كمال سيدي السعيد رجل الظل والعلبة الإعلامية للرئيس الجزائري
نجاح أم إخفاق في مهمة المكلف بالإعلام الرئاسي؟
مكلف بتلميع صورة الرئيس وأفعاله وأقواله
لا تنفك الألسن المبلبلة لمدراء القنوات عمومية وخاصة المواقع والجرائد وقوم تبع من الإعلاميين تشير إليه في “مجالس النميمة” و”سوق الكلام”، من هنا وهناك..
رجل ظل بعيدا عن الأنظار والسماع والنطق حتى بدأت تتوالى صوره وتصريحاته المفاجئة منذ القمة السابعة لرؤساء دول وحكومات منتدى الدول المصدرة للغاز التي عقدت في الجزائر مارس 2024، وهو الذي دأب منذ دخوله قصر الرئاسة على التواري عن الأنظار.
إنه كمال سيدي السعيد أحد رجال الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون من يلتفون حوله في حلقة ضيقة، فهو مكلف بتلميع صورة الرئيس وأفعاله وأقواله، وكل ما يحدث حواليه.
في رأي الكثيرين لم يكن المكلف بالإعلام الرئاسي ليخرج من قوقعة الصمت، لولا أن شيئا أقضّ سكونه وحرّكه لفعل ذلك.. وقف أمام كاميرات التلفزيونات، تحدث وتكلم في موقعة نادرة حيث لم يعرف له تصريح علني بالصوت منذ وطئت أقدامه القصر.
◙ أمام كاميرات التلفزيونات، وقف وتحدث وتكلم في موقعة نادرة حيث لم يعرف له تصريح علني بالصوت منذ وطئت قدماه القصر
نزل إلى مبنى الإذاعة في زيارة خاصة، ويا للمفارقة تكلم بالفرنسية، وهي في رأي الكثيرين زلة وخطأ، حيث كان من المفترض، على اعتبار أنه مسؤول رسمي، أن يقول كلمته باللغة العربية في مكان سيادي وفي يوم مشهود.
نزل بعد نهاية قمة الغاز، ومشاركة اللفتة السنوية التي تقام تخليدا للصحافيين الجزائريين الذين كانوا في مهمة عمل رسمية وقضوا في فيتنام، إثر سقوط طائرة عسكرية فيتنامية سنة 1974.
يُرى دوما في بعض خرجات الرئيس تبون، يحمل “تابلات” صغيرة يسجّل عليها الملاحظات والتفاصيل، يلتقط ما يتفوّه به الرئيس أو من يقفون أمامهم، ليلقي بها بعد ذلك في تقرير ملخص ودقيق، يوضع أولا على مكتب الرئيس، ليُصاغ بعدها في بيانات تنشر في الصحف أو في الوسائط الرسمية.
محاط في مكتبه بثلة من المكلّفين بمهمات، هم معروفون في الوسط الإعلامي، صعد نجمهم أثناء حملة الرئيس سنة 2019، يشاع أنهم كانوا الأقرب إلى تبون حين عصفت به النوائب والمحن والغضب، لم يقطعوا حبل الود معه رغم الخوف المهيمن على جو الجزائر في تلك الفترة، خاصة أن المغضوب عليه تبون، وقف في وجه طغيان وتغوّل ما عرف لاحقا بالدولة العميقة و”العصابة”.
كانوا يسألون عنه في هذا الجو العاصف، فهو يعرفهم جيدا بحكم تولّيه العديد من المناصب في الدولة، خاصة حين كان وزيرا للسكن، حيث كانوا يرافقونه في الخرجات والتدشينات، يمازح بعضهم، ويستقبل بعضهم دوما في مكتبه بأعالي ديدوش مراد أين يقع مبنى الوزارة، بل يقال إنهم كانوا يزورونه في بيته حين غادر منكسرا عتبات الحكم..
طبعا تبقى هذه مجرد أحاديث تتردد في الصالونات، وتتقاذفها الأفواه كالكرة.. تكبر وتكبر حتى لا يستطيع أحد الإمساك بها لثقلها ووزنها، وهي تروى حين تأكل الخربشات الأيادي في البحث الضنين عن خلفيات وجود هؤلاء القوم دون غيرهم في القصر معزّزين مكرّمين.
