عبدالرؤوف شمعون رسام مشاهد تجريدية لا تنكر واقعيتها
سلوك الفنان الفلسطيني أثناء الممارسة الفنية هو ما يملي على يده طريقتها في التصرف وما جعله لا يشبه الرسامين.
الاستفهامي في حضوره وغيابه
“هندسة الخراب” تعبير ليس من اليسير الإفلات من شحنة التشاؤم التي ينطوي عليها. فكيف يمكن التقاط الصور التي تبعث الأمل من بين ثناياه؟ تلك فكرة خيالية تستمد قوتها من الواقع.
ذلك ما حاوله الرسام الأردني عبدالرؤوف شمعون (توفي قبل أيام) حين اتخذ من ذلك التعبير عنوانا لأحد معارضه. وهو يدرك جيدا أن محاولته تتقاطع من خلالها الوقائع والأوهام في زحمة من الحكايات.
الوجوه مكيدة بصرية
لأن شمعون مارس الكتابة محترفا فإنه يتحاشى العناوين الأدبية التي لا يمكن أن تعبر عن جوهر الممارسة الفنية وتظل مقطوعة الصلة بالرسوم. لذلك وجد في عبارة مثل
“الوحدة والتنوع” عنوانا لتجربته الفنية.
لقد عمل على أن تكون تلك الثنائية مصدر إلهام لطريقته في التفكير الفني، كما أنه اتخذ منها قاعدة لتحولاته الأسلوبية التي حرص على أن تكون بطيئة من غير قفزات مفاجئة، إضافة إلى تداخلها بطريقة تؤكد عدم انفصال بعضها عن البعض الآخر.
في لوحة واحدة نراه واقعيا وتعبيريا وتجريديا. غير أنه في لوحات أخرى يمكن أن يكون واقعيا أو تجريديا خالصا. ليست لديه وصفة أسلوبية مسبقة يلتزم بها بالرغم من أن لوحته يمكن تمييزها من غير الحاجة إلى قراءة توقيعه.
سلوكه أثناء الممارسة الفنية هو ما يملي على يده طريقتها في التصرف. وهو ما جعله لا يشبه أحدا من الرسامين الذين سبقوه أو جايلوه.
حتى في الرسوم الواقعية غالبا ما كان يرسم وجوه نساء، فإن هناك مسحة تعبيرية تميزه، مصدرها طريقته في استعمال العناصر وإنشاء التكوين، وهي طريقة تزيح الواقعية عن مكانها المدرسي.
الوجوه التي يرسمها ليست لأحد بعينه ولكنها يمكن أن تكون قناعا لكل أحد. فهي ذات طابع رمزي يعبر عن معان تتخطى اللحظة التي تُرسم فيها.
وكما يبدو فإن تلك الوجوه كانت الملاذ الذي يعود الرسام إليه بين حين وآخر ليبقي على الخيط الذي يصل بينه وبين الواقع مشدودا. ذلك شأن شخصي لا ينفي أن شمعون كان ولا يزال واحدا من أهم الرسامين التجريديين في الأردن.
ولد عبدالرؤوف شمعون في عمان عام 1945. بالمستوى نفسه كان كاتبا ورساما. لم يتأخر الكاتب ولم يتقدم الرسام ولم يلتحق أحدهما بالآخر. شمعون هو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين وفي الوقت نفسه هو عضو في رابطة التشكيليين الأردنيين.
• الرسام هو صانع أشكال مستقلة عن مصادرها
نشط منذ بدء ظهوره في مجال الكتابة النقدية والنظرية عن الفن، فكان ناقدا فنيا أثارت آراؤه اهتمام المتابعين للشأن الفني بسبب ما انطوت عليه من خبرة بمقومات العمل الفني من داخله، غير أن شمعون آثر في مراحل لاحقة أن يخفف من نشاطه الكتابي ليتفرغ كليا للرسم.
حاز على جائزة الدولة في الفنون عام 1990 كما حاز على الجائزة التقديرية لبينالي الشارقة عام 1992 وأقام أكثر من 15 معرضا شخصيا. كان قد أقام معرضه الشخصي الأول عام 1972.
