أيقظني من شرودي صوتٌ مفاجئٌ غريب اللهجة، ينبِّهني إلى ضرورة الانتباه لأنَّ خطواتي تكاد تترجم حالة تشتُّت وضياع، وتشي بقلقٍ دفين. نظرتُ حولي فما وجدتُ أحداً، ازددتُ دهشةً.. ولكنْ ما لبث الصوتُ أن عاد ثانية ليعرِّفني بذاته، إنَّه صوتُ الطريق!! لا تستغرب، هكذا قال لي، ثُمَّ أضافَ: "مشكلتُكُم، أنتم البشر، أنَّكم لا ترون إلَّا بعيونكم، لذلك عليك أن تكتفيَ بسماعي." شددتُ شعرَ رأسي حتى أتأكَّدَ أنَّ روحي ما زالت فيَّ ونابضةٌ حياة، وأنَّني لستُ في حلم، فتذكَّرتُ.. لقد غادرتُ المحطة مكتئباً لعدم استطاعتي وداعَ مَنْ جئتُ لوداعه، لقد كُسِرَ خاطر القلب، لمتُ نفسي لتأخُّري، وشردتُ حتى ما عدتُ أميّزُ مكاني عندما أيقظني هذا الصوتُ الغريب؛ أصغيتُ ثانية إليه وهو يحدِّثني بجرأةٍ لافتةٍ، ومنطقٍ دقيق مذكِّراً إيَّاي بالقاسم المشترك بيني وبينَها، كلانا من تراب، ترابٌ طرأت عليه تطوُّرات وتعديلات، فصارتْ هي طريقاً هناك، وصرتُ أنا إنساناً هنا. ظننتُ أنَّها سمعت ذات مرَّة شاعرنا أبا العلاء المعريّ الذي حين غابتْ عيناه، أشرقتْ في روحه آلافُ العيون، فرأى وقال: "ما أظنُّ أديمَ الأرضِ إلَّا من هذه الأجسادِ" وما إن نما في خاطري سؤال عن إمكانيَّة وجود تقاطعات أخرى بيننا حتى فاجأتني سرعة تفاعلها مع ما حدَّثتُ به نفسي، فقالت: "إنَّ مهندسَ الكونِ مَنَحَ كلَّ الكائنات التي أوجدها وعياً، ولذلك أنتم تمتلكون وعياً إنسانياً خاصّاً بكم، ونحن نمتلك وعياً طريقياً خاصّاً بنا. ولقد نما وعيُنا هذا فتطوَّرنا، وأصبحنا نمتلكُ مهاراتٍ ومعارف تكنوخطواتيَّة .. عليك أن لا تستغرب المصطلح ، هي لغتنا "الدربولاتيَّة ", لغتنا التي لم تهبط من السماء، وما رتَّلها أحد ترتيلا، بل نبتَتْ من الأرض، ولكنَّنا نرى في بيانها سحراً ليس أقل من سحر و لغتكم النابع من بيانها، تتلُونَ وتجوِّدون حروفها الانفجاريَّة التي تكاد تخدش الأذن، في حين أنَّ حروف لغتنا تكرج كرجاً فتأتي الكلمات مغزولة بإحكام."
تلفَّتُ حولي، لعلَّ أحداً ما يستمع إلى حديثنا فيظنُّ أنَّني فقدتُ عقلي وأنا أتحدَّثُ وأجادلُ وأناقشُ بصوت عالٍ مصطلح "التكنوخطواتيَّة" .. أفاضتْ في الحديث عن مهاراتٍ اكتسبتها عبر دراسة وتحليل كمّ هائلٍ من الخطوات المتنوِّعة التي عبرتها، مشيرة إلى اعتمادها على منهجٍ إحصائيٍّ تحليليٍّ أوصلها في النتيجة النهائيَّة إلى تصنيف هذه الخطوات، وكذلك الماشين إلى أقسام ومجموعات: فهناك الخطواتُ السريعةُ والبطيئةُ، الليِّنةُ الرقيقةُ والقاسيةُ الفظَّةُ، الطويلةُ والقصيرةُ، المستقيمةُ والملتويةُ، الثابتةُ والمضطربةُ، الحاسمةُ والمتردِّدةُ.. ثمَّ أشارت إلى إمكانيَّة ربط هذه الأشكال بالحالة النفسيَّة والعاطفيَّة والماديَّة والاجتماعيَّة للبشر، إذ إنَّ الفرق واضحٌ بين خطوات من ينتشي بالسَّعادة وخطوات من يغصُّ بالألم، بين الواثق والمتردِّد، المحبّ والحقودِ، المتأمِّل الحالمِ والواقعيِّ العمليِّ.