◙ كيف تحول فجأة إلى مسؤول ملغز يأمر ويطاع، مرعب ومسيطر، وتأتيه الوفود صاغرة؟
في نفس تلك الفترة لم يكن كمال سيدي السعيد بين هؤلاء، كان يصول ويجول كاتبا في عدد من الجرائد الجزائرية الناطقة بالفرنسية، ثم أصبح أحد أذرع رجل الأعمال الأشهر في الجزائر يسعد ربراب، مكلفا بالاتصال في مجمّعه الاقتصادي.. طبعا هذا الموقع الهام لن يمنح على طبق لأيّ كان، لا بد من مواصفات خاصة في الشخص الذي يتولاّه، لعل أهمها، كما لا يخفى على أيّ متابع لطبيعة العلاقات التي تأسست عليه الدولة الجزائرية وملحقاتها، يعرف أن الولاء للجهة هي ديدن وبصمة لصيقة بالنظام ورجالاته، وهو ما يظهر جليا حيث ينتميان لنفس المنطقة.
لعل الصدف هي التي لعبت الأدوار في حياة كمال سيدي السعيد حتى فتحت له الطرقات، فقد كان والده واليا في الثمانينات، ومن المتوقع أن يكون الرئيس تبون التقاه عندما شغل هو أيضا منصب أمين عام ووال في عدد من الولايات، ومن ثمّ يمكن فهم كيف التقط تبون سيدي السعيد الابن ووضعه معه في القصر، مقاربة قد تفتح لنا مغاليق وأسرار تشكل الروابط الغامضة التي تستمر بين عائلات رجال النظام الجزائري منذ تأسيسه.
أتاح هذا الفضاء السلطوي المغري الذي رشح حول المحظوظ كمال سيدي السعيد منذ والده أن يغرف منه ويتقلب في نعيمه، لتسوقه الأيادي الخفية ليكون عنصرا يتحرك وراء الستار في حملة تبون والتي انتهت بفوزه في انتخابات مقلقة وعاصفة.
المسؤول الشبح
نظرة سريعة على بعض الفيديوهات القديمة لحملة تبون وتفحصها سنكتشف أن لا وجود لكمال سيدي السعيد في الصورة كما لو أنه شبح.. عكس آخرين معروفين بالاسم واللقب مكشوفين في الصورة.. مدير الحملة الوزير الحالي للاتصال محمد لعقاب، عبداللطيف بلقايم، عبدالوهاب بوكروح وفوزية بوسباك، هؤلاء هم من يلتفون حول تبون اليوم في “دائرة النار”.
الصاعدون الجدد أثاروا الكثير من اللغط والغبار كأن الدخول إلى قصر المرادية يجب أن يظل حكرا للأبد على طائفة “سرية” بمقياس “مقدسة” لتقلد المناصب والمواقع، لا يراد لها أن تتزعزع وهذا منذ الاستقلال، إن من ناحية الانتماء أو الجهة أو سطوة المال، أو حتى من ناحية الشكل، العائلة والصحبة، وهو ما صعّد الهجمات عليهم خاصة في الوسائط الاجتماعية وفي الصالونات وحديث “نسوة يوسف” في الخلفيات المظلمة لمدينة الجزائر، التي بثت الشائعات والأراجيف والتقولات، بعضها صحيح كما يقول المطمئنّون، وبعضها مغموس في نهر التلفيق والتشهير كما يقول المرجفون.
مع ذلك صمد هؤلاء، وعلى رأسهم كمال سيدي السعيد، صمود احتاج فعلا إلى نفس كبير وطاقة عجيبة في المرور أمام عواصف حادة مزمجرة كانت تخبط بقوتها على باب القصر، رغم الكثير من الأخطاء والزلات الواضحة.
كانوا يستمدون طاقاتهم من الثقة التي منحها لهم تبون حتى أنها بلغت ذروة التعصب لهم، فلقد تقربوا منه وتقاسموا معه محنه وشدائده، ولم يكن يرد إطلاقا بباله التفريط فيهم بالرغم من تتالي التقارير الموضوعة على مكتبه بخصوصهم أو الشكاوي التي تنقل من الأفواه مباشرة.
