"الشعر والغناء يرسخان الثقافة الكونية" أول كتاب يوثق للشعر الغنائي
الأكاديمية المغربية حورية الخمليشي تستعيد أغاني الزمن الجميل.
الأحد 2024/03/31
ShareWhatsAppTwitterFacebook
التطور الحقيقي للموسيقى العربية كان مع محمد عبدالوهاب
الموسيقى بما تشمله من فنون العزف والغناء، فن عريق في الحضارة العربية، وقد ارتبطت بشكل كبير بالشعر الذي واكب تطور الألحان عبر قرون، ليصل في القرن العشرين إلى ذروته. تجارب فنية كثيرة خلدت أسماءها وما تزال تطرب الآذان إلى اليوم. لكن رغم خلود الكثير من الأغاني فإن شعراءها غالبا ما يتم تناسيهم، وهذا ما تحاول تجاوزه الباحثة والأكاديمية المغربية حورية الخمليشي.
تؤكد الأكاديمية المغربية حورية الخمليشي في مقدمة كتابها “الشعر والغناء وترسيخ الثقافة الكونية” أن الشعر العربي في مختلف عصوره الأدبية ارتبط بالغناء واللحن والموسيقى إلى حدود القرن التاسع عشر بظهور الموجة التجديدية التي أرسى قواعدها ملحنون وموسيقيون كبار، والتي كانت في الحقيقة بداية تاريخ جديد للموسيقى العربية حيث ستعيش الأغنية زمنها الجميل.
وهي تؤمن بأن الشعر والغناء في أرقى صورهما الإبداعية يتحدّيان الزمان والمكان، وأنهما انعكاس للوعي الجمالي السائد وتعبير عميق عن رسالة إنسانية بلغة سامية هي لغة القصيدة، لغة الصدق والجمال.
الشعر والموسيقى
ترى الخمليشي أن كتابها جاء تكريمًا لروَّاد وعمالقة الطرب العربي من مطربين وملحنين وشعراء عاصروا العصر الذهبي للأغنية العربية، أو ما اصطلح عليه بالزمن الجميل.
الكتاب دعوة إلى التفكير في وضع أنطولوجيا الشعر المغنَّى الذي تفتقر إليه مكتباتنا العربية
إن هذا الكتاب دعوة إلى التفكير في وضع أنطولوجيا الشعر المغنَّى الذي تفتقر إليه مكتباتنا العربية. وترى صاحبته أن جمالية الإبداع لا تتحقق إلا من خلال التلقي. وحرصت من خلال تلقيها على الحديث عن أعمال جمعت بين جمالية الشعر واللحن الراقي والصوت العذب مما ساهم في انتشارها وشهرتها. وتؤكد أن الأغنية تولد دائما بين الشاعر والملحن عبر صوت جميل يطرب له المتلقي الذي غالبًا ما يترنم بأغان لا يعرف عنها إلا صوت المطرب، مع جهل تام بصاحب النص الأصلي الذي أنتج معانيه الجميلة، ولا بملحنه الذي عمل على توزيع مقامات الأغنية وإيقاعاتها.
وفي الزمن الجميل تحولت قصائد الشعراء المغنَّاة إلى أغان ذائعة الصيت كُتب لها الخلود في ذاكرة الشعر العربي الفصيح والعامي لمطربين مشهورين في المشرق والمغرب العربي وبلدان الخليج العربي لأجيال متعاقبة وأزمنة مختلفة بداية من أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب ومن تلاهما من روَّاد الأغنية العربية.
غير أن الخمليشي لا يفوتها الحديث عن القصائد القديمة المغنَّاة بداية من العصر الجاهلي إلى العصر الأندلسي بظهور الموشحات مرورًا بالعصر الإسلامي والأموي والعباسي، وقصائد مغنَّاة لشعراء الحداثة والرومانسية العربية بالإضافة إلى قصائد مغنَّاة من الشعر العامي.
وتوضح الأكاديمية المغربية أن كتابها يعد أول عمل يُلقي الضوء على إبداعات القصائد المغنَّاة بشقيها الفصيح والعامي والتعريف بشعرائها وملحنيها ومطربيها في الوطن العربي. وقد ضم الكتاب ما يزيد على مئتي أغنية، اكتمل فيها الأداء والنغم والطرب العربي الأصيل. مشيرة إلى أن العصور تُعرف بفنانيها ومبدعيها أكثر مما تُعرف بساستها، وأن لكل زمن ذوقه الخاص به ورجاله ومبدعوه. مؤكدة على قول أبي حامد الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين”: “مَنْ لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج”.
