حنا مينه روح البحر التي قهرت الألم وحلمت بالسعادة
للبحر في أدب حنا مينه حكاية عميقة تبدأ من كونهما شقيقين في الروح والمزاج ولا تنتهي الحدود بينهما.
السبت 2024/03/09
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الروائي المكافح في مئويته
“أنا نصف عاقل ونصف مجنون، وأحب نصفي المجنون أكثر”. هكذا يعرف حنا مينه عن نفسه. جنون صنع خطو اليافع، الذي تحل في التاسع من مارس الجاري ذكرى مئويته الأولى. كان الوحيد الذي يعرف القراءة في حي المستنقع في إسكندرونة السورية في عشرينات القرن الماضي. الجهل والفقر كانا يغلفان الحي الذي هجره سكانه إلى سوريا لاحقا.
في لهيب السياسة وحب المغامرة ووجع الفقر، اجترح حنا بعضا من مكاسب الحياة فربحها وخسر مقابلها أحلاما أكثر. مريانا ميخائيل زكور، والدته التي ضرستها الحياة بأنياب الألم أنجبته بعد ثلاث إناث، فكان بالنسبة إليها طوقا للنجاة من فكر متخلف بأنها لا تلد الذكور، فكان حنا رغم اعتلاله الصحي وضعف بنيته قوة حياتها وسبب صراعها مع الحياة.
كاتب الكفاح
منى واصف: حنا مينه كتب أعماق المرأة كأنه يكتب أعماق البحر
عندما نال حنا مينة شهادة السرتافيكا الابتدائية، وضعتها أمه في إطار وجعلتها أيقونة تزين جدار بيتها، وهي اللوحة التي رافقته في بيته حتى آخر يوم في حياته الطويلة. كتب في وفاتها “يوم وفاة أمّي أحسست بحرقة أيبست عيني، لم أبك، شاهدتها مسجاة ولم أبك، قبلتها في جبينها البارد برودة الموت ولم أبك، سرت في جنازتها جلدا، صبورا، متفهما حقيقة الموت التي هي وجه آخر لحقيقة الحياة، مذعنا لها، مسلما أمري لقضاء مبرم، هو قضاؤنا جميعا”.
عاش حنا مينه حياة الفقر والعوز وعمل حمالا في الميناء وأجير حلاق وكاتب عرائض وبحارا وصحافيا. يكتب عن طفولته «طوال أربع سنوات كنت أقوم مع بعض أطفال المدرسة بالخدمة في الكنيسة، نطفئ الشموع، نحمل الأيقونات، وننام أحيانا واقفين. صليت بما فيه الكفاية، أنا مطمئن من هذه الناحية. وفي باحة المدرسة والكنيسة كان ثمة قبور يونانية قديمة، وعلى أحدها كان مجلسي في ساعات الضيق والغربة والجوع في أحيان غير قليلة، على هذا القبر تعلمت أن أحلم بالمدينة الفاضلة قبل أن أعرف اسمها، وبالحب قبل أن أبلغ السن التي يحق فيها لمثلي أن يحب». ويتابع «كنت أعاني البطالة والغربة والفقر والجوع وأحسد الكلب لأن له مأوى».
تأثر بالمرأة والبحر، كتب يوما في المرأة “لم أجد حتى الآن المرأة التي تجعلني أدور حول بيتها وألاحقها وأركع أمامها أو أبكي، لم أعرف الحب إلا في الروايات والقصص”.
وللبحر في أدب حنا مينه حكاية عميقة، تبدأ في كونهما شقيقين في الروح والمزاج وتكاد لا تنتهي الحدود بينهما. يكتب عنه “كان البحر دائما مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، طبعا لم أقصد البحر بشيء في بداياتي، إلا أن لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نقشت وشما على جلدي، إذا نادوا: يا بحر! أجبت: أنا البحر أنا، فيه ولدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحارا؟ أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق، أليس هذا حلما جميلا؟ السبب أنني مربوط بسلك خفي إلى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي دمشق الصيفية الفاتنة، وحارس مؤتمن على جبل قاسيون، ومغرم متيم ببردى، لذلك أحب فيروز والشاميات”.
