بحث الآباء عن مثالية الأبناء يجلب صدمات نفسية تلازم الأولاد طوال حياتهم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بحث الآباء عن مثالية الأبناء يجلب صدمات نفسية تلازم الأولاد طوال حياتهم

    بحث الآباء عن مثالية الأبناء يجلب صدمات نفسية تلازم الأولاد طوال حياتهم


    العنف ينتج عن نقص الوعي الأسري وعدم معرفة تداعياته الخطيرة نفسيا وسلوكيا.
    السبت 2024/03/23

    مسلسل "بابا جا" يثير نقاشا أسريا داخل المجتمع المصري

    يعيش الأبناء الذين تربوا على العنف ولم يكن بينهم وبين آبائهم حوار، واقعا صعبا ومستقبلا مظلما، فالكثير من الآباء يعتمدون هذا الأسلوب عن جهل بالمخاطر، إذ يعتقدون أن العنف اللفظي والمادي والجسدي هو وسيلة ناجعة للتربية وتقويم سلوك الطفل وفق المجتمع.

    القاهرة - نجح مسلسل “بابا جا” الذي يعرض على بعض الفضائيات المصرية حاليا في تسليط الضوء على أزمة أسرية تنتشر في عدد من المجتمعات العربية، وأصبحت تشكل خطورة بالغة على الكيان العائلي، وربما تدمر مستقبل الأبناء، تتعلق بالوصاية القاسية على الأبناء وممارسة العنف اللفظي والجسدي ضدهم.

    وكشفت أحداث المسلسل عن واقع صعب ومستقبل مظلم يعيشه من تربوا على العنف ولم يكن بينهم وبين آبائهم حوار أو صداقة ونقاش أو فهم مشترك، بل تربية خشنة قائمة على الترهيب بزعم بحث الآباء عن وصول أبنائهم إلى درجة عالية من المثالية، لكن تبين أن العنف يجلب صدمات نفسية تلازم الأولاد طوال حياتهم.

    ويقوم الفنان أكرم حسني في المسلسل بدور “هشام”، ويعيش حياة مأساوية ولا يستطيع نسيان ما حدث معه في الصغر من تربية عنيفة، ومع أنه كبر وتزوج إلا أنه عديم المسؤولية ويعتمد على غيره دائما، ولا يثق في نفسه أو قراراته، ويخشى الخطأ بفعل ذكرياته السيئة مع أسرته عندما كان والده يضربه.

    وأصبح “هشام” مسؤولا عن أسرة، لكنه يعيش حالة من الرعب والقلق والتوتر، تجعله لا يستطيع التخطيط لحياته بشكل صحيح، حيث تربى على الانصياع للأوامر ولا يملك قدرة على اتخاذ قراراته، ولا أحد يقدم النصيحة له عندما يقع في خطأ، ويتعرض لأذى نفسي وجسدي لتقويم سلوكه.


    أسماء عبدالعظيم: الابن المثالي يتربى في أجواء أسرية خالية من العنف والعلاقة بين الزوجين قائمة على التشارك


    وأثارت أحداث المسلسل نقاشا أسريا في مصر، لأنه من الأعمال الفنية القليلة التي تتناول مخاطر إصرار الكثير من الأسر على البحث عن مثالية أولادهم، بما يدفعهم إلى تربيتهم بطريقة قائمة على العنف من دون النظر إلى عواقبه وتداعياته السلبية على هدم كيان العائلة عندما يكبر الابن ولا يصلح كرب أسرة.

    وتتحمل بعض المؤسسات التعليمية جزءا كبيرا من أسباب استمرار التربية القائمة على العنف، وتندر الأعمال الفنية التي تركز على مزايا التربية السوية، وتخشى البعض من التطرق لملف عقوق الآباء تجاه الأبناء لتجنب الاتهام بتحريض الأبناء عليهم.

    ويرجع العنف إلى نقص الوعي الأسري وعدم معرفة تداعياته الخطيرة نفسيا وسلوكيا، فالكثير من الآباء يداومون على الأسلوب نفسه عن جهل بالمخاطر، إذ يعتقدون أن العنف اللفظي والمادي والجسدي هو وسيلة ناجعة للتربية وتقويم سلوك الطفل وفق ما تستسيغه الأسرة والمجتمع.

    ويغيب عن شريحة معتبرة من الأسر في المجتمعات العربية أن الأب المثالي ليس الذي يتمسك ببلوغ ابنه مرحلة المثالية بطريقة العنف والترهيب لمنعه من ارتكاب الأخطاء، لكنه الذي يسعى ليكون قدوة حسنة لأبنائه، باعتبار أنهم يكتسبون منه كل شيء، ويتعاملون معه كمثل أعلى في حياتهم.

    ومشكلة الكثير من أرباب الأسر في بعض المجتمعات العربية أنهم ينتهجون أنماطا تربوية تعتمد على الوصاية والسلطوية، ويتجاهلون النظر لتقييم النتائج كل فترة، ليكون ذلك مقدمة للتراجع أو الاستمرار، وبعض الآباء يعتبرون العدول عن قسوة التربية يظهرهم ضعفاء أمام الأبناء.