وتتوقف الباحثة في كتابها – الصادر عن دار الأمان بالرباط وجاء في 310 صفحات – عند الغناء والموسيقى عند العرب، مشيرة إلى كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني الذي يمثل النموذج المتميز في ارتقاء الشعر بباقي الفنون كفنّ الموسيقى والغناء، فهو يعد موسوعة في علم الشعر والشعراء، وفيه جمع الأصفهاني أحسن ما كُتب في الأغاني العربية بأصواتها وألحانها ونصوصها الشعرية.
كما تتوقف عند العصر العباسي حيث دخلت الموسيقى عصرها الذهبي، وبلغت ذروتها أيام الخليفة هارون الرشيد الذي اهتم بتطويرها كعلم وفن، فأنفق فيها أموالا طائلة، وكانت أخت الرشيد علية بنت المهدي أيضا شاعرة مبدعة ومؤلفة وعازفة وملحنة.
أما في الأندلس فقد تفنن الأندلسيون في العزف والغناء وأحدثت مدرسة إبراهيم الموصلي وولده إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي ثورة حقيقية في مجال الغناء والموسيقى. وقد نقل زرياب إلى الأندلس فنون الموسيقى وضروب الغناء، وامتاز بتفرده فيهما زمن الخليفة عبدالرحمن الثاني. وقد اشتهرت الأندلس بفن الموشحات التي ظهرت بسبب انتشار الغناء وتطور الآلات الموسيقية خاصة على يد زرياب. ثم عرفت الأندلس فن الزجل باللغة العامية.
حورية الخمليشي اختارت القصائد المغناة من الشعر العربي القديم والحديث ومن الشعر العامي من مختلف الأزمنة والأقطار العربية
وعن علاقة الشعر بالموسيقى والغناء ترى الخمليشي أن إيقاع القصيدة مستمد من إيقاع الموسيقى وإيقاع القلب والتنفس وإيقاع الطقس والزمن وإيقاع الحياة والليل والنهار، وأنه من عادتنا أن نتحدث عن موسيقى الشعر، وليس شعر الموسيقى، على أن الموسيقى بقوانينها وقواعدها تكون هي المتحكمة في اللغة الشعرية. وعلى ذلك فإن الشاعر لا يكون مبدعا إلا إذا كان مُلمًّا بأسرار اللحن الشعري والنغم الموسيقي.
الشعر العامي والأغنية
ترى الخمليشي أن التطور الحقيقي للموسيقى العربية سيكون مع محمد عبدالوهاب الذي سيُدخل مجموعة من التجديدات بداية من عام 1927. وتبين أن هذا التطور بدأ من سيد درويش (1892 – 1923) فهو مجدِّد الموسيقى وباعث النهضة الموسيقية في مصر والوطن العربي، ولُقب بـ “فنان الشعب”، وليس محمد عبدالوهاب الذي كان تلميذًا في مدرسة سيد درويش الموسيقية.
وفي هذا يقول نجيب محفوظ – الذي درس الموسيقى في معهد الموسيقى العربية، وكان يعزف على آلة القانون، ولكن تركها ليتفرغ للأدب – “من المعروف أن سيد درويش كان ثائرًا على الموسيقى التقليدية السائدة في أوائل القرن العشرين، ولديه رؤية عصرية متطورة، ويميل إلى أسلوب الأغاني الجماعية والاستعراضية، كما وجد نفسه في ‘الأوبريت’ المسرحي”. ويوضح محفوظ أن محمد عبدالوهاب جاء في أدواره الأولى يخيل إليك أنه سيد درويش، فقد كان واقعًا تحت تأثيره تماما، مثل “كلنا نحب القمر”.
وتثني الخمليشي على موقف عباس محمود العقاد الذي كتب عن الموسيقى والغناء، وكان من عشاق أغاني سيد درويش ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم، ويرى أن سيدة الطرب العربي أم كلثوم مطربة موهوبة جعلت الغناء ليس فن حناجر وأفواه فحسب بل فن عقول وقلوب.