يقول عبدالرؤف شمعون في وصف علاقته بما يرسم “صورتك تحت عينيك. حينما تنظر تشاهد الآخرين، وعمقاً داكناً غير السواد، حيث حساسيتك المعلقة بزمن يمضي مجافيا للتوقعات. فهل هذا يعني أنك تعطي أفضلية للحلم؟ ذلك يمكن أن يحدث، ولكن كيف يكون باستطاعتك أن تملأ بالغموض الموحي عصر المكائد واشتباك المعايير القيمية حين تلامس أداة الرسم؟ ومتى؟ في الصحو المربك وأين؟ في بقعك المكشوفة للنهايات، أم في فضائك المفرط نفسه الذي شهد مصادرة الأسطورة أولاً، ثم الهتك الأخير للرومانسية تاليا”.
“رسام استفهامي” يمكننا أن نصفه من غير أن يكون ذلك وصفا أكيداً لعالمه التجريدي الذي يظل يحتفظ بمسافة من الغموض تحيط به. ذلك غموض هو مصدر إيقاعات غنائية تنبعث من اصطدام الخطوط والمساحات الملونة، بعضها بالبعض الآخر. في النهاية نكون أمام رسام غنائي لا يكترث كثيرا بالمعاني.
جمال استثنائي للألم
بالرغم من عزوفه عن الاسترسال في العاطفة فإن عبدالرؤوف شمعون يبني لوحته انطلاقا من مفردات توحي أشكالها بتجريديتها، غير أن تلك المفردات في الحقيقة كانت مستعارة من الواقع ليستدل الرسام من خلالها إلى أصول الحكاية التي تشكل واحدا من أهم الدوافع التي تقود إلى الانفعال ومن ثم الرسم.
ولو لم يمارس شمعون نوعا من الضبط لعاطفته لكنا قد رأينا تلك المفردات واضحة ولذهب تذوقنا لرسومه في اتجاه مختلف. ففي جزء كبير من رسومه تظهر الخيمة باعتبارها رمزا لحياة طويلة وليست مأوى مؤقتا. ذلك ما جعله يستأنف السؤال الوجودي من لحظة ضياع، خلق منها بؤرة تتمحور حولها تفاصيل تجربته الجمالية.
صانع أشكال مستقلة
يمكنك أن ترى العالم الخارجي من خلال شقوق تلك الخيمة وفي المقابل يمكنك أيضا أن تجعل العالم يرى في الخيمة نفسها مقياسا للألم والعذاب والشعور العميق بالحرمان من الحياة الحقة. تلك كما أعتقد واحدة من أهم الرسائل التي حملها فن عبدالرؤف شمعون كما أنها كانت وسيلته لاستدراج التحولات الأسلوبية.
كان كل تحول هو عبارة عن طريقة جديدة في النظر إلى المفردات التي صنع منها الرسام عالما وبالأخص الخيمة التي كانت عنوانا لمسيرة امتزج فيها التلفت الحائر بالرغبة في احتضان العالم.
لعبة ماكرة مارسها شمعون من أجل أن تعلو القيم الجمالية فوق كل قيمة أخرى. ذلك ما أضفى على رسومه طابعا إنسانيا يتفوق في تأثيره على الألم الشخصي الذي قد يكون غامضا بالنسبة إلى آخرين.
صنع شمعون بعدا جماليا استثنائيا فشل كثير من رسامي القضية الفلسطينية في الوصول إليه بسبب انغماسهم في سرد الحكاية وسماحهم للعاطفة بأن تلتهم الجزء الأكبر من الطاقة التعبيرية.
حرص شمعون على أن تستقل لوحته عن الحكاية التي ترويها.
فالرسام وإن يجد في الحكاية مصدر إلهام يظل مشدودا إلى طريقته في معالجة مفردات ذلك الإلهام.
