لون الفردوس The color of paradise
قصيدة " مجيد مجيدي " السينمائية
عام 1998 إستطاع المخرج الإيراني "مجيد مجيدي " أن يوصل السينما الإيرانية ــ لأول مرة في تاريخها ــ الى ترشيحات جوائز الأوسكار ، من خلال فيلمه ( أبناء السماء ) الذي اعتمد فيه أدوات الإنتاج السينمائي البسيطة ، من حيث السيناريو الذي كتبه بنفسه و كاميرا التصوير و اختيار ممثلين أطفالاً من الصنف الخام غير المُتدرّب ، ليخرج بفيلم ملفت لإنتباه المعنيين بالسينما في العديد من الدول ، حتى أن سيناريو الفيلم بات يُدرس في بعض المدارس الثانوية في الولايات المتحدة و اليابان .
في العام التالي ( 1999 ) قدّم " مجيدي " فيلماً آخر ــ كتب له السيناريو بنفسه أيضاً ــ بعنوان ( لون الفردوس ) ذي الترجمة الإشكالية للعنوان الإصلي بالفارسية ( رنـگ خدا ) ، و أيضاً كان يعتمد في بطولته على الأطفال . و يبدو أن " مجيد مجيدي " اختط هذا النهج لا لكي يتميز به عن زملائه المخرجين الإيرانيين ــ و جميعهم متميزون ــ بل ، ربما ، وجد في الأطفال صفحة بيضاء يستطيع من خلالها التعبير عن فلسفة حياتية تتحاشى التعقيد . ففي عام 2020 عاد " مجيدي " ليقدم فيلماً ــ أبطالُه أطفالٌ أيضاً ــ بعنوان ( أبناء الشمس ) ، يتناول فيه قضية استغلال الأطفال . و في كل مرة يتناول المخرج قضية الأطفال المهمشين يسلط عليهم الضوء الساطع كي ننتبه الى أنهم النبض الحقيقي للحياة ، و قد إعتاد أن يستل أبطال أفلامه الأطفال من الشارع ، وهم ( خام ) تماماً ولكنه يخلق منهم ممثلين باهرين مدهشين يصيبون المشاهدين و الممثلين المحترفين بالذهول .
نتحدث الآن عن فيلم ( لون الفردوس ) ، المُنتَج عام 1999 . ينطلق الفيلم من مشهد يبدأ فيه التلاميذ استعداداتهم لمغادرة مدرستهم التي في طهران للإستمتاع بعطلتهم الصيفية التي تستغرق ثلاثة أشهر ، و أغلب هؤلاء الطلبة من المكفوفين . يحضر ذووهم في اليوم التالي ليأخذوا أبناءهم ، لكن الطالب الكفيف " محمد " ( لعب دوره " محسن رمضاني " ) هو الوحيد الذي يتأخر أهله عنه . هو في الواقع ينتظر أباه الأرمل الذي عليه أن يأتي من ريف ناءٍ عن طهران . و خلال فترة الإنتظار ــ التي تأخذ ردحاً من النهار ــ يقدم لنا المخرج لمحة عن إنسجام حواس " محمد " و تناغمها مع الطبيعة و عن يقظة مدركاته حين يشعر بسقوط شيء و تحفز قط للإقتراب منه ، ذلك كان فرخ طائر ، أدرك " محمد " مكانه بحِسّهِ المعوض عن البصر ، فيعثر على الفرخ و يصعد الشجرة بصعوبة ليعيده الى عشه . هذا المشهد ــ على الرغم من بساطته ــ يعكس حساسية " مجيد مجيدي " السينمائية و يعكس قدرته على الإلتقاط و خلق الجملة السينمائية الفصيحة بلغة بسيطة .
حين يصل الأب ــ متأخراً ــ يتأمل إبنه الكفيف ، و تعبّر عيناه عن الأسى الذي سنكتشف ــ فيما بعد ــ أنه ليس تجاه إبنه بل تجاه نفسه ، حيث سيكون الإبن عائقاً أمام آماله الشخصية . لذا فهو يندفع بأمل خائب ليسأل إدارة المدرسة عن إمكانية الإحتفاظ به خلال العطلة ، لكن جواب مدير المدرسة كان أكثر تخييباً لآماله الشخصية حين يخبره بأن هذه مدرسة و ليست منظمة إجتماعية ، فيعود بإبنه على مضض الى ريفه البعيد . مرة أخرى يعبر الإبن " محمد " عن وشيجة تواصله التعويضية مع الطبيعة ، حين يطلب منه أبوه أن يكف عن مد يده خارج نافذة السيارة فيرد على أبيه بالقول : ( أريد أن أمسك الريح ) . و قبل أن يصلا الى قريتهما يسمع " محمد " صوت طائر مختلف فيسأل أباه : هل وصلنا ؟ . هذا أيضاً مؤشر على النمو الخفي لأحاسيسه الخفية التي هي بديل لحاسة البصر . إذ يبدو أنه اعتاد صوت هذا الطائر في قريته و ليس في مكان آخر .