تعكس السرديات التي رافقت دوما الاتصال الرسمي للرئيس تبون، منذ اعتلائه سدة الحكم، محاولات حثيثة من طرف كمال سيدي السعيد وفريقه ليكونوا دوما على جاهزية لإعطاء الصورة الحقيقية لما يريده الرئيس، فقد نفذوا وعده بلقاءات دورية مع الصحافة الجزائرية.
◙ صمت كمال سيدي السعيد على الأراجيف احتاج فعلا إلى نفس كبير وطاقة عجيبة في المرور أمام عواصف حادة مزمجرة
اختاروا الأقرب إليهم في الطباع والمضمون، الطائعين بالخصوص، ابتعدوا عن عناصر قد تفاجئهم وتربك خط السير العام أو بصريح العبارة المشوشين.. لم يُر في اللقاءات المقتدرون على خوض غمار الأسئلة الصعبة التي تواجه الدولة والمجتمع مع كثرة المشاكل والصعوبات.
صحيح أن مثل هذه اللقاءات تخضع لفحص وتدقيق وإعداد قبلي، ومع ذلك جاءت اللقاءات كما انتبه إليها العديد من خبراء الإعلام وحتى من السياسيين خالية من الروح والإبداع والسلاسة بل حتى الديكور الذي جرت فيه اللقاءات الأولى فقد جاء باهتا ومنفّرا للعين.
إن شئنا أن نولّي وجهنا نحو حصيلة العمل الإعلامي طوال العهدة الأولى للرئيس ونسأل فريقه الإعلامي (طبعا نسأله افتراضيا، لأن مواجهة هذا الفريق وجها لوجه تكاد تكون مستحيلة إن لم تكن خطيرة وقد تؤدي بالسائل إلى مطبات لا تحمد عقباها) بمنطق محايد ومختلف عن الجوقة التي تعزف نفس النوتة منذ 4 سنوات تقريبا، من باب الحريص على فهم الكثير من الإخفاقات التي ظهرت للعيان سواء في تسويق صورة محسنة عن نشطات الرئيس ومنجزاته، كبعض البيانات التي صدرت من وكالة الأنباء الجزائرية والتي لا يمكن أن تبث دون الضوء الأخضر من كمال سيدي السعيد، وهي بيانات تكتب بالفرنسية قبل أن تترجم إلى اللغة العربية، وامتازت بركاكة الترجمة وهزالها.. وكانت محيّرة في أسلوبها ولغتها وتراكيبها دون الحديث عن مضمونها لأنها تبقى مواقف سيادية للدولة وهي تقول إنها تعرف ما تفعله وما تقوم به ولو كان ذلك مخالفا للوقائع والأعراف والتقاليد والتحولات والرهانات والمواقف.
ولا يمكن أن نغفل الإشارة إلى القناة الدولية “ALG 24“، التي لم تستو إلى الآن على “ستايل” معين، رغم الإرادة السياسية القوية التي وقفت وراءها، غير أن التصريح “الحالم” بأنها ستنافس قنوات عالمية كما قال مديرها العام سليم أغار المقرب من كمال سيدي السعيد، وهو الذي وضعه على رأسها، سقط في خانة البروباغندا المجانية والاستسهال والاندفاعات بحمية زائدة.
ورغم الإمكانيات الهائلة التي رصدتها الدولة من أجل هذه القناة واستنزافها إلى حد الآن أموالا طائلة من خزينة الدولة، إلا أن واقع تتبعها يثبت أنها لم تحقق إلى الآن النتائج المرجوّة منها.. فلا هي نافست أيّ قناة عالمية كما ادعى مديرها، ولا اشتدت حولها المتابعات، ولا خلقت لنفسها هوية ومسارا وشخصية، ويرجع ذلك إلى غياب إستراتيجية مبتكرة وخيال خصب معدوم لدى القائمين عليها وعلى رأسهم مديرها.