مانيا سويد: إبداع حنا مينة كان من أجل إسعاد الآخر أيّا كان
نقش الفقر ندوبه على حياة حنا مينه، فصار الكفاح ضده ديدن حياته، كرّس أدبه وحياته السياسية للدفاع عن المسحوقين والفقراء، كان ينشد فرح الإنسان وتحقيق حلم المدينة الفاضلة، يقول “أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجها، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضا. إن وعي الوجود عندي،
ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي، وكانت التجربة الأولى في حي المستنقع الذي نشأت فيه في إسكندرونة، مثل التجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا، ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذورة كلها لمنح الرؤية للناس، لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم ومعهم نحو المعرفة، والتي هي الخطوة الأولى في المسيرة الكبرى نحو الغد الأفضل”.
يتابع مينه في كتابته عن أدبه “أكتب لكل الناس، للفقير قبل الأمير. يقرأ الناس أدبي في الغرب كما يقرؤونه في العالم العربي، وتدرس رواياتي في خمس جامعات أميركية. أنا الحجر الذي رفضه البناؤون، وأصبح فيما بعد حجر الزاوية”.
ماجت حياة حنا مينه في تناقضات السياسة، وعاش معتركها بعنف وهو يافع، فسار في تياراتها الفكرية، لكنه واجه حتى مع الرفاق تحديات الاختلاف، فانفصل عن تياره السياسي، وعاش حياة السجون والمنافي في هنغاريا والصين.
يكتب حنا مينه عن حياته السياسية “تقضى العمر، في حلقاته المتتابعة، بشيء جوهري لديّ هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس. أنفقت طفولتي في الشقاء، وشبابي في السياسة، ولئن كان الشقاء قد فرض عليّ من قبل المجتمع، فعشت حافيا، عاريا، جائعا، محروما من كل مباهج البراءة الأولى”.
ويضيف “إن السياسة نقشت صورتها على أظافري بمنقاش الألم، فتعلمت مبكرا، كيف أصعّد الألم الخاص إلى الألم العام، وكيف أنكر ذاتي، وأنتصر على رذيلة الأنانية، وكل إغراءات الراحة البليدة، التي توسوس بها النفس، فكان الإنسان في داخلي، إنسانا تواقا إلى ما يريد أن يكون، لا إلى ما يراد له أن يكون”.
الكتابة للآخرين
رحل لكنه مازال بيننا بروحه بقلمه بفكره وأدبه بفلسفته وحكمته
يؤثر المبدع في بيئته التي يكون فيها، فيضع للآخرين تصورات عن مسارات يمكن أن يكونوا عليها أناسا بنائين وفاعلين في الحياة. من هؤلاء شخصيات رسمت حضورا قويا في المشهد الثقافي والفني السوري والعربي. الفنانة منى واصف جسدت عبر العديد من الأعمال الفنية بعضا من شخصيات رواياته، تقول في مئويته الأولى “أجمل شيء في حياة الإنسان أو القارئ أن يعرف كاتبا عن قرب، يقرأ له ويشعر به ويحبه ويذهب معه بالأحرف والكلمات. الكاتب الرائع والكبير والصديق حنا مينه، كان لي الشرف أن ألعب شخصيات من رواياته، التي تحولت إلى أفلام سينما وإلى مسلسلات. هذا شيء بالنسبة إليّ كان فوق الخيال، ولكن حصل”.
وتتابع واصف عن طريقته في الكتابة عن المرأة “كنت دائما أقول إن حنا مينه هو الذي كتب عن أعماق المرأة، مثل ما كتب عمّا يعرفه عن أعماق البحر. كان يدخل في عمق المرأة بشكل غير طبيعي كما الداخل في أعماق البحر مكتشفا مزيدا من الكنوز، التي لا يعرفها كل الناس إلا الذين يغوصون في البحر، هؤلاء الذين يذهبون إلى عمق العمق. كنت أتساءل دائما عن كيفية معرفته بعمق المرأة بهذا الشكل”.
وتضيف “أجمل ما في نساء حنا مينه هي الأم والحبيبة المتعلقتين بالأرض والبحر، إحداهما تنتظر حبيبها أو ابنها على شط البحر، وهو الذي قد يرجع وقد لا يرجع. يشعر المرء أن نساء مينه حتى الخاطئات منهن فيهن جوهر نظيف، كم يكون الإنسان سعيدا وهو يعرف عظماء وهم أحياء وأنت منهم. حنا مينه، أتشرف أنني عرفتك، عندما أنظر إلى مكتبتي وأشاهد كتبك التي تزينها أقول إنني عرفت كاتبا كبيرا عن قرب”.