كما أنها تتوقف عند مدرسة الرحابنة في لبنان التي أحدثت ثورة تجديدية كبيرة تلت الثورة التي عرفتها مصر على صعيد الموسيقى والشعر والمسرح، مشيرة إلى أحمد رامي وبيرم التونسي في السموّ بالشعر العامي وجعله قريبًا من اللغة العربية الفصحى.، ومن هنا توضح أن الأغنية التي ستعيش أزهي مراحلها بين سحر الشعر وجمالية النغم، عملت على ترسيخ الثقافة الكونية.
الكتاب يدون الأعمال التي جمعت بين جمالية الشعر واللحن الراقي والصوت العذب مما ساهم في انتشارها وشهرتها
ونذكر مقولة أحمد شوقي عن شعر بيرم التي يؤكدها محمد عبدالوهاب قائلا: إن شوقي كان يخشى فعلا على العربية من بيرم التونسي، فإن قدرته الهائلة على التعبير بالعامية عن كل مواقف الحياة في مرونة ساحرة قد دفعت الناس إلى ترديد أزجاله وقد تدفع بعض شباب الشعراء إلى الاقتداء به، ونحن في حاجة إلى الحفاظ على اللغة العربية.
ويؤكد الشاعر الدبلوماسي أحمد عبدالمجيد (صاحب أغنيات محمد عبدالوهاب “حسدوني وباين في عنيهم. خايف أقول اللي في قلبي. بالك مع مين. كثير يا قلبي. يا ليل يا روحي. القلب ياما انتظر. مريت على بيت الحبايب. ماكانش عالبال. كلنا نحب القمر. ومعاد حبيبي لمحمد عبدالمطلب”) أن شوقي عندما بدأ يكتب الأغنيات بالعامية أو باللغة الدراجة، خاف بيرم التونسي هذا الفارس الذي لا يُجارى، وأنه سيسود على ناظمي هذا اللون.
ويعرف شوقي قدر بيرم التونسي في الزجل والعامية وأغانيه باللغة الدارجة، فيقول “إني أخاف على اللغة العربية من عامية بيرم البليغة”.
أما عبدالمنعم شميس فيقول في كتابه “شخصيات في حياة شوقي”: “وعندما سمع بيرم التونسي أغنية محمد عبدالوهاب ‘النيل نجاشي‘ كتب زجلا شهيرًا قال في مطلعه متوجها بالحديث إلى أمير الشعراء صاحب الأغنية: “يا أمير الشعراء غيرك/ في الزجل أصبح أميرك”.
ولأن للشعر العامي أثرًا كبيرًا على انتشار الأغنية فقد أفردت الباحثة فصلا خاصا عن الشعر العامي والأغنية، واهتمت أيضا بالفلكلور، ونشأة الزجل في المغرب، فهو امتداد للموشحات الأندلسية. لكن في الوقت الذي دعا فيه يوسف الخال إلى كتابة الشعر باللغة العامية، أي كما يتكلم بها الناس في حياتهم اليومية، رأى صلاح عبدالصبور أن العامية لا يمكن أن يُكتب بمفرداتها أدبٌ عالميٌّ.
فنانون وشعراء
نظرا إلى أهمية رباعيات الخيام فقد توقفت الخمليشي عند ترجمة أحمد رامي وتساءلت: هل هي رباعيات الخيام، أم رباعيات أحمد رامي بفكر الخيام؟ موضحة أن اكتشاف الرباعيات في الثقافة العربية تأخر أكثر من نصف قرن من الزمن على اكتشافها في الثقافة الأوروبية والعالمية، مشيرة إلى أن النقاد يُجمعون على أن ترجمة رامي الشعرية للرباعيات أفضل الترجمات وأشهرها. وهي ترى أن الرباعيات هي أيام الشاعر وفلسفته ورأيه في الكون والوجود والحياة، وأن بعض النقاد يرون أن الخيام متأثرٌ في رباعياته بشعر المعري.
ومن الخيام إلى أحمد شوقي متحدثةً عن العلاقة بين أمير الطرب (وتقصد عبدالوهاب) وأمير الشعراء حيث يكتمل الفن والشعر، فقصائد شوقي المغنَّاة من أجمل ما غنَّى عبدالوهاب. لقد كانت علاقة محمد عبدالوهاب بأمير الشعراء أحمد شوقي لها كبير الأثر على حياته الفنية، فكان شوقي بمثابة الأب الروحي لمحمد عبدالوهاب.