العلبة الملغزة
◙ من يتذكر كلمة تبون المدوية لحظة التنصيب: لا سقف لحرية الصحافة
بعد أكثر من ثلاث سنوات بقي فيها كمال سيدي السعيد على رأس مديرية الاتصال كما تسمّى اليوم، ما هي الحصيلة التي يمكن أن يخرج بها أيّ متابع حصيف؟ ما هي نوعية القراءة الجريئة التي يمكن أن تفكك مسار هذا الفريق دون أن تنحاز إلى مربع الخوف والترهيب مثلما هو سائد في وسائل الإعلام المختلفة التي اصطفت خلف “الإمبراطورية” التي بناها سيدي السعيد وهي وإن كانت لا ترى ولكن نفوذها محسوس هنا وهناك؟
ماذا حدث للمشهد الإعلامي الكبير، والذي كان يحتدم بالحريات والمواقف والأقلام حتى غدا اليوم بائسا شاحبا وفقيرا؟
ثم ماذا حدث لكمال سيدي السعيد نفسه، المثقف حتى في طريقة لباسه ومأكله ومطعمه، حيث يندر في مناسبات رسمية ألا تجده واضعا منديل الطعام على رقبته كالنبلاء حين يأكل، وهي عادة عائلية متأصلة وموروثة أبا عن جد كما أخبر بعض أصدقائه؟
أين وضع أقلامه التي كانت تنفح في زمن مّا بالرؤية والإبداع وحتى التحرر؟
كيف تحول فجأة إلى مسؤول ملغز يأمر ويطاع، مرعب ومسيطر، وتأتيه الوفود صاغرة؟ لماذا تنهمر الأحاديث عن مناورات في عهده وتتكاثر؟
◙ المكلف بالإعلام الرئاسي لم يكن ليخرج من قوقعة الصمت، لولا أن شيئا أقضّ سكونه وحرّكه لفعل ذلك
هل برأيه هذا هو الحل و”الحرب الشريفة” للرفع من قيمة الإعلام ومواجهة الخصوم والقلاقل والمستقبل الزاحف المتغلغل بسرعة بكل أشكال، بمحاسنه ومساوئه؟
هل هذه مغريات السلطة التي تعمي الأبصار، وتمدد القوة والجبروت عندما تتجلى لأيّ أحد، فتتحول جيناته ويتبدل لونه؟
صحيح أن المهمة التي أوكلت له ليست بالسهلة، فخلق “كاريزما” لأيّ رئيس تحتاج إلى اجتهاد مضن وصناعة تصقل المستحيل وتدجج الفراغ، وعندما يكون عندك رئيس قضى عهدته الأولى شبه حائر، يلملم شظايا أثخنته بالجراح في الكثير من الأحيان، وأوقعته في معالجات خاطئة للكثير من المسائل والقضايا الداخلية والخارجية كما هو حال الرئيس تبون، ليس هذا فقط بل ومقبلا على عهدة ثانية صعبة، فأنت على موعد مع مغامرة مفتوحة على كل شيء.. توقع المفاجآت التي يمكن أن تسقط من السماء، أو تأتي من حيث لا تعلم.
مازلنا على أعتاب العهدة الثانية التي لم تبشر بملامحه بعد، اللهم إلا بعض الإحماءات هنا وهناك، وزادته التكهنات والتخمينات التي تترى تباعا خاصة بعد إعلان الرئاسة الجزائرية عن إجراء انتخابات مسبقة يوم السابع من سبتمبر القادم في ظرف عالمي معقد غير مريح لأيّ كان خاصة للجزائر التي ليس عليها فقط فهم التحولات بشكل صحيح بل بشكل غير متهور ومندفع مثلما وقع خلال العهدة الرئاسية الأولى، والأهم أن يكون الفهم واقعيا وأن توضع الأرجل على أرض باردة مما قد يسمح ببروز رجل قادر على القفز بالجزائر إلى المستقبل.
ولا شك أنه على أعضاء الفريق الإعلامي للرئيس وعلى رأسهم كمال سيدي السعيد أن يغيروا “شوية” من غطرستهم، وأن يتذكروا الكلمة المدوية التي قالها الرئيس تبون لحظة تنصيبه رئيسا للبلاد: “أنّ لا سقف لحرية الصحافة”، فهل يتذكرها كمال سيدي السعيد إن ترشح تبون، أم أن مساحة اللعبة قد توسعت لصالح حرية أخرى لا طعم لها ولا نكهة.
