القصة في هذه المدينة، ليكون القوة المحركة التي تمنح هذا الهيكل الأساسي تماسكًا وعمقًا دراميًا يعكس التطورات السردية والنفسية في الرواية، ويشكل جزءًا لا يتجزأ من هذا العالم السردي المميز، حيث تتناغم شخصيته مع البنية المعمارية الفريدة للفيلا لتوفير تجربة قراءة غنية بالعواطف والتفاصيل.
في الحقيقة، تتغير الظروف والمواقف أمامنا تمامًا كما تتغير شخصياتنا، حيث أن الأفراد الذين يبدأون رحلتهم لن يظلوا هم أنفسهم عندما ينهونها، إذ يمكن مشاهدة هذا الجانب من التطور في الرموز والصور التي تجسد تحول “حكيم” وتأثير “مروان”.
◙ المخرج إدريس المريني يقدم أداءً ممتازًا فيما يتعلق بالإخراج ويُظهر الفيلم توجيهًا متقنًا وذكيًا للحكاية، حيث يتم التعبير عن القصة والرسالة بشكل فعّال
عندما نشاهد “حكيم” وهو يعيد تعيين الساعة، يمكن تفسير ذلك على أنه نهاية لحقبة الاستقرار بالنسبة إليه مما يشير إلى أنه بدأ يجد طريقه نحو التغيير وتحسين وضعه في الحياة، كما يظهر تأثير العلاقات الإنسانية على تطور الأفراد أيضًا من خلال تأثر “مروان” بفضل تواصله مع “حكيم”.
المشهد الذي يختتم الفيلم بالشخصيتين وهما يلعبان لعبة مرحة يمكن فهمه كرمز للتواصل الإيجابي والتفاهم الحقيقي بين البشر، وكذلك رمز للسعادة والانسجام الذي يمكن أن يأتي بهما التواصل الإنساني. عندما تتحرك الكاميرا بحركة رأسية نحو السماء في نهاية الأمر، يمكن تفسيرها على أنها رمز للبحث عن الحقيقة والروحانية، مما يفتح الباب أمام الانصهار في الوجود الإلهي.
يمكن أن نقول إن الممثلين والممثلات في هذا الفيلم قدموا أداء استثنائيا، حيث شارك فيه السعدية أزكون، يونس بواب، سهام أسيف، عبدالنبي البنيوي، حسن فولان، عمر عزوزي، هاجر بوزاويت، عبداللطيف الشكرة، وفايزة يحياوي وقد جسدوا شخصياتهم بشكل ممتاز. إن أداءهم الاستثنائي كان أحد العوامل الرئيسية وراء نجاح هذا العمل السينمائي.
إخراج مستفز
بمهارة وفن، يتطرق الفيلم على نحو استفزازي وأيديولوجي إلى استخدام الدين والعقيدة في حياة الأفراد اليومية، مما يُشكل عرقلة لحرياتهم ويحرمهم من قدرتهم على التفكير النقدي، ويفرض عليهم شعورًا بالذنب، فالمخرج يجمع بين هذه العناصر المعقدة بمهارة وإبداع، حيث يعبأ الفيلم بلحظات مثيرة ومواقف درامية معقدة.
وتميز التنفيذ الفني للفيلم بمونتاج دقيق ومحكم، حيث يظهر الإخراج بأنه متقن وذكي في توجيه الحكاية، كما تأخذ الكاميرا مواقعها بأسلوب متقن يعكس نبل رسالة التركيب السردي الناضج والملتزم وسموّه، ويوظف مسألتي الدين والإيمان بمهنية وتأثير كأدوات للسيطرة على المجتمعات والتلاعب بها، مما يضفي عمقًا وتأثيرًا إضافيًا على السرد. بالتالي يُمكن اعتبار هذا الفيلم تجربة سينمائية تستحق التقدير وتثير النقاش والتفكير بشكل عميق حول استخدام القيم الدينية في حياتنا اليومية.
يقدم المخرج أداءً ممتازًا فيما يتعلق بالإخراج ويُظهر الفيلم توجيهًا متقنًا وذكيًا للحكاية، حيث يتم التعبير عن القصة والرسالة بشكل فعّال وبطريقة تعكس تمامًا رؤية المخرج، وتقدم للمشاهدين تجربة سينمائية مرئية جذابة. كما أن إدراك المخرج لأهمية تنظيم الحبكة السردية يسهم في إثارة الاهتمام وتقديم اللحظات المثيرة والمواقف الدرامية المعقدة بأسلوب ملائم. كل هذا يشير إلى قدرته على التعبير عن أفكاره ورؤيته بشكل تقني واضح. ويمكن القول إن إدريس المريني يبرز منذ تجربته الأولى كمخرج موهوب يجمع بين التفكير العميق والمهارات الفنية في توجيه الفيلم بطريقة تثير الاهتمام وتجعلها تجربة سينمائية تستحق المتابعة.