وفي زاوية أخرى تكتب مانيا سويد صاحبة دار سويد للنشر عن حنا مينه في ذكرى مئويته، وهو الذي كان لها الملهم والمحفز على أفكار وخطى في مهنة الكتابة والنشر، “قال أمير الشعراء أحمد شوقي ‘الناس صنفان: موتى في حياتهم/ وآخرون ببطن الأرض أحياء‘. نعم نتحدث اليوم عن واحد من الأحياء وإن رحل عنا.
رحل لكنه مازال بيننا بروحه بقلمه بفكره وأدبه بفلسفته وحكمته، إنه صاحب ‘المصابيح الزرق’ و’الأبنوسة البيضاء’ و’حارة الشحادين’، ابن اللاذقية الأديب الذي تشربت كلماته بماء البحر، وتقلبت صفحات كتبه مع أمواجه. المكافح الذي بدأ من نقطة الصفر، مكافحا مغامرا شجاعا، وانطلق محلقا في سماء الأدب، يرفرف بجناحين أحدهما يحمل رواياته والآخر يحمل قصصه وأقصوصاته”.
ابن اللاذقية الأديب الذي تشربت كلماته بماء البحر
وتتابع إنه “المبدع الذي عشق الأدب فعشقه الأدب، أحب الكلمة فأحبته وانسابت من محبرته طائعة ملبّية، الروائي الذي عرف كيف يقرأ الواقع قراءة صحيحة فعبّر عنه تعبيرا صادقا. ولأنه دخل قلوب الناس مرتاحا نادت
السينما أعماله، وأتاه التلفزيون، وتهافتت عليه الأوساط الأدبية تنهل من إبداعاته، صار من يستمتع بقراءة كلماته يتلذذ أيضا بمشاهدة أفلامه ومسلسلاته”.
وتضيف سويد عن طبيعة ما كتب “الحديث عن حنا مينة هو حديث عن الكفاح والفرح الإنسانيين. هو حديث عن العطاء من أجل إسعاد البشر ولو لم يكن يعرفهم. إنه حنا مينة الذي أشهر سيف الأدب من أجل محاربة الجهل ولنصرة المعرفة، حمامة السلام التي سعت نحو الأفضل للإنسان. تلك كانت فلسفة حنا مينة التي ظل محافظا عليها في مسيرته الأدبية الطويلة. حين قرر أن يكون إبداعه من أجل إسعاد الآخر لم يسأل من هو ذاك الآخر، يعرفه أو لا يعرفه، الأمران بالنسبة إليه سيّان.. المهم أن يسعد البشر أيّا كانوا وأينما وجدوا.. وله في ذلك رأي.. الكفاح عنده هو مفتاح سعادة المبدع، مادام موجها بالإيمان بالمبدأ”.
وعن أشهر رواياته “الشراع والعاصفة” و”المصابيح الزرق” تكتب “في الشراع والعاصفة، تلك الرواية التي صنفت من أفضل مئة رواية عربية، يروي مينة قصة المدينة الساحلية المتألمة من ويلات الحرب. ويعرض ما حوته من متناقضات ومغامرات وتحديات بأسلوب شيق رائع. إنها قصة مواجهة الاحتلال على الأرض وتحدي العواصف في البحر. وفي الحالين تنتصر الإرادة الحرة. ومنذ نحو السبعين عاما أتحفنا حنا مينة في العام 1954 بروايته الخالدة ‘المصابيح الزرق‘. تلك الرواية التي استطاع من عنوانها أن يعبر تعبيرا وصفيا دقيقا عن مجتمع يعيش حالة حرب”.
وتتابع “في مجموعته القصصية ‘الأبنوسة البيضاء‘ التي حوت عشر قصص لم يقدم حنا مينة قصصا مشوقة فحسب، بل قدم عشرة دروس إنسانية تعلمْنا منها الكثير. علّمنا كيف نكسر الملل ونتنسم معاني الحرية في القصة التي عنون المجموعة بعنوانها ‘الأبنوسة البيضاء‘ علّمنا في ‘بطاقة توصية‘ أن
الحياة ليست متعة، لكنها رحلة كفاح وسعي من أجل العيش الكريم. علّمنا أن الإنسان الحر يظل حيا ويخلد بعمله. لم يكن حنا مينة معتكفا من أجل الإبداع، بل امتد نشاطه خارج المكتبات والكتب”.