وفي هذا يقول عبدالوهاب “بدأتُ أحس أن مصر ليست كافية بالنسبة إليّ (مش كفاية عليّ) لأن شوقي أخذني إلى باريس وأنا عندي 15 سنة، فبدأت أحس بالحرية”. ويضيف “إن شوقي غيَّر طريقي، فبدأت أفتح شبابيك فني على معالم بلاد أخرى. كنتُ أحس في كل بلد وكل ميناء وكل مكان نصل إليه بأشياء جديدة، ففي كل سنة وأنا في صحبة شوقي نذهب إلى أوروبا أحيانا، وإلى لبنان أحيانا، وهكذا”.
الكتاب دعوة إلى التفكير في وضع أنطولوجيا الشعر المغنَّى في شقيه الفصيح والعامي وهو ما تفتقر إليه مكتباتنا العربية
تذهب الباحثة من شوقي إلى الشاعر المغربي عبدالرفيع الجواهري، الذي حظيت قصائده المغنّاة بشهرة كبيرة ذات لمسة خاصة في الأغنية المغربية، وعُدّت من أروع القصائد المغاربية والعربية على الإطلاق.
ثم تتوقف عند أغان من الشعر العربي القديم التي غنَّاها مطربو العصر من أمثال: أم كلثوم، ووديع الصافي، وصباح فخري، وفيروز، وفايزة أحمد، وناظم الغزالي، وأحمد البيضاوي، وهيام يونس، وكاظم الساهر.
ومن أغاني الشعر العربي الحديث تتوقف عند: أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، ووديع الصافي، وعبدالحليم حافظ، وفريد الأطرش، وناظم الغزالي، وفيروز، ونور الهدى، ولطفي بوشناق، ونجاة الصغيرة، وبهيجة إدريس، وعبدالوهاب الدكالي، وعبدالهادي بلخياط، ومحمد الحياني، ومحمد عبده، وكريمة الصقلي، وكاظم الساهر، وماجدة الرومي، وميادة الحناوي، وعزيزة جلال.
ومن أغاني شعر العامية في الوطن العربي أثناء الزمن الجميل توقفت الخمليشي عند: أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، ووديع الصافي، وعبدالحليم حافظ، وأسمهان، وفريد الأطرش، وليلى مراد، وصباح، وفيروز، وفايزة أحمد، ومحمد فوزي، ومحرم فؤاد، وسيد مكاوي، وناظم الغزالي، وفهد بلان، وصباح فخري، وشادية، ومحمد رشدي، وسميرة توفيق، وشريفة فاضل، ونجاح سلام، ونجاة الصغيرة، ووردة، وعُليّة (التونسية)، وأحمد حمزة، وعبدالوهاب الدكالي، وعبدالوهاب بلخياط، وإسماعيل أحمد، والمعطي بلقاسم، وإبراهيم العلمي، ومحمد فويتح، وأحمد وهبي، ورابح درياسة، ودحمان الحراشي، وسلوى الجزائرية، وعادل عبدالمجيد، والحسين السلاوي، ومحمد الحياني، وفتح الله لمغاري، ومحمود الإدريسي، ونعيمة سميح، وملحم بركات، وهيام يونس، وجورج وسوف، وميادة الحناوي، ولطفي بوشناق، ونعمان لحلو، وكاظم الساهر، وسميرة سعيد، وعزيزة جلال، ولطيفة رأفت.
بالتأكيد هناك آخرون، وتكفينا هذه النماذج المشرقة من القصائد المغنّاة التي اختارتها الأكاديمية المغربية حورية الخمليشي من الشعر العربي القديم والحديث، ومن الشعر العامي من مختلف الأزمنة والأقطار العربية، وهي نماذج رأت الخمليشي أنها ظلت فيها القصيدة متوهجة لأجيال ترددها حناجر المطربين. تمتلك مقومات وخصوصيات النص الشعري العربي الفصيح، وكذلك الشعر العامي الذي تمكن فيه الشعراء من تحويل اللغة اليومية إلى لغة الإبداع، وهذا لا يعني أنه ليست هناك نماذج أخرى رائعة ومميزة لمطربين وشعراء وملحنين مشهورين لم ترد أسماؤهم في هذا الكتاب القيّم.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أحمد فضل شبلول
كاتب مصري
الأكاديمية المغربية حورية الخمليشي تستعيد أغاني الزمن الجميل.