◙ أين وضع سيدي السعيد أقلامه التي كانت تنفح في زمن ما بالرؤية والإبداع
انشرWhatsAppTwitterFacebook
أبو بكر زمال
كاتب جزائري
نجاح أم إخفاق في مهمة المكلف بالإعلام الرئاسي؟
مكلف بتلميع صورة الرئيس وأفعاله وأقواله
لا تنفك الألسن المبلبلة لمدراء القنوات عمومية وخاصة المواقع والجرائد وقوم تبع من الإعلاميين تشير إليه في “مجالس النميمة” و”سوق الكلام”، من هنا وهناك..
رجل ظل بعيدا عن الأنظار والسماع والنطق حتى بدأت تتوالى صوره وتصريحاته المفاجئة منذ القمة السابعة لرؤساء دول وحكومات منتدى الدول المصدرة للغاز التي عقدت في الجزائر مارس 2024، وهو الذي دأب منذ دخوله قصر الرئاسة على التواري عن الأنظار.
إنه كمال سيدي السعيد أحد رجال الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون من يلتفون حوله في حلقة ضيقة، فهو مكلف بتلميع صورة الرئيس وأفعاله وأقواله، وكل ما يحدث حواليه.
في رأي الكثيرين لم يكن المكلف بالإعلام الرئاسي ليخرج من قوقعة الصمت، لولا أن شيئا أقضّ سكونه وحرّكه لفعل ذلك.. وقف أمام كاميرات التلفزيونات، تحدث وتكلم في موقعة نادرة حيث لم يعرف له تصريح علني بالصوت منذ وطئت أقدامه القصر.
◙ أمام كاميرات التلفزيونات، وقف وتحدث وتكلم في موقعة نادرة حيث لم يعرف له تصريح علني بالصوت منذ وطئت قدماه القصر
نزل إلى مبنى الإذاعة في زيارة خاصة، ويا للمفارقة تكلم بالفرنسية، وهي في رأي الكثيرين زلة وخطأ، حيث كان من المفترض، على اعتبار أنه مسؤول رسمي، أن يقول كلمته باللغة العربية في مكان سيادي وفي يوم مشهود.
نزل بعد نهاية قمة الغاز، ومشاركة اللفتة السنوية التي تقام تخليدا للصحافيين الجزائريين الذين كانوا في مهمة عمل رسمية وقضوا في فيتنام، إثر سقوط طائرة عسكرية فيتنامية سنة 1974.
يُرى دوما في بعض خرجات الرئيس تبون، يحمل “تابلات” صغيرة يسجّل عليها الملاحظات والتفاصيل، يلتقط ما يتفوّه به الرئيس أو من يقفون أمامهم، ليلقي بها بعد ذلك في تقرير ملخص ودقيق، يوضع أولا على مكتب الرئيس، ليُصاغ بعدها في بيانات تنشر في الصحف أو في الوسائط الرسمية.
محاط في مكتبه بثلة من المكلّفين بمهمات، هم معروفون في الوسط الإعلامي، صعد نجمهم أثناء حملة الرئيس سنة 2019، يشاع أنهم كانوا الأقرب إلى تبون حين عصفت به النوائب والمحن والغضب، لم يقطعوا حبل الود معه رغم الخوف المهيمن على جو الجزائر في تلك الفترة، خاصة أن المغضوب عليه تبون، وقف في وجه طغيان وتغوّل ما عرف لاحقا بالدولة العميقة و”العصابة”.
كانوا يسألون عنه في هذا الجو العاصف، فهو يعرفهم جيدا بحكم تولّيه العديد من المناصب في الدولة، خاصة حين كان وزيرا للسكن، حيث كانوا يرافقونه في الخرجات والتدشينات، يمازح بعضهم، ويستقبل بعضهم دوما في مكتبه بأعالي ديدوش مراد أين يقع مبنى الوزارة، بل يقال إنهم كانوا يزورونه في بيته حين غادر منكسرا عتبات الحكم..
طبعا تبقى هذه مجرد أحاديث تتردد في الصالونات، وتتقاذفها الأفواه كالكرة.. تكبر وتكبر حتى لا يستطيع أحد الإمساك بها لثقلها ووزنها، وهي تروى حين تأكل الخربشات الأيادي في البحث الضنين عن خلفيات وجود هؤلاء القوم دون غيرهم في القصر معزّزين مكرّمين.