وتتابع مداخلتها بالحديث عمّا قدمه في المشهد الثقافي السوري قائلة “يعد في مقدمة من ساهموا في النهضة الأدبية والثقافية العربية. ساهم في تأسيس اتحاد الكتاب العرب. ساهم في تأسيس رابطة الكتاب السوريين. استطاع أن يشق قنوات للتواصل مع الأدباء والمبدعين في شتى أنحاء الوطن العربي. وقبل كل ذلك كان مناضلا تحرريا وتعرض بسبب ذلك للمطاردة والسجن. السلام لروح أديب النضال في مئويته”.
السينما والتلفزيون
الكاتب كرس أدبه وحياته السياسية للدفاع عن المسحوقين والفقراء، كان ينشد فرح الإنسان وتحقيق حلم المدينة الفاضلة
كتب حنا مينه قصة طويلة عنونها بـ”على الأكياس”، حملت تجربته الشخصية عندما عمل حمالا في الميناء، وعرف حياة الحمالين وصعوبتها، ولكونه كان يجيد القراءة والكتابة، عين ليكون كاتبا لسجلات العمل على الأكياس. استهوت القصة سينمائيا عراقيا، يقيم في دمشق، هو قيس الزبيدي، الذي قدم الفيلم من خلال إنتاجات المؤسسة العامة للسينما بفيلم روائي طويل حمل اسم “اليازرلي”. وأنتج عام 1974 وجسد الشخصية البطلة فيه عدنان بركات.
بدت معالجة قيس الزبيدي للفيلم تجريبية، شكل فيها منعطفا في تاريخ السينما السورية والعربية، وألهمت أجواء القصة الزبيدي عوالم جديدة لشخوص القصة. ونفذ الفيلم بالطريقة التجريبية التي أرادها مخرجه في فيلمه الروائي الطويل الوحيد. وشكل الفيلم برأي النقاد حينها بيانا أولا للسينما البديلة في سوريا. لكنه رغم ذلك عوقب بالمنع من العرض لمدة قاربت الأربعين عاما.
يكتب قيس الزبيدي عن فيلمه “اليازرلي” في كتابه “المرئي والمسموع في السينما” موضحا طريقته في المعالجة التي تموضعت في «الذاكرة، والوضع الاجتماعي، والقوة البدنية، والجنس”. ثم قدمت السينما السورية بعدها أربعة أفلام عن رواياته هي: “بقايا صور” عن رواية تحمل نفس الاسم، ونقلت للتلفزيون والإذاعة، وفيلم “الشمس في يوم غائم” عن رواية تحمل ذات الاسم، و”آه يا بحر” عن رواية “الدقل”، وأخيرا فيلم “الشراع والعاصفة” عن رواية بنفس العنوان.
كما نفذ فيلم وثائقي عنه حمل اسم “الريس”. وبعد ما يقارب العشرين عاما، تقدم دراما التلفزيون في سوريا روايته الشهيرة “نهاية رجل شجاع” في معالجة من الكاتب حسن م يوسف وإخراج نجدة إسماعيل آنزور وبطولة أيمن زيدان، في مسلسل يحمل الاسم ذاته. شكل نقطة انعطاف في تاريخ الدراما التلفزيونية السورية والعربية من الناحية المشهدية البصرية التي تميز بها.
واحتفاء بقيمة أدب حنا مينة في العالم، ترجمت رواياته وكتبه التي بلغت أربعة وأربعين مؤلفا، للعديد من اللغات، ودرست رواياته في العديد من الجامعات العربية “فقد ترجمت رواياته إلى سبع عشرة لغة أجنبية، «المصابيح الزرق» ترجمت إلى الروسية والصينية، و«الشراع والعاصفة» إلى الروسية والإيطالية، و«الثلج يأتي من النافذة» درّست في السوربون بفرنسا لطلاب القسم العربي، و«الشمس في يوم غائم» ترجمتها منظمة اليونسكو إلى الفرنسية، وترجمت إلى الإنجليزية في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة، وترجمت «الياطر» إلى الفرنسية والإسبانية والرومانية. و«بقايا صور» ترجمت إلى الصينية والإنجليزية في واشنطن والفارسية والألمانية. و«المستنقع» ترجمت إلى الفارسية، و«حكاية بحار» إلى الروسية.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
نضال قوشحة
كاتب سوري
للبحر في أدب حنا مينه حكاية عميقة تبدأ من كونهما شقيقين في الروح والمزاج ولا تنتهي الحدود بينهما.