الرسام هو صانع أشكال مستقلة عن مصادرها.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
فاروق يوسف
كاتب عراقي
سلوك الفنان الفلسطيني أثناء الممارسة الفنية هو ما يملي على يده طريقتها في التصرف وما جعله لا يشبه الرسامين.
الاستفهامي في حضوره وغيابه
“هندسة الخراب” تعبير ليس من اليسير الإفلات من شحنة التشاؤم التي ينطوي عليها. فكيف يمكن التقاط الصور التي تبعث الأمل من بين ثناياه؟ تلك فكرة خيالية تستمد قوتها من الواقع.
ذلك ما حاوله الرسام الأردني عبدالرؤوف شمعون (توفي قبل أيام) حين اتخذ من ذلك التعبير عنوانا لأحد معارضه. وهو يدرك جيدا أن محاولته تتقاطع من خلالها الوقائع والأوهام في زحمة من الحكايات.
الوجوه مكيدة بصرية
لأن شمعون مارس الكتابة محترفا فإنه يتحاشى العناوين الأدبية التي لا يمكن أن تعبر عن جوهر الممارسة الفنية وتظل مقطوعة الصلة بالرسوم. لذلك وجد في عبارة مثل
“الوحدة والتنوع” عنوانا لتجربته الفنية.
لقد عمل على أن تكون تلك الثنائية مصدر إلهام لطريقته في التفكير الفني، كما أنه اتخذ منها قاعدة لتحولاته الأسلوبية التي حرص على أن تكون بطيئة من غير قفزات مفاجئة، إضافة إلى تداخلها بطريقة تؤكد عدم انفصال بعضها عن البعض الآخر.
في لوحة واحدة نراه واقعيا وتعبيريا وتجريديا. غير أنه في لوحات أخرى يمكن أن يكون واقعيا أو تجريديا خالصا. ليست لديه وصفة أسلوبية مسبقة يلتزم بها بالرغم من أن لوحته يمكن تمييزها من غير الحاجة إلى قراءة توقيعه.
سلوكه أثناء الممارسة الفنية هو ما يملي على يده طريقتها في التصرف. وهو ما جعله لا يشبه أحدا من الرسامين الذين سبقوه أو جايلوه.
حتى في الرسوم الواقعية غالبا ما كان يرسم وجوه نساء، فإن هناك مسحة تعبيرية تميزه، مصدرها طريقته في استعمال العناصر وإنشاء التكوين، وهي طريقة تزيح الواقعية عن مكانها المدرسي.
الوجوه التي يرسمها ليست لأحد بعينه ولكنها يمكن أن تكون قناعا لكل أحد. فهي ذات طابع رمزي يعبر عن معان تتخطى اللحظة التي تُرسم فيها.
وكما يبدو فإن تلك الوجوه كانت الملاذ الذي يعود الرسام إليه بين حين وآخر ليبقي على الخيط الذي يصل بينه وبين الواقع مشدودا. ذلك شأن شخصي لا ينفي أن شمعون كان ولا يزال واحدا من أهم الرسامين التجريديين في الأردن.
ولد عبدالرؤوف شمعون في عمان عام 1945. بالمستوى نفسه كان كاتبا ورساما. لم يتأخر الكاتب ولم يتقدم الرسام ولم يلتحق أحدهما بالآخر. شمعون هو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين وفي الوقت نفسه هو عضو في رابطة التشكيليين الأردنيين.
• الرسام هو صانع أشكال مستقلة عن مصادرها
نشط منذ بدء ظهوره في مجال الكتابة النقدية والنظرية عن الفن، فكان ناقدا فنيا أثارت آراؤه اهتمام المتابعين للشأن الفني بسبب ما انطوت عليه من خبرة بمقومات العمل الفني من داخله، غير أن شمعون آثر في مراحل لاحقة أن يخفف من نشاطه الكتابي ليتفرغ كليا للرسم.
حاز على جائزة الدولة في الفنون عام 1990 كما حاز على الجائزة التقديرية لبينالي الشارقة عام 1992 وأقام أكثر من 15 معرضا شخصيا. كان قد أقام معرضه الشخصي الأول عام 1972.