الأحد 2024/03/31
ShareWhatsAppTwitterFacebook
التطور الحقيقي للموسيقى العربية كان مع محمد عبدالوهاب
الموسيقى بما تشمله من فنون العزف والغناء، فن عريق في الحضارة العربية، وقد ارتبطت بشكل كبير بالشعر الذي واكب تطور الألحان عبر قرون، ليصل في القرن العشرين إلى ذروته. تجارب فنية كثيرة خلدت أسماءها وما تزال تطرب الآذان إلى اليوم. لكن رغم خلود الكثير من الأغاني فإن شعراءها غالبا ما يتم تناسيهم، وهذا ما تحاول تجاوزه الباحثة والأكاديمية المغربية حورية الخمليشي.
تؤكد الأكاديمية المغربية حورية الخمليشي في مقدمة كتابها “الشعر والغناء وترسيخ الثقافة الكونية” أن الشعر العربي في مختلف عصوره الأدبية ارتبط بالغناء واللحن والموسيقى إلى حدود القرن التاسع عشر بظهور الموجة التجديدية التي أرسى قواعدها ملحنون وموسيقيون كبار، والتي كانت في الحقيقة بداية تاريخ جديد للموسيقى العربية حيث ستعيش الأغنية زمنها الجميل.
وهي تؤمن بأن الشعر والغناء في أرقى صورهما الإبداعية يتحدّيان الزمان والمكان، وأنهما انعكاس للوعي الجمالي السائد وتعبير عميق عن رسالة إنسانية بلغة سامية هي لغة القصيدة، لغة الصدق والجمال.
الشعر والموسيقى
ترى الخمليشي أن كتابها جاء تكريمًا لروَّاد وعمالقة الطرب العربي من مطربين وملحنين وشعراء عاصروا العصر الذهبي للأغنية العربية، أو ما اصطلح عليه بالزمن الجميل.
الكتاب دعوة إلى التفكير في وضع أنطولوجيا الشعر المغنَّى الذي تفتقر إليه مكتباتنا العربية
إن هذا الكتاب دعوة إلى التفكير في وضع أنطولوجيا الشعر المغنَّى الذي تفتقر إليه مكتباتنا العربية. وترى صاحبته أن جمالية الإبداع لا تتحقق إلا من خلال التلقي. وحرصت من خلال تلقيها على الحديث عن أعمال جمعت بين جمالية الشعر واللحن الراقي والصوت العذب مما ساهم في انتشارها وشهرتها. وتؤكد أن الأغنية تولد دائما بين الشاعر والملحن عبر صوت جميل يطرب له المتلقي الذي غالبًا ما يترنم بأغان لا يعرف عنها إلا صوت المطرب، مع جهل تام بصاحب النص الأصلي الذي أنتج معانيه الجميلة، ولا بملحنه الذي عمل على توزيع مقامات الأغنية وإيقاعاتها.
وفي الزمن الجميل تحولت قصائد الشعراء المغنَّاة إلى أغان ذائعة الصيت كُتب لها الخلود في ذاكرة الشعر العربي الفصيح والعامي لمطربين مشهورين في المشرق والمغرب العربي وبلدان الخليج العربي لأجيال متعاقبة وأزمنة مختلفة بداية من أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب ومن تلاهما من روَّاد الأغنية العربية.
غير أن الخمليشي لا يفوتها الحديث عن القصائد القديمة المغنَّاة بداية من العصر الجاهلي إلى العصر الأندلسي بظهور الموشحات مرورًا بالعصر الإسلامي والأموي والعباسي، وقصائد مغنَّاة لشعراء الحداثة والرومانسية العربية بالإضافة إلى قصائد مغنَّاة من الشعر العامي.
وتوضح الأكاديمية المغربية أن كتابها يعد أول عمل يُلقي الضوء على إبداعات القصائد المغنَّاة بشقيها الفصيح والعامي والتعريف بشعرائها وملحنيها ومطربيها في الوطن العربي. وقد ضم الكتاب ما يزيد على مئتي أغنية، اكتمل فيها الأداء والنغم والطرب العربي الأصيل. مشيرة إلى أن العصور تُعرف بفنانيها ومبدعيها أكثر مما تُعرف بساستها، وأن لكل زمن ذوقه الخاص به ورجاله ومبدعوه. مؤكدة على قول أبي حامد الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين”: “مَنْ لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج”.