السبت 2024/03/09
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الروائي المكافح في مئويته
“أنا نصف عاقل ونصف مجنون، وأحب نصفي المجنون أكثر”. هكذا يعرف حنا مينه عن نفسه. جنون صنع خطو اليافع، الذي تحل في التاسع من مارس الجاري ذكرى مئويته الأولى. كان الوحيد الذي يعرف القراءة في حي المستنقع في إسكندرونة السورية في عشرينات القرن الماضي. الجهل والفقر كانا يغلفان الحي الذي هجره سكانه إلى سوريا لاحقا.
في لهيب السياسة وحب المغامرة ووجع الفقر، اجترح حنا بعضا من مكاسب الحياة فربحها وخسر مقابلها أحلاما أكثر. مريانا ميخائيل زكور، والدته التي ضرستها الحياة بأنياب الألم أنجبته بعد ثلاث إناث، فكان بالنسبة إليها طوقا للنجاة من فكر متخلف بأنها لا تلد الذكور، فكان حنا رغم اعتلاله الصحي وضعف بنيته قوة حياتها وسبب صراعها مع الحياة.
كاتب الكفاح
منى واصف: حنا مينه كتب أعماق المرأة كأنه يكتب أعماق البحر
عندما نال حنا مينة شهادة السرتافيكا الابتدائية، وضعتها أمه في إطار وجعلتها أيقونة تزين جدار بيتها، وهي اللوحة التي رافقته في بيته حتى آخر يوم في حياته الطويلة. كتب في وفاتها “يوم وفاة أمّي أحسست بحرقة أيبست عيني، لم أبك، شاهدتها مسجاة ولم أبك، قبلتها في جبينها البارد برودة الموت ولم أبك، سرت في جنازتها جلدا، صبورا، متفهما حقيقة الموت التي هي وجه آخر لحقيقة الحياة، مذعنا لها، مسلما أمري لقضاء مبرم، هو قضاؤنا جميعا”.
عاش حنا مينه حياة الفقر والعوز وعمل حمالا في الميناء وأجير حلاق وكاتب عرائض وبحارا وصحافيا. يكتب عن طفولته «طوال أربع سنوات كنت أقوم مع بعض أطفال المدرسة بالخدمة في الكنيسة، نطفئ الشموع، نحمل الأيقونات، وننام أحيانا واقفين. صليت بما فيه الكفاية، أنا مطمئن من هذه الناحية. وفي باحة المدرسة والكنيسة كان ثمة قبور يونانية قديمة، وعلى أحدها كان مجلسي في ساعات الضيق والغربة والجوع في أحيان غير قليلة، على هذا القبر تعلمت أن أحلم بالمدينة الفاضلة قبل أن أعرف اسمها، وبالحب قبل أن أبلغ السن التي يحق فيها لمثلي أن يحب». ويتابع «كنت أعاني البطالة والغربة والفقر والجوع وأحسد الكلب لأن له مأوى».
تأثر بالمرأة والبحر، كتب يوما في المرأة “لم أجد حتى الآن المرأة التي تجعلني أدور حول بيتها وألاحقها وأركع أمامها أو أبكي، لم أعرف الحب إلا في الروايات والقصص”.
وللبحر في أدب حنا مينه حكاية عميقة، تبدأ في كونهما شقيقين في الروح والمزاج وتكاد لا تنتهي الحدود بينهما. يكتب عنه “كان البحر دائما مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، طبعا لم أقصد البحر بشيء في بداياتي، إلا أن لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نقشت وشما على جلدي، إذا نادوا: يا بحر! أجبت: أنا البحر أنا، فيه ولدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحارا؟ أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق، أليس هذا حلما جميلا؟ السبب أنني مربوط بسلك خفي إلى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي دمشق الصيفية الفاتنة، وحارس مؤتمن على جبل قاسيون، ومغرم متيم ببردى، لذلك أحب فيروز والشاميات”.