شعرتُ بدغدة رقيقة في أسفل القدم وكأنَّ أجنحة فراشةٍ رفّت قربها، ومرَّة ثانيةً قرأتْ ما دار في ذهني ورأتْ ثياب الدهشة التي تلبسني، فقالت: "سأيسِّر الأمر عليك، وأزيلُ ما اعتراك من ريبة؛ ما الذي تريدني أن أسردَهُ لك؟ خطواتك الأولى البعيدة في رويسة كلبو؟ أم تريدني أن أحدِّثكَ عنك قبل قليل؟ وأنت تسيرُ بخطا راقصةٍ سريعةٍ واسعةٍ ، يقودك أمل لا حدَّ له وسعادة منتظرة، حتى إذا غبتَ قليلا وعلمتَ أنَّ الزمن خانك، وأنَّ طيورَ حلمكَ طارتْ من دون أن تصافحها عيناك وتصلِّي لها روحُكَ, فغادرتَ بخطواتِ الخائبِ المتردِّدة القصيرة المتعثرة، المترنِّحة، وقد أثقل كاهلك حزنٌ يكادُ يطبقُ على قلبك وروحك، مثل النائم كانتْ تجرُّك خطاك، ومثل النائم أيضاً كنت تسير خبط عشواء، فأشفقت عليك وقرَّرتُ إيقاظك."
شعرتُ بجفافٍ شديد في حلقي وتصلَّبت حبالي الصوتيَّة فأخرجت آهاً عميقة؛ وخشيت أن تعود إلى الزمان الأكثر قدما فتفتحَ صفحاتٍ أجهدتُ نفسي كثيراً كي أطويها. فكَّرتُ، وفكَّرتُ في الإنسان الذي يظنُّ أنَّه يحتكر العقل والوعي والمشاعروالعلم، يدوس كلَّ شيء بلا شفقة، ويحتقرُ الآخرَ فيخفي بقبحه جمال الكون؛ يذبح عنقَ الوردة ويخنق غناء البلابل.
من أين لي أن أعثر على كل ما قاله أبو العلاء المعرِّي لأنَّ عيونه كانت قادرة على رؤية خيوط منتجات التكنوخطواتيَّة الفائقة الدقَّة، أظنُّ أنه خبَّأ في أشعاره الكثير الكثير.
ترى هل صحيح ما ألمحت إليه الطريق من أن كلَّ خليَّة في الإنسان يمكن أن كتاب تاريخ وسيرة ذاتيَّة لصاحبها.
لست أدري أطويلٌ حبلُ الأسئلة هذا أمْ يطولُ!!؟؟ صرت أخشى أن يلتفَّ حول عنقي, وصار عليَّ أن أتقن حتَّى لغة الحجر. ومن البعيد البعيد سمعت ألف طريق تنادي:
ربَّاه، متى سيصيرُ إلهاً صغيراً ؟؟!!