◙ كيف تحول فجأة إلى مسؤول ملغز يأمر ويطاع، مرعب ومسيطر، وتأتيه الوفود صاغرة؟
في نفس تلك الفترة لم يكن كمال سيدي السعيد بين هؤلاء، كان يصول ويجول كاتبا في عدد من الجرائد الجزائرية الناطقة بالفرنسية، ثم أصبح أحد أذرع رجل الأعمال الأشهر في الجزائر يسعد ربراب، مكلفا بالاتصال في مجمّعه الاقتصادي.. طبعا هذا الموقع الهام لن يمنح على طبق لأيّ كان، لا بد من مواصفات خاصة في الشخص الذي يتولاّه، لعل أهمها، كما لا يخفى على أيّ متابع لطبيعة العلاقات التي تأسست عليه الدولة الجزائرية وملحقاتها، يعرف أن الولاء للجهة هي ديدن وبصمة لصيقة بالنظام ورجالاته، وهو ما يظهر جليا حيث ينتميان لنفس المنطقة.
لعل الصدف هي التي لعبت الأدوار في حياة كمال سيدي السعيد حتى فتحت له الطرقات، فقد كان والده واليا في الثمانينات، ومن المتوقع أن يكون الرئيس تبون التقاه عندما شغل هو أيضا منصب أمين عام ووال في عدد من الولايات، ومن ثمّ يمكن فهم كيف التقط تبون سيدي السعيد الابن ووضعه معه في القصر، مقاربة قد تفتح لنا مغاليق وأسرار تشكل الروابط الغامضة التي تستمر بين عائلات رجال النظام الجزائري منذ تأسيسه.
أتاح هذا الفضاء السلطوي المغري الذي رشح حول المحظوظ كمال سيدي السعيد منذ والده أن يغرف منه ويتقلب في نعيمه، لتسوقه الأيادي الخفية ليكون عنصرا يتحرك وراء الستار في حملة تبون والتي انتهت بفوزه في انتخابات مقلقة وعاصفة.
المسؤول الشبح
نظرة سريعة على بعض الفيديوهات القديمة لحملة تبون وتفحصها سنكتشف أن لا وجود لكمال سيدي السعيد في الصورة كما لو أنه شبح.. عكس آخرين معروفين بالاسم واللقب مكشوفين في الصورة.. مدير الحملة الوزير الحالي للاتصال محمد لعقاب، عبداللطيف بلقايم، عبدالوهاب بوكروح وفوزية بوسباك، هؤلاء هم من يلتفون حول تبون اليوم في “دائرة النار”.
الصاعدون الجدد أثاروا الكثير من اللغط والغبار كأن الدخول إلى قصر المرادية يجب أن يظل حكرا للأبد على طائفة “سرية” بمقياس “مقدسة” لتقلد المناصب والمواقع، لا يراد لها أن تتزعزع وهذا منذ الاستقلال، إن من ناحية الانتماء أو الجهة أو سطوة المال، أو حتى من ناحية الشكل، العائلة والصحبة، وهو ما صعّد الهجمات عليهم خاصة في الوسائط الاجتماعية وفي الصالونات وحديث “نسوة يوسف” في الخلفيات المظلمة لمدينة الجزائر، التي بثت الشائعات والأراجيف والتقولات، بعضها صحيح كما يقول المطمئنّون، وبعضها مغموس في نهر التلفيق والتشهير كما يقول المرجفون.
مع ذلك صمد هؤلاء، وعلى رأسهم كمال سيدي السعيد، صمود احتاج فعلا إلى نفس كبير وطاقة عجيبة في المرور أمام عواصف حادة مزمجرة كانت تخبط بقوتها على باب القصر، رغم الكثير من الأخطاء والزلات الواضحة.
كانوا يستمدون طاقاتهم من الثقة التي منحها لهم تبون حتى أنها بلغت ذروة التعصب لهم، فلقد تقربوا منه وتقاسموا معه محنه وشدائده، ولم يكن يرد إطلاقا بباله التفريط فيهم بالرغم من تتالي التقارير الموضوعة على مكتبه بخصوصهم أو الشكاوي التي تنقل من الأفواه مباشرة.