مانيا سويد: إبداع حنا مينة كان من أجل إسعاد الآخر أيّا كان
نقش الفقر ندوبه على حياة حنا مينه، فصار الكفاح ضده ديدن حياته، كرّس أدبه وحياته السياسية للدفاع عن المسحوقين والفقراء، كان ينشد فرح الإنسان وتحقيق حلم المدينة الفاضلة، يقول “أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجها، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضا. إن وعي الوجود عندي،
ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي، وكانت التجربة الأولى في حي المستنقع الذي نشأت فيه في إسكندرونة، مثل التجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا، ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذورة كلها لمنح الرؤية للناس، لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم ومعهم نحو المعرفة، والتي هي الخطوة الأولى في المسيرة الكبرى نحو الغد الأفضل”.
يتابع مينه في كتابته عن أدبه “أكتب لكل الناس، للفقير قبل الأمير. يقرأ الناس أدبي في الغرب كما يقرؤونه في العالم العربي، وتدرس رواياتي في خمس جامعات أميركية. أنا الحجر الذي رفضه البناؤون، وأصبح فيما بعد حجر الزاوية”.
ماجت حياة حنا مينه في تناقضات السياسة، وعاش معتركها بعنف وهو يافع، فسار في تياراتها الفكرية، لكنه واجه حتى مع الرفاق تحديات الاختلاف، فانفصل عن تياره السياسي، وعاش حياة السجون والمنافي في هنغاريا والصين.
يكتب حنا مينه عن حياته السياسية “تقضى العمر، في حلقاته المتتابعة، بشيء جوهري لديّ هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس. أنفقت طفولتي في الشقاء، وشبابي في السياسة، ولئن كان الشقاء قد فرض عليّ من قبل المجتمع، فعشت حافيا، عاريا، جائعا، محروما من كل مباهج البراءة الأولى”.
ويضيف “إن السياسة نقشت صورتها على أظافري بمنقاش الألم، فتعلمت مبكرا، كيف أصعّد الألم الخاص إلى الألم العام، وكيف أنكر ذاتي، وأنتصر على رذيلة الأنانية، وكل إغراءات الراحة البليدة، التي توسوس بها النفس، فكان الإنسان في داخلي، إنسانا تواقا إلى ما يريد أن يكون، لا إلى ما يراد له أن يكون”.
الكتابة للآخرين
رحل لكنه مازال بيننا بروحه بقلمه بفكره وأدبه بفلسفته وحكمته
يؤثر المبدع في بيئته التي يكون فيها، فيضع للآخرين تصورات عن مسارات يمكن أن يكونوا عليها أناسا بنائين وفاعلين في الحياة. من هؤلاء شخصيات رسمت حضورا قويا في المشهد الثقافي والفني السوري والعربي. الفنانة منى واصف جسدت عبر العديد من الأعمال الفنية بعضا من شخصيات رواياته، تقول في مئويته الأولى “أجمل شيء في حياة الإنسان أو القارئ أن يعرف كاتبا عن قرب، يقرأ له ويشعر به ويحبه ويذهب معه بالأحرف والكلمات. الكاتب الرائع والكبير والصديق حنا مينه، كان لي الشرف أن ألعب شخصيات من رواياته، التي تحولت إلى أفلام سينما وإلى مسلسلات. هذا شيء بالنسبة إليّ كان فوق الخيال، ولكن حصل”.
وتتابع واصف عن طريقته في الكتابة عن المرأة “كنت دائما أقول إن حنا مينه هو الذي كتب عن أعماق المرأة، مثل ما كتب عمّا يعرفه عن أعماق البحر. كان يدخل في عمق المرأة بشكل غير طبيعي كما الداخل في أعماق البحر مكتشفا مزيدا من الكنوز، التي لا يعرفها كل الناس إلا الذين يغوصون في البحر، هؤلاء الذين يذهبون إلى عمق العمق. كنت أتساءل دائما عن كيفية معرفته بعمق المرأة بهذا الشكل”.
وتضيف “أجمل ما في نساء حنا مينه هي الأم والحبيبة المتعلقتين بالأرض والبحر، إحداهما تنتظر حبيبها أو ابنها على شط البحر، وهو الذي قد يرجع وقد لا يرجع. يشعر المرء أن نساء مينه حتى الخاطئات منهن فيهن جوهر نظيف، كم يكون الإنسان سعيدا وهو يعرف عظماء وهم أحياء وأنت منهم. حنا مينه، أتشرف أنني عرفتك، عندما أنظر إلى مكتبتي وأشاهد كتبك التي تزينها أقول إنني عرفت كاتبا كبيرا عن قرب”.