    والخطر أن البعض من الآباء يقسون على أولادهم اعتقادا منهم أن التربية يجب أن تكون جافة، بزعم أن التسامح يفضي إلى الانفلات، ما يشرعن لدى هؤلاء فرضية العنف بلا إدراك أنه قد يقود إلى كراهية الابن لأبيه تلقائيا، ويتحول إلى فاقد للأمان وربما مضطربا وكارها للأسرة.

    ويعتقد متخصصون في العلاقات الأسرية أن التربية الخشنة ناجمة عن قناعة البعض من أرباب الأسر بأنهم السبب في مجيء أولادهم إلى الدنيا، ما يمنحهم الحق للتحكم في تفاصيل حياتهم بطريقة مؤذية أحيانا، بحجة أن الأبناء ملكية خاصة للآباء، وهي ثقافة متوارثة في المجتمعات المحافظة.

    وهناك إشكالية داخل بعض الأسر ترتبط بعدم الاعتراف بحق الشخص في اختيار أسلوب التربية الذي يناسبه ويتواءم مع طموحه وأفكاره ومراحله العمرية، وهو ما يسهم في تربية الأبناء على احترام الأسرة والحفاظ عليها وعدم الإقدام على ارتكاب تصرفات مسيئة.


    وقالت أسماء عبدالعظيم الاستشارية الأسرية في القاهرة إن الابن المثالي يتربى في أجواء أسرية خالية من العنف والعلاقة بين الزوجين قائمة على التشارك، وهذه ثقافة مطلوب نشرها في المجتمع الذي يتعامل مع الأبناء كملكية للأسرة تتحكم في مصيره. وأضافت لـ”العرب” أن الأجيال الجديدة سواء أكانوا أطفالا أم مراهقين، أصبحوا منفتحين ومتحررين ثقافيا وفكريا، ما يفرض على أرباب الأسر التعامل معهم بحكمة، كأن تكون بينهم صداقات ولغة راقية في الحوار، أما العنف فلا يمكن أن يؤسس لتربية سوية أو سلوكيات حسنة.

    ويؤسس احتواء الآباء للأبناء في أجواء عاطفية بعيدا عن الترهيب والعنف، وفقا لدراسات اجتماعية ونفسية، لعلاقة قوية قائمة على الصداقة والمصارحة وعدم ارتكاب أخطاء، ما يساعد الصغار على التنشئة وهم يتحملون المسؤولية، ويصبحوا متحكمين في مدى رضاء أو سخط الآباء عنهم.

    ويقود تمسك بعض الآباء في الوقت الراهن بتطبيق طريقة التربية التي خضعوا لها في الصغر على أبنائهم، إلى تعميق الفجوة داخل الأسرة، فالأبناء من جيل وآبائهم من جيل آخر، ما يولد العداء وربما التمرد، وقد يشب الصغار ويصاحبهم خلل نفسي، من دون مراعاة لاختلاف الظروف والبيئة والتطورات المجتمعية المتسارعة. وإذا كانت محاولة تغيير نمط فكر وثقافة هذه الفئة من أرباب الأسر تبدو صعبة، فهذا لا يعني استسلام المؤسسات التوعوية للأمر الواقع بلا تدخل عبر خطاب تثقيفي وفني وديني وتعليمي يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، ويخلق نقاشا أسريا حول نمط التربية الصحية بعيدا عن توريث التربية الخشنة.

    وهناك جزء من الأزمة تتحمله المؤسسات الدينية، فالبعض من الآباء تربوا على قدسية توقير الأبناء لهم بدافع عقائدي، وكبروا على أن “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”، ما يجعلهم يختزلون المعاملة الحسنة من الأبناء في الطاعة العمياء، وتبدو التربية الإيجابية من وجهة نظرهم كامنة في الصرامة المبالغ فيها كنوع من المسؤولية الدينية لتقويم سلوك الأولاد، باعتباره ذي قداسة إلهية.

    ويترتب عن هذه الثقافة أن المؤمنين بالتربية الخشنة لا يعتقدون أنهم يمارسون فعلا محرما بذريعة أن أولادهم مكلفون بالدين والعرف بالاستجابة لهم تحت أي ظرف وتقبل تصرفاتهم مهما كانت قاسية، ما يرسخ ديكتاتورية الآباء في المنزل ويُدمر حياة الأبناء في المستقبل، في وقت شُح فيه الخطاب التوعوي لفض الاشتباك.

    وفي حال تواصل سلبية المؤسسات المفترض فيها التوعية بخطاب تنويري وعقلاني، سوف يستمر تأسيس الأسر على ميراث العنف وتتعمق الفجوة النفسية بين الآباء والأبناء على وقع الجهل بمعايير التنشئة السليمة، ما يحوّل الترهيب إلى ثقافة أبوية طاغية لها عواقب وخيمة في المستقبل.


    أحمد حافظ
    كاتب مصري
يعمل...
X