تعكس السرديات التي رافقت دوما الاتصال الرسمي للرئيس تبون، منذ اعتلائه سدة الحكم، محاولات حثيثة من طرف كمال سيدي السعيد وفريقه ليكونوا دوما على جاهزية لإعطاء الصورة الحقيقية لما يريده الرئيس، فقد نفذوا وعده بلقاءات دورية مع الصحافة الجزائرية.
◙ صمت كمال سيدي السعيد على الأراجيف احتاج فعلا إلى نفس كبير وطاقة عجيبة في المرور أمام عواصف حادة مزمجرة
اختاروا الأقرب إليهم في الطباع والمضمون، الطائعين بالخصوص، ابتعدوا عن عناصر قد تفاجئهم وتربك خط السير العام أو بصريح العبارة المشوشين.. لم يُر في اللقاءات المقتدرون على خوض غمار الأسئلة الصعبة التي تواجه الدولة والمجتمع مع كثرة المشاكل والصعوبات.
صحيح أن مثل هذه اللقاءات تخضع لفحص وتدقيق وإعداد قبلي، ومع ذلك جاءت اللقاءات كما انتبه إليها العديد من خبراء الإعلام وحتى من السياسيين خالية من الروح والإبداع والسلاسة بل حتى الديكور الذي جرت فيه اللقاءات الأولى فقد جاء باهتا ومنفّرا للعين.
إن شئنا أن نولّي وجهنا نحو حصيلة العمل الإعلامي طوال العهدة الأولى للرئيس ونسأل فريقه الإعلامي (طبعا نسأله افتراضيا، لأن مواجهة هذا الفريق وجها لوجه تكاد تكون مستحيلة إن لم تكن خطيرة وقد تؤدي بالسائل إلى مطبات لا تحمد عقباها) بمنطق محايد ومختلف عن الجوقة التي تعزف نفس النوتة منذ 4 سنوات تقريبا، من باب الحريص على فهم الكثير من الإخفاقات التي ظهرت للعيان سواء في تسويق صورة محسنة عن نشطات الرئيس ومنجزاته، كبعض البيانات التي صدرت من وكالة الأنباء الجزائرية والتي لا يمكن أن تبث دون الضوء الأخضر من كمال سيدي السعيد، وهي بيانات تكتب بالفرنسية قبل أن تترجم إلى اللغة العربية، وامتازت بركاكة الترجمة وهزالها.. وكانت محيّرة في أسلوبها ولغتها وتراكيبها دون الحديث عن مضمونها لأنها تبقى مواقف سيادية للدولة وهي تقول إنها تعرف ما تفعله وما تقوم به ولو كان ذلك مخالفا للوقائع والأعراف والتقاليد والتحولات والرهانات والمواقف.
ولا يمكن أن نغفل الإشارة إلى القناة الدولية “ALG 24“، التي لم تستو إلى الآن على “ستايل” معين، رغم الإرادة السياسية القوية التي وقفت وراءها، غير أن التصريح “الحالم” بأنها ستنافس قنوات عالمية كما قال مديرها العام سليم أغار المقرب من كمال سيدي السعيد، وهو الذي وضعه على رأسها، سقط في خانة البروباغندا المجانية والاستسهال والاندفاعات بحمية زائدة.
ورغم الإمكانيات الهائلة التي رصدتها الدولة من أجل هذه القناة واستنزافها إلى حد الآن أموالا طائلة من خزينة الدولة، إلا أن واقع تتبعها يثبت أنها لم تحقق إلى الآن النتائج المرجوّة منها.. فلا هي نافست أيّ قناة عالمية كما ادعى مديرها، ولا اشتدت حولها المتابعات، ولا خلقت لنفسها هوية ومسارا وشخصية، ويرجع ذلك إلى غياب إستراتيجية مبتكرة وخيال خصب معدوم لدى القائمين عليها وعلى رأسهم مديرها.