وتتوقف الباحثة في كتابها – الصادر عن دار الأمان بالرباط وجاء في 310 صفحات – عند الغناء والموسيقى عند العرب، مشيرة إلى كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني الذي يمثل النموذج المتميز في ارتقاء الشعر بباقي الفنون كفنّ الموسيقى والغناء، فهو يعد موسوعة في علم الشعر والشعراء، وفيه جمع الأصفهاني أحسن ما كُتب في الأغاني العربية بأصواتها وألحانها ونصوصها الشعرية.
كما تتوقف عند العصر العباسي حيث دخلت الموسيقى عصرها الذهبي، وبلغت ذروتها أيام الخليفة هارون الرشيد الذي اهتم بتطويرها كعلم وفن، فأنفق فيها أموالا طائلة، وكانت أخت الرشيد علية بنت المهدي أيضا شاعرة مبدعة ومؤلفة وعازفة وملحنة.
أما في الأندلس فقد تفنن الأندلسيون في العزف والغناء وأحدثت مدرسة إبراهيم الموصلي وولده إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي ثورة حقيقية في مجال الغناء والموسيقى. وقد نقل زرياب إلى الأندلس فنون الموسيقى وضروب الغناء، وامتاز بتفرده فيهما زمن الخليفة عبدالرحمن الثاني. وقد اشتهرت الأندلس بفن الموشحات التي ظهرت بسبب انتشار الغناء وتطور الآلات الموسيقية خاصة على يد زرياب. ثم عرفت الأندلس فن الزجل باللغة العامية.
حورية الخمليشي اختارت القصائد المغناة من الشعر العربي القديم والحديث ومن الشعر العامي من مختلف الأزمنة والأقطار العربية
وعن علاقة الشعر بالموسيقى والغناء ترى الخمليشي أن إيقاع القصيدة مستمد من إيقاع الموسيقى وإيقاع القلب والتنفس وإيقاع الطقس والزمن وإيقاع الحياة والليل والنهار، وأنه من عادتنا أن نتحدث عن موسيقى الشعر، وليس شعر الموسيقى، على أن الموسيقى بقوانينها وقواعدها تكون هي المتحكمة في اللغة الشعرية. وعلى ذلك فإن الشاعر لا يكون مبدعا إلا إذا كان مُلمًّا بأسرار اللحن الشعري والنغم الموسيقي.
الشعر العامي والأغنية
ترى الخمليشي أن التطور الحقيقي للموسيقى العربية سيكون مع محمد عبدالوهاب الذي سيُدخل مجموعة من التجديدات بداية من عام 1927. وتبين أن هذا التطور بدأ من سيد درويش (1892 – 1923) فهو مجدِّد الموسيقى وباعث النهضة الموسيقية في مصر والوطن العربي، ولُقب بـ “فنان الشعب”، وليس محمد عبدالوهاب الذي كان تلميذًا في مدرسة سيد درويش الموسيقية.
وفي هذا يقول نجيب محفوظ – الذي درس الموسيقى في معهد الموسيقى العربية، وكان يعزف على آلة القانون، ولكن تركها ليتفرغ للأدب – “من المعروف أن سيد درويش كان ثائرًا على الموسيقى التقليدية السائدة في أوائل القرن العشرين، ولديه رؤية عصرية متطورة، ويميل إلى أسلوب الأغاني الجماعية والاستعراضية، كما وجد نفسه في ‘الأوبريت’ المسرحي”. ويوضح محفوظ أن محمد عبدالوهاب جاء في أدواره الأولى يخيل إليك أنه سيد درويش، فقد كان واقعًا تحت تأثيره تماما، مثل “كلنا نحب القمر”.
وتثني الخمليشي على موقف عباس محمود العقاد الذي كتب عن الموسيقى والغناء، وكان من عشاق أغاني سيد درويش ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم، ويرى أن سيدة الطرب العربي أم كلثوم مطربة موهوبة جعلت الغناء ليس فن حناجر وأفواه فحسب بل فن عقول وقلوب.