وفي زاوية أخرى تكتب مانيا سويد صاحبة دار سويد للنشر عن حنا مينه في ذكرى مئويته، وهو الذي كان لها الملهم والمحفز على أفكار وخطى في مهنة الكتابة والنشر، “قال أمير الشعراء أحمد شوقي ‘الناس صنفان: موتى في حياتهم/ وآخرون ببطن الأرض أحياء‘. نعم نتحدث اليوم عن واحد من الأحياء وإن رحل عنا.
رحل لكنه مازال بيننا بروحه بقلمه بفكره وأدبه بفلسفته وحكمته، إنه صاحب ‘المصابيح الزرق’ و’الأبنوسة البيضاء’ و’حارة الشحادين’، ابن اللاذقية الأديب الذي تشربت كلماته بماء البحر، وتقلبت صفحات كتبه مع أمواجه. المكافح الذي بدأ من نقطة الصفر، مكافحا مغامرا شجاعا، وانطلق محلقا في سماء الأدب، يرفرف بجناحين أحدهما يحمل رواياته والآخر يحمل قصصه وأقصوصاته”.
ابن اللاذقية الأديب الذي تشربت كلماته بماء البحر
وتتابع إنه “المبدع الذي عشق الأدب فعشقه الأدب، أحب الكلمة فأحبته وانسابت من محبرته طائعة ملبّية، الروائي الذي عرف كيف يقرأ الواقع قراءة صحيحة فعبّر عنه تعبيرا صادقا. ولأنه دخل قلوب الناس مرتاحا نادت
السينما أعماله، وأتاه التلفزيون، وتهافتت عليه الأوساط الأدبية تنهل من إبداعاته، صار من يستمتع بقراءة كلماته يتلذذ أيضا بمشاهدة أفلامه ومسلسلاته”.
وتضيف سويد عن طبيعة ما كتب “الحديث عن حنا مينة هو حديث عن الكفاح والفرح الإنسانيين. هو حديث عن العطاء من أجل إسعاد البشر ولو لم يكن يعرفهم. إنه حنا مينة الذي أشهر سيف الأدب من أجل محاربة الجهل ولنصرة المعرفة، حمامة السلام التي سعت نحو الأفضل للإنسان. تلك كانت فلسفة حنا مينة التي ظل محافظا عليها في مسيرته الأدبية الطويلة. حين قرر أن يكون إبداعه من أجل إسعاد الآخر لم يسأل من هو ذاك الآخر، يعرفه أو لا يعرفه، الأمران بالنسبة إليه سيّان.. المهم أن يسعد البشر أيّا كانوا وأينما وجدوا.. وله في ذلك رأي.. الكفاح عنده هو مفتاح سعادة المبدع، مادام موجها بالإيمان بالمبدأ”.
وعن أشهر رواياته “الشراع والعاصفة” و”المصابيح الزرق” تكتب “في الشراع والعاصفة، تلك الرواية التي صنفت من أفضل مئة رواية عربية، يروي مينة قصة المدينة الساحلية المتألمة من ويلات الحرب. ويعرض ما حوته من متناقضات ومغامرات وتحديات بأسلوب شيق رائع. إنها قصة مواجهة الاحتلال على الأرض وتحدي العواصف في البحر. وفي الحالين تنتصر الإرادة الحرة. ومنذ نحو السبعين عاما أتحفنا حنا مينة في العام 1954 بروايته الخالدة ‘المصابيح الزرق‘. تلك الرواية التي استطاع من عنوانها أن يعبر تعبيرا وصفيا دقيقا عن مجتمع يعيش حالة حرب”.
وتتابع “في مجموعته القصصية ‘الأبنوسة البيضاء‘ التي حوت عشر قصص لم يقدم حنا مينة قصصا مشوقة فحسب، بل قدم عشرة دروس إنسانية تعلمْنا منها الكثير. علّمنا كيف نكسر الملل ونتنسم معاني الحرية في القصة التي عنون المجموعة بعنوانها ‘الأبنوسة البيضاء‘ علّمنا في ‘بطاقة توصية‘ أن
الحياة ليست متعة، لكنها رحلة كفاح وسعي من أجل العيش الكريم. علّمنا أن الإنسان الحر يظل حيا ويخلد بعمله. لم يكن حنا مينة معتكفا من أجل الإبداع، بل امتد نشاطه خارج المكتبات والكتب”.