بقَدْر ما كان الأب رحيماً ، عطوفاً على إبنه الكفيف ، إلا أنه كان يجده عائقاً أمام آماله الشخصية ، و تحديداً أمام زواجه من إحدى فتيات القرية التي يرى أهلُها أن وجود أعمى هو نذير شؤم ، لذلك يذهب الإبُ بإبنه الى نجار ــ كفيف أيضاً ــ في مكان بعيد ليدربه على النجارة ، ولكن هدف الأب الباطني هو غير هذا الهدف السطحي المُعلَـن .
غير أن الصبي يفلسف وضعه ككفيف و يطرح أمام النجار فكرته الوجودية بخصوص موقف الله ، ففي أول جلسة معه تنهمر دموعه ، و عندما يسأله النجار عمّا إذا كان مشتاقاً لأهله يجيبه : لا ، الآن تأكدتُ من أنني لستُ مرغوباً به ، و لستُ محبوباً .. لأنني ضرير . هذا يعني أنه أدرك المغزى من المجيء به الى النجار .
وقال : ( قال لي المعلم مرةً أن الله يحب الضرير لأننا لا نرى ، ولكنني سألته : إذا كان كذلك فلماذا خلقنا ضريرين . هل خلقنا هكذا لكي لا نراه ؟ أجابني أن الله لا تدركه الأبصار ، إن الله في كل مكان ، تستطيع أن تراه بإحساسك ) و من المؤكد أن إجابة المعلم التي لم يقتنع الصبي الكفيف بها ، هي استنساخ لطروحات الكهنة الكاثوليك في الأديرة ، مع فارق أن المعلم كان مدارياً لمشاعر الصبي في دولة إسلامية .. في حين إن أولئك الكهنة كانوا يوغلون في تكريس العَماء .
لقد كان الصبي " محسن رمضاني " مبدعاً في أداء دوره ، كذلك الممثل المتمرس " حسين محجوب " الحاصل على العديد من الجوائز و الذي لعب دور الأب في هذا الفيلم الذي هو تحفة من روائع السينما الإيرانية .
عندما نتأمل خلاصة الفيلم سنجد أنه يتناول معاناة الأب و ليس الأبن الذي إنْ هو إلا واجهة للفيلم تلفت انتباه المشاهد كونه ضريراً فيما المعاناة الحقيقية هي معاناة إبيه الذي يقف ــ هو ــ عائقاً في طريقه .
كثيراً ما تحصل أخطاء ( مقصودة ) ــ لتجنب الحساسية مع الرقابة السينمائية في ايران ــ أو ( غير مقصودة ) بسبب الجهل ، بخصوص ترجمة بعض عناوين الأفلام الإيرانية .
فالعنوان الأصلي لهذا الفيلم ــ بالفارسية ــ هو ( رنگ خـُدا ) و ترجمته الحرفية : ( لون الله ) ، أو ( لون الإله ) ، أو لنقل ( اللون الإللهي ) ، ( وقد يكون المقصود : " إرادة الله " .. من باب التورية ) فكيف تُرجِم العنوان الى ( لون الفردوس ) ؟ فلو كان العنوان بالفارسية هو ( رنگ بهشت ) لكانت الترجمة ( لون الفردوس " .. دقيقة ) ، كما أن ذات الإشكالية في الترجمة قد حصلت مع عنوان فيلم ( بَچّهاي آسمان ) ــ بالفارسية ــ لذات المخرج " مجيد مجيدي " ، الذي ترجمتُهُ الحرفية هي ( أبناء السماء ) ولكنهم ترجموها ( أبناء الجنة ) .