يقول عبدالرؤف شمعون في وصف علاقته بما يرسم “صورتك تحت عينيك. حينما تنظر تشاهد الآخرين، وعمقاً داكناً غير السواد، حيث حساسيتك المعلقة بزمن يمضي مجافيا للتوقعات. فهل هذا يعني أنك تعطي أفضلية للحلم؟ ذلك يمكن أن يحدث، ولكن كيف يكون باستطاعتك أن تملأ بالغموض الموحي عصر المكائد واشتباك المعايير القيمية حين تلامس أداة الرسم؟ ومتى؟ في الصحو المربك وأين؟ في بقعك المكشوفة للنهايات، أم في فضائك المفرط نفسه الذي شهد مصادرة الأسطورة أولاً، ثم الهتك الأخير للرومانسية تاليا”.
“رسام استفهامي” يمكننا أن نصفه من غير أن يكون ذلك وصفا أكيداً لعالمه التجريدي الذي يظل يحتفظ بمسافة من الغموض تحيط به. ذلك غموض هو مصدر إيقاعات غنائية تنبعث من اصطدام الخطوط والمساحات الملونة، بعضها بالبعض الآخر. في النهاية نكون أمام رسام غنائي لا يكترث كثيرا بالمعاني.
جمال استثنائي للألم
بالرغم من عزوفه عن الاسترسال في العاطفة فإن عبدالرؤوف شمعون يبني لوحته انطلاقا من مفردات توحي أشكالها بتجريديتها، غير أن تلك المفردات في الحقيقة كانت مستعارة من الواقع ليستدل الرسام من خلالها إلى أصول الحكاية التي تشكل واحدا من أهم الدوافع التي تقود إلى الانفعال ومن ثم الرسم.
ولو لم يمارس شمعون نوعا من الضبط لعاطفته لكنا قد رأينا تلك المفردات واضحة ولذهب تذوقنا لرسومه في اتجاه مختلف. ففي جزء كبير من رسومه تظهر الخيمة باعتبارها رمزا لحياة طويلة وليست مأوى مؤقتا. ذلك ما جعله يستأنف السؤال الوجودي من لحظة ضياع، خلق منها بؤرة تتمحور حولها تفاصيل تجربته الجمالية.
صانع أشكال مستقلة
يمكنك أن ترى العالم الخارجي من خلال شقوق تلك الخيمة وفي المقابل يمكنك أيضا أن تجعل العالم يرى في الخيمة نفسها مقياسا للألم والعذاب والشعور العميق بالحرمان من الحياة الحقة. تلك كما أعتقد واحدة من أهم الرسائل التي حملها فن عبدالرؤف شمعون كما أنها كانت وسيلته لاستدراج التحولات الأسلوبية.
كان كل تحول هو عبارة عن طريقة جديدة في النظر إلى المفردات التي صنع منها الرسام عالما وبالأخص الخيمة التي كانت عنوانا لمسيرة امتزج فيها التلفت الحائر بالرغبة في احتضان العالم.
لعبة ماكرة مارسها شمعون من أجل أن تعلو القيم الجمالية فوق كل قيمة أخرى. ذلك ما أضفى على رسومه طابعا إنسانيا يتفوق في تأثيره على الألم الشخصي الذي قد يكون غامضا بالنسبة إلى آخرين.
صنع شمعون بعدا جماليا استثنائيا فشل كثير من رسامي القضية الفلسطينية في الوصول إليه بسبب انغماسهم في سرد الحكاية وسماحهم للعاطفة بأن تلتهم الجزء الأكبر من الطاقة التعبيرية.
حرص شمعون على أن تستقل لوحته عن الحكاية التي ترويها.
فالرسام وإن يجد في الحكاية مصدر إلهام يظل مشدودا إلى طريقته في معالجة مفردات ذلك الإلهام.
الرسام هو صانع أشكال مستقلة عن مصادرها.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
فاروق يوسف
كاتب عراقي