وتتابع مداخلتها بالحديث عمّا قدمه في المشهد الثقافي السوري قائلة “يعد في مقدمة من ساهموا في النهضة الأدبية والثقافية العربية. ساهم في تأسيس اتحاد الكتاب العرب. ساهم في تأسيس رابطة الكتاب السوريين. استطاع أن يشق قنوات للتواصل مع الأدباء والمبدعين في شتى أنحاء الوطن العربي. وقبل كل ذلك كان مناضلا تحرريا وتعرض بسبب ذلك للمطاردة والسجن. السلام لروح أديب النضال في مئويته”.
السينما والتلفزيون
الكاتب كرس أدبه وحياته السياسية للدفاع عن المسحوقين والفقراء، كان ينشد فرح الإنسان وتحقيق حلم المدينة الفاضلة
كتب حنا مينه قصة طويلة عنونها بـ”على الأكياس”، حملت تجربته الشخصية عندما عمل حمالا في الميناء، وعرف حياة الحمالين وصعوبتها، ولكونه كان يجيد القراءة والكتابة، عين ليكون كاتبا لسجلات العمل على الأكياس. استهوت القصة سينمائيا عراقيا، يقيم في دمشق، هو قيس الزبيدي، الذي قدم الفيلم من خلال إنتاجات المؤسسة العامة للسينما بفيلم روائي طويل حمل اسم “اليازرلي”. وأنتج عام 1974 وجسد الشخصية البطلة فيه عدنان بركات.
بدت معالجة قيس الزبيدي للفيلم تجريبية، شكل فيها منعطفا في تاريخ السينما السورية والعربية، وألهمت أجواء القصة الزبيدي عوالم جديدة لشخوص القصة. ونفذ الفيلم بالطريقة التجريبية التي أرادها مخرجه في فيلمه الروائي الطويل الوحيد. وشكل الفيلم برأي النقاد حينها بيانا أولا للسينما البديلة في سوريا. لكنه رغم ذلك عوقب بالمنع من العرض لمدة قاربت الأربعين عاما.
يكتب قيس الزبيدي عن فيلمه “اليازرلي” في كتابه “المرئي والمسموع في السينما” موضحا طريقته في المعالجة التي تموضعت في «الذاكرة، والوضع الاجتماعي، والقوة البدنية، والجنس”. ثم قدمت السينما السورية بعدها أربعة أفلام عن رواياته هي: “بقايا صور” عن رواية تحمل نفس الاسم، ونقلت للتلفزيون والإذاعة، وفيلم “الشمس في يوم غائم” عن رواية تحمل ذات الاسم، و”آه يا بحر” عن رواية “الدقل”، وأخيرا فيلم “الشراع والعاصفة” عن رواية بنفس العنوان.
كما نفذ فيلم وثائقي عنه حمل اسم “الريس”. وبعد ما يقارب العشرين عاما، تقدم دراما التلفزيون في سوريا روايته الشهيرة “نهاية رجل شجاع” في معالجة من الكاتب حسن م يوسف وإخراج نجدة إسماعيل آنزور وبطولة أيمن زيدان، في مسلسل يحمل الاسم ذاته. شكل نقطة انعطاف في تاريخ الدراما التلفزيونية السورية والعربية من الناحية المشهدية البصرية التي تميز بها.
واحتفاء بقيمة أدب حنا مينة في العالم، ترجمت رواياته وكتبه التي بلغت أربعة وأربعين مؤلفا، للعديد من اللغات، ودرست رواياته في العديد من الجامعات العربية “فقد ترجمت رواياته إلى سبع عشرة لغة أجنبية، «المصابيح الزرق» ترجمت إلى الروسية والصينية، و«الشراع والعاصفة» إلى الروسية والإيطالية، و«الثلج يأتي من النافذة» درّست في السوربون بفرنسا لطلاب القسم العربي، و«الشمس في يوم غائم» ترجمتها منظمة اليونسكو إلى الفرنسية، وترجمت إلى الإنجليزية في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة، وترجمت «الياطر» إلى الفرنسية والإسبانية والرومانية. و«بقايا صور» ترجمت إلى الصينية والإنجليزية في واشنطن والفارسية والألمانية. و«المستنقع» ترجمت إلى الفارسية، و«حكاية بحار» إلى الروسية.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
نضال قوشحة
كاتب سوري