الواقع إن ترجمة العنوان بصورة مخطوءة يخلق إشكالية لدى المشاهد في تصور أحداث الفيلم ، تطابقاً مع ترجمة عنوانه ، و هو ما لا يدركه المترجم .. ( العابث ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
قصيدة " مجيد مجيدي " السينمائية
عام 1998 إستطاع المخرج الإيراني "مجيد مجيدي " أن يوصل السينما الإيرانية ــ لأول مرة في تاريخها ــ الى ترشيحات جوائز الأوسكار ، من خلال فيلمه ( أبناء السماء ) الذي اعتمد فيه أدوات الإنتاج السينمائي البسيطة ، من حيث السيناريو الذي كتبه بنفسه و كاميرا التصوير و اختيار ممثلين أطفالاً من الصنف الخام غير المُتدرّب ، ليخرج بفيلم ملفت لإنتباه المعنيين بالسينما في العديد من الدول ، حتى أن سيناريو الفيلم بات يُدرس في بعض المدارس الثانوية في الولايات المتحدة و اليابان .
في العام التالي ( 1999 ) قدّم " مجيدي " فيلماً آخر ــ كتب له السيناريو بنفسه أيضاً ــ بعنوان ( لون الفردوس ) ذي الترجمة الإشكالية للعنوان الإصلي بالفارسية ( رنـگ خدا ) ، و أيضاً كان يعتمد في بطولته على الأطفال . و يبدو أن " مجيد مجيدي " اختط هذا النهج لا لكي يتميز به عن زملائه المخرجين الإيرانيين ــ و جميعهم متميزون ــ بل ، ربما ، وجد في الأطفال صفحة بيضاء يستطيع من خلالها التعبير عن فلسفة حياتية تتحاشى التعقيد . ففي عام 2020 عاد " مجيدي " ليقدم فيلماً ــ أبطالُه أطفالٌ أيضاً ــ بعنوان ( أبناء الشمس ) ، يتناول فيه قضية استغلال الأطفال . و في كل مرة يتناول المخرج قضية الأطفال المهمشين يسلط عليهم الضوء الساطع كي ننتبه الى أنهم النبض الحقيقي للحياة ، و قد إعتاد أن يستل أبطال أفلامه الأطفال من الشارع ، وهم ( خام ) تماماً ولكنه يخلق منهم ممثلين باهرين مدهشين يصيبون المشاهدين و الممثلين المحترفين بالذهول .
نتحدث الآن عن فيلم ( لون الفردوس ) ، المُنتَج عام 1999 . ينطلق الفيلم من مشهد يبدأ فيه التلاميذ استعداداتهم لمغادرة مدرستهم التي في طهران للإستمتاع بعطلتهم الصيفية التي تستغرق ثلاثة أشهر ، و أغلب هؤلاء الطلبة من المكفوفين . يحضر ذووهم في اليوم التالي ليأخذوا أبناءهم ، لكن الطالب الكفيف " محمد " ( لعب دوره " محسن رمضاني " ) هو الوحيد الذي يتأخر أهله عنه . هو في الواقع ينتظر أباه الأرمل الذي عليه أن يأتي من ريف ناءٍ عن طهران . و خلال فترة الإنتظار ــ التي تأخذ ردحاً من النهار ــ يقدم لنا المخرج لمحة عن إنسجام حواس " محمد " و تناغمها مع الطبيعة و عن يقظة مدركاته حين يشعر بسقوط شيء و تحفز قط للإقتراب منه ، ذلك كان فرخ طائر ، أدرك " محمد " مكانه بحِسّهِ المعوض عن البصر ، فيعثر على الفرخ و يصعد الشجرة بصعوبة ليعيده الى عشه . هذا المشهد ــ على الرغم من بساطته ــ يعكس حساسية " مجيد مجيدي " السينمائية و يعكس قدرته على الإلتقاط و خلق الجملة السينمائية الفصيحة بلغة بسيطة .
حين يصل الأب ــ متأخراً ــ يتأمل إبنه الكفيف ، و تعبّر عيناه عن الأسى الذي سنكتشف ــ فيما بعد ــ أنه ليس تجاه إبنه بل تجاه نفسه ، حيث سيكون الإبن عائقاً أمام آماله الشخصية . لذا فهو يندفع بأمل خائب ليسأل إدارة المدرسة عن إمكانية الإحتفاظ به خلال العطلة ، لكن جواب مدير المدرسة كان أكثر تخييباً لآماله الشخصية حين يخبره بأن هذه مدرسة و ليست منظمة إجتماعية ، فيعود بإبنه على مضض الى ريفه البعيد . مرة أخرى يعبر الإبن " محمد " عن وشيجة تواصله التعويضية مع الطبيعة ، حين يطلب منه أبوه أن يكف عن مد يده خارج نافذة السيارة فيرد على أبيه بالقول : ( أريد أن أمسك الريح ) . و قبل أن يصلا الى قريتهما يسمع " محمد " صوت طائر مختلف فيسأل أباه : هل وصلنا ؟ . هذا أيضاً مؤشر على النمو الخفي لأحاسيسه الخفية التي هي بديل لحاسة البصر . إذ يبدو أنه اعتاد صوت هذا الطائر في قريته و ليس في مكان آخر .