العلبة الملغزة
◙ من يتذكر كلمة تبون المدوية لحظة التنصيب: لا سقف لحرية الصحافة
بعد أكثر من ثلاث سنوات بقي فيها كمال سيدي السعيد على رأس مديرية الاتصال كما تسمّى اليوم، ما هي الحصيلة التي يمكن أن يخرج بها أيّ متابع حصيف؟ ما هي نوعية القراءة الجريئة التي يمكن أن تفكك مسار هذا الفريق دون أن تنحاز إلى مربع الخوف والترهيب مثلما هو سائد في وسائل الإعلام المختلفة التي اصطفت خلف “الإمبراطورية” التي بناها سيدي السعيد وهي وإن كانت لا ترى ولكن نفوذها محسوس هنا وهناك؟
ماذا حدث للمشهد الإعلامي الكبير، والذي كان يحتدم بالحريات والمواقف والأقلام حتى غدا اليوم بائسا شاحبا وفقيرا؟
ثم ماذا حدث لكمال سيدي السعيد نفسه، المثقف حتى في طريقة لباسه ومأكله ومطعمه، حيث يندر في مناسبات رسمية ألا تجده واضعا منديل الطعام على رقبته كالنبلاء حين يأكل، وهي عادة عائلية متأصلة وموروثة أبا عن جد كما أخبر بعض أصدقائه؟
أين وضع أقلامه التي كانت تنفح في زمن مّا بالرؤية والإبداع وحتى التحرر؟
كيف تحول فجأة إلى مسؤول ملغز يأمر ويطاع، مرعب ومسيطر، وتأتيه الوفود صاغرة؟ لماذا تنهمر الأحاديث عن مناورات في عهده وتتكاثر؟
◙ المكلف بالإعلام الرئاسي لم يكن ليخرج من قوقعة الصمت، لولا أن شيئا أقضّ سكونه وحرّكه لفعل ذلك
هل برأيه هذا هو الحل و”الحرب الشريفة” للرفع من قيمة الإعلام ومواجهة الخصوم والقلاقل والمستقبل الزاحف المتغلغل بسرعة بكل أشكال، بمحاسنه ومساوئه؟
هل هذه مغريات السلطة التي تعمي الأبصار، وتمدد القوة والجبروت عندما تتجلى لأيّ أحد، فتتحول جيناته ويتبدل لونه؟
صحيح أن المهمة التي أوكلت له ليست بالسهلة، فخلق “كاريزما” لأيّ رئيس تحتاج إلى اجتهاد مضن وصناعة تصقل المستحيل وتدجج الفراغ، وعندما يكون عندك رئيس قضى عهدته الأولى شبه حائر، يلملم شظايا أثخنته بالجراح في الكثير من الأحيان، وأوقعته في معالجات خاطئة للكثير من المسائل والقضايا الداخلية والخارجية كما هو حال الرئيس تبون، ليس هذا فقط بل ومقبلا على عهدة ثانية صعبة، فأنت على موعد مع مغامرة مفتوحة على كل شيء.. توقع المفاجآت التي يمكن أن تسقط من السماء، أو تأتي من حيث لا تعلم.
مازلنا على أعتاب العهدة الثانية التي لم تبشر بملامحه بعد، اللهم إلا بعض الإحماءات هنا وهناك، وزادته التكهنات والتخمينات التي تترى تباعا خاصة بعد إعلان الرئاسة الجزائرية عن إجراء انتخابات مسبقة يوم السابع من سبتمبر القادم في ظرف عالمي معقد غير مريح لأيّ كان خاصة للجزائر التي ليس عليها فقط فهم التحولات بشكل صحيح بل بشكل غير متهور ومندفع مثلما وقع خلال العهدة الرئاسية الأولى، والأهم أن يكون الفهم واقعيا وأن توضع الأرجل على أرض باردة مما قد يسمح ببروز رجل قادر على القفز بالجزائر إلى المستقبل.
ولا شك أنه على أعضاء الفريق الإعلامي للرئيس وعلى رأسهم كمال سيدي السعيد أن يغيروا “شوية” من غطرستهم، وأن يتذكروا الكلمة المدوية التي قالها الرئيس تبون لحظة تنصيبه رئيسا للبلاد: “أنّ لا سقف لحرية الصحافة”، فهل يتذكرها كمال سيدي السعيد إن ترشح تبون، أم أن مساحة اللعبة قد توسعت لصالح حرية أخرى لا طعم لها ولا نكهة.
◙ أين وضع سيدي السعيد أقلامه التي كانت تنفح في زمن ما بالرؤية والإبداع
انشرWhatsAppTwitterFacebook
أبو بكر زمال
كاتب جزائري