كما أنها تتوقف عند مدرسة الرحابنة في لبنان التي أحدثت ثورة تجديدية كبيرة تلت الثورة التي عرفتها مصر على صعيد الموسيقى والشعر والمسرح، مشيرة إلى أحمد رامي وبيرم التونسي في السموّ بالشعر العامي وجعله قريبًا من اللغة العربية الفصحى.، ومن هنا توضح أن الأغنية التي ستعيش أزهي مراحلها بين سحر الشعر وجمالية النغم، عملت على ترسيخ الثقافة الكونية.
الكتاب يدون الأعمال التي جمعت بين جمالية الشعر واللحن الراقي والصوت العذب مما ساهم في انتشارها وشهرتها
ونذكر مقولة أحمد شوقي عن شعر بيرم التي يؤكدها محمد عبدالوهاب قائلا: إن شوقي كان يخشى فعلا على العربية من بيرم التونسي، فإن قدرته الهائلة على التعبير بالعامية عن كل مواقف الحياة في مرونة ساحرة قد دفعت الناس إلى ترديد أزجاله وقد تدفع بعض شباب الشعراء إلى الاقتداء به، ونحن في حاجة إلى الحفاظ على اللغة العربية.
ويؤكد الشاعر الدبلوماسي أحمد عبدالمجيد (صاحب أغنيات محمد عبدالوهاب “حسدوني وباين في عنيهم. خايف أقول اللي في قلبي. بالك مع مين. كثير يا قلبي. يا ليل يا روحي. القلب ياما انتظر. مريت على بيت الحبايب. ماكانش عالبال. كلنا نحب القمر. ومعاد حبيبي لمحمد عبدالمطلب”) أن شوقي عندما بدأ يكتب الأغنيات بالعامية أو باللغة الدراجة، خاف بيرم التونسي هذا الفارس الذي لا يُجارى، وأنه سيسود على ناظمي هذا اللون.
ويعرف شوقي قدر بيرم التونسي في الزجل والعامية وأغانيه باللغة الدارجة، فيقول “إني أخاف على اللغة العربية من عامية بيرم البليغة”.
أما عبدالمنعم شميس فيقول في كتابه “شخصيات في حياة شوقي”: “وعندما سمع بيرم التونسي أغنية محمد عبدالوهاب ‘النيل نجاشي‘ كتب زجلا شهيرًا قال في مطلعه متوجها بالحديث إلى أمير الشعراء صاحب الأغنية: “يا أمير الشعراء غيرك/ في الزجل أصبح أميرك”.
ولأن للشعر العامي أثرًا كبيرًا على انتشار الأغنية فقد أفردت الباحثة فصلا خاصا عن الشعر العامي والأغنية، واهتمت أيضا بالفلكلور، ونشأة الزجل في المغرب، فهو امتداد للموشحات الأندلسية. لكن في الوقت الذي دعا فيه يوسف الخال إلى كتابة الشعر باللغة العامية، أي كما يتكلم بها الناس في حياتهم اليومية، رأى صلاح عبدالصبور أن العامية لا يمكن أن يُكتب بمفرداتها أدبٌ عالميٌّ.
فنانون وشعراء
نظرا إلى أهمية رباعيات الخيام فقد توقفت الخمليشي عند ترجمة أحمد رامي وتساءلت: هل هي رباعيات الخيام، أم رباعيات أحمد رامي بفكر الخيام؟ موضحة أن اكتشاف الرباعيات في الثقافة العربية تأخر أكثر من نصف قرن من الزمن على اكتشافها في الثقافة الأوروبية والعالمية، مشيرة إلى أن النقاد يُجمعون على أن ترجمة رامي الشعرية للرباعيات أفضل الترجمات وأشهرها. وهي ترى أن الرباعيات هي أيام الشاعر وفلسفته ورأيه في الكون والوجود والحياة، وأن بعض النقاد يرون أن الخيام متأثرٌ في رباعياته بشعر المعري.
ومن الخيام إلى أحمد شوقي متحدثةً عن العلاقة بين أمير الطرب (وتقصد عبدالوهاب) وأمير الشعراء حيث يكتمل الفن والشعر، فقصائد شوقي المغنَّاة من أجمل ما غنَّى عبدالوهاب. لقد كانت علاقة محمد عبدالوهاب بأمير الشعراء أحمد شوقي لها كبير الأثر على حياته الفنية، فكان شوقي بمثابة الأب الروحي لمحمد عبدالوهاب.