بقَدْر ما كان الأب رحيماً ، عطوفاً على إبنه الكفيف ، إلا أنه كان يجده عائقاً أمام آماله الشخصية ، و تحديداً أمام زواجه من إحدى فتيات القرية التي يرى أهلُها أن وجود أعمى هو نذير شؤم ، لذلك يذهب الإبُ بإبنه الى نجار ــ كفيف أيضاً ــ في مكان بعيد ليدربه على النجارة ، ولكن هدف الأب الباطني هو غير هذا الهدف السطحي المُعلَـن .
غير أن الصبي يفلسف وضعه ككفيف و يطرح أمام النجار فكرته الوجودية بخصوص موقف الله ، ففي أول جلسة معه تنهمر دموعه ، و عندما يسأله النجار عمّا إذا كان مشتاقاً لأهله يجيبه : لا ، الآن تأكدتُ من أنني لستُ مرغوباً به ، و لستُ محبوباً .. لأنني ضرير . هذا يعني أنه أدرك المغزى من المجيء به الى النجار .
وقال : ( قال لي المعلم مرةً أن الله يحب الضرير لأننا لا نرى ، ولكنني سألته : إذا كان كذلك فلماذا خلقنا ضريرين . هل خلقنا هكذا لكي لا نراه ؟ أجابني أن الله لا تدركه الأبصار ، إن الله في كل مكان ، تستطيع أن تراه بإحساسك ) و من المؤكد أن إجابة المعلم التي لم يقتنع الصبي الكفيف بها ، هي استنساخ لطروحات الكهنة الكاثوليك في الأديرة ، مع فارق أن المعلم كان مدارياً لمشاعر الصبي في دولة إسلامية .. في حين إن أولئك الكهنة كانوا يوغلون في تكريس العَماء .
لقد كان الصبي " محسن رمضاني " مبدعاً في أداء دوره ، كذلك الممثل المتمرس " حسين محجوب " الحاصل على العديد من الجوائز و الذي لعب دور الأب في هذا الفيلم الذي هو تحفة من روائع السينما الإيرانية .
عندما نتأمل خلاصة الفيلم سنجد أنه يتناول معاناة الأب و ليس الأبن الذي إنْ هو إلا واجهة للفيلم تلفت انتباه المشاهد كونه ضريراً فيما المعاناة الحقيقية هي معاناة إبيه الذي يقف ــ هو ــ عائقاً في طريقه .
كثيراً ما تحصل أخطاء ( مقصودة ) ــ لتجنب الحساسية مع الرقابة السينمائية في ايران ــ أو ( غير مقصودة ) بسبب الجهل ، بخصوص ترجمة بعض عناوين الأفلام الإيرانية .
فالعنوان الأصلي لهذا الفيلم ــ بالفارسية ــ هو ( رنگ خـُدا ) و ترجمته الحرفية : ( لون الله ) ، أو ( لون الإله ) ، أو لنقل ( اللون الإللهي ) ، ( وقد يكون المقصود : " إرادة الله " .. من باب التورية ) فكيف تُرجِم العنوان الى ( لون الفردوس ) ؟ فلو كان العنوان بالفارسية هو ( رنگ بهشت ) لكانت الترجمة ( لون الفردوس " .. دقيقة ) ، كما أن ذات الإشكالية في الترجمة قد حصلت مع عنوان فيلم ( بَچّهاي آسمان ) ــ بالفارسية ــ لذات المخرج " مجيد مجيدي " ، الذي ترجمتُهُ الحرفية هي ( أبناء السماء ) ولكنهم ترجموها ( أبناء الجنة ) .
الواقع إن ترجمة العنوان بصورة مخطوءة يخلق إشكالية لدى المشاهد في تصور أحداث الفيلم ، تطابقاً مع ترجمة عنوانه ، و هو ما لا يدركه المترجم .. ( العابث ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