تلفَّتُ حولي، لعلَّ أحداً ما يستمع إلى حديثنا فيظنُّ أنَّني فقدتُ عقلي وأنا أتحدَّثُ وأجادلُ وأناقشُ بصوت عالٍ مصطلح "التكنوخطواتيَّة" .. أفاضتْ في الحديث عن مهاراتٍ اكتسبتها عبر دراسة وتحليل كمّ هائلٍ من الخطوات المتنوِّعة التي عبرتها، مشيرة إلى اعتمادها على منهجٍ إحصائيٍّ تحليليٍّ أوصلها في النتيجة النهائيَّة إلى تصنيف هذه الخطوات، وكذلك الماشين إلى أقسام ومجموعات: فهناك الخطواتُ السريعةُ والبطيئةُ، الليِّنةُ الرقيقةُ والقاسيةُ الفظَّةُ، الطويلةُ والقصيرةُ، المستقيمةُ والملتويةُ، الثابتةُ والمضطربةُ، الحاسمةُ والمتردِّدةُ.. ثمَّ أشارت إلى إمكانيَّة ربط هذه الأشكال بالحالة النفسيَّة والعاطفيَّة والماديَّة والاجتماعيَّة للبشر، إذ إنَّ الفرق واضحٌ بين خطوات من ينتشي بالسَّعادة وخطوات من يغصُّ بالألم، بين الواثق والمتردِّد، المحبّ والحقودِ، المتأمِّل الحالمِ والواقعيِّ العمليِّ.
شعرتُ بدغدة رقيقة في أسفل القدم وكأنَّ أجنحة فراشةٍ رفّت قربها، ومرَّة ثانيةً قرأتْ ما دار في ذهني ورأتْ ثياب الدهشة التي تلبسني، فقالت: "سأيسِّر الأمر عليك، وأزيلُ ما اعتراك من ريبة؛ ما الذي تريدني أن أسردَهُ لك؟ خطواتك الأولى البعيدة في رويسة كلبو؟ أم تريدني أن أحدِّثكَ عنك قبل قليل؟ وأنت تسيرُ بخطا راقصةٍ سريعةٍ واسعةٍ ، يقودك أمل لا حدَّ له وسعادة منتظرة، حتى إذا غبتَ قليلا وعلمتَ أنَّ الزمن خانك، وأنَّ طيورَ حلمكَ طارتْ من دون أن تصافحها عيناك وتصلِّي لها روحُكَ, فغادرتَ بخطواتِ الخائبِ المتردِّدة القصيرة المتعثرة، المترنِّحة، وقد أثقل كاهلك حزنٌ يكادُ يطبقُ على قلبك وروحك، مثل النائم كانتْ تجرُّك خطاك، ومثل النائم أيضاً كنت تسير خبط عشواء، فأشفقت عليك وقرَّرتُ إيقاظك."
شعرتُ بجفافٍ شديد في حلقي وتصلَّبت حبالي الصوتيَّة فأخرجت آهاً عميقة؛ وخشيت أن تعود إلى الزمان الأكثر قدما فتفتحَ صفحاتٍ أجهدتُ نفسي كثيراً كي أطويها. فكَّرتُ، وفكَّرتُ في الإنسان الذي يظنُّ أنَّه يحتكر العقل والوعي والمشاعروالعلم، يدوس كلَّ شيء بلا شفقة، ويحتقرُ الآخرَ فيخفي بقبحه جمال الكون؛ يذبح عنقَ الوردة ويخنق غناء البلابل.
من أين لي أن أعثر على كل ما قاله أبو العلاء المعرِّي لأنَّ عيونه كانت قادرة على رؤية خيوط منتجات التكنوخطواتيَّة الفائقة الدقَّة، أظنُّ أنه خبَّأ في أشعاره الكثير الكثير.
ترى هل صحيح ما ألمحت إليه الطريق من أن كلَّ خليَّة في الإنسان يمكن أن كتاب تاريخ وسيرة ذاتيَّة لصاحبها.
لست أدري أطويلٌ حبلُ الأسئلة هذا أمْ يطولُ!!؟؟ صرت أخشى أن يلتفَّ حول عنقي, وصار عليَّ أن أتقن حتَّى لغة الحجر. ومن البعيد البعيد سمعت ألف طريق تنادي:
ربَّاه، متى سيصيرُ إلهاً صغيراً ؟؟!!