وفي هذا يقول عبدالوهاب “بدأتُ أحس أن مصر ليست كافية بالنسبة إليّ (مش كفاية عليّ) لأن شوقي أخذني إلى باريس وأنا عندي 15 سنة، فبدأت أحس بالحرية”. ويضيف “إن شوقي غيَّر طريقي، فبدأت أفتح شبابيك فني على معالم بلاد أخرى. كنتُ أحس في كل بلد وكل ميناء وكل مكان نصل إليه بأشياء جديدة، ففي كل سنة وأنا في صحبة شوقي نذهب إلى أوروبا أحيانا، وإلى لبنان أحيانا، وهكذا”.
الكتاب دعوة إلى التفكير في وضع أنطولوجيا الشعر المغنَّى في شقيه الفصيح والعامي وهو ما تفتقر إليه مكتباتنا العربية
تذهب الباحثة من شوقي إلى الشاعر المغربي عبدالرفيع الجواهري، الذي حظيت قصائده المغنّاة بشهرة كبيرة ذات لمسة خاصة في الأغنية المغربية، وعُدّت من أروع القصائد المغاربية والعربية على الإطلاق.
ثم تتوقف عند أغان من الشعر العربي القديم التي غنَّاها مطربو العصر من أمثال: أم كلثوم، ووديع الصافي، وصباح فخري، وفيروز، وفايزة أحمد، وناظم الغزالي، وأحمد البيضاوي، وهيام يونس، وكاظم الساهر.
ومن أغاني الشعر العربي الحديث تتوقف عند: أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، ووديع الصافي، وعبدالحليم حافظ، وفريد الأطرش، وناظم الغزالي، وفيروز، ونور الهدى، ولطفي بوشناق، ونجاة الصغيرة، وبهيجة إدريس، وعبدالوهاب الدكالي، وعبدالهادي بلخياط، ومحمد الحياني، ومحمد عبده، وكريمة الصقلي، وكاظم الساهر، وماجدة الرومي، وميادة الحناوي، وعزيزة جلال.
ومن أغاني شعر العامية في الوطن العربي أثناء الزمن الجميل توقفت الخمليشي عند: أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، ووديع الصافي، وعبدالحليم حافظ، وأسمهان، وفريد الأطرش، وليلى مراد، وصباح، وفيروز، وفايزة أحمد، ومحمد فوزي، ومحرم فؤاد، وسيد مكاوي، وناظم الغزالي، وفهد بلان، وصباح فخري، وشادية، ومحمد رشدي، وسميرة توفيق، وشريفة فاضل، ونجاح سلام، ونجاة الصغيرة، ووردة، وعُليّة (التونسية)، وأحمد حمزة، وعبدالوهاب الدكالي، وعبدالوهاب بلخياط، وإسماعيل أحمد، والمعطي بلقاسم، وإبراهيم العلمي، ومحمد فويتح، وأحمد وهبي، ورابح درياسة، ودحمان الحراشي، وسلوى الجزائرية، وعادل عبدالمجيد، والحسين السلاوي، ومحمد الحياني، وفتح الله لمغاري، ومحمود الإدريسي، ونعيمة سميح، وملحم بركات، وهيام يونس، وجورج وسوف، وميادة الحناوي، ولطفي بوشناق، ونعمان لحلو، وكاظم الساهر، وسميرة سعيد، وعزيزة جلال، ولطيفة رأفت.
بالتأكيد هناك آخرون، وتكفينا هذه النماذج المشرقة من القصائد المغنّاة التي اختارتها الأكاديمية المغربية حورية الخمليشي من الشعر العربي القديم والحديث، ومن الشعر العامي من مختلف الأزمنة والأقطار العربية، وهي نماذج رأت الخمليشي أنها ظلت فيها القصيدة متوهجة لأجيال ترددها حناجر المطربين. تمتلك مقومات وخصوصيات النص الشعري العربي الفصيح، وكذلك الشعر العامي الذي تمكن فيه الشعراء من تحويل اللغة اليومية إلى لغة الإبداع، وهذا لا يعني أنه ليست هناك نماذج أخرى رائعة ومميزة لمطربين وشعراء وملحنين مشهورين لم ترد أسماؤهم في هذا الكتاب القيّم.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أحمد فضل شبلول
كاتب مصري