فيلم ابو كالبتو وسقوط الحضارة
Apocalypto
رحمن خضير عباس
"لا يمكن احتلال حضارة عظيمة من قِبَلِ قوة خارجية،إذا لم تدمر نفسها من الداخل "
افتتح المخرج الكبير ميل جيبسون فيلمه عام ٢٠٠٦ بهذه العبارة للمفكر الأمريكي وليم ديورانت ، صاحب كتاب قصة الحضارة ، كانت هذه الجملة مفتاحا لإدراك مغزى الفيلم ، ولعل غرابة التسمية(ابوكالبتو) والتي تعني باللغة اليونانية التنبؤ بالنهاية ، تجعلنا ننغمر مع الفيلم لتشخيص علل الانهيار ،فالفيلم لا يتناول العنف ،مع أنه بلغ غايته منه ، ولا الرعب الذي وصل أوج مدَياته ، ولا التشويق الذي جعل المشاهدين يلتقطون أنفاسهم، وهم يتابعون مطاردة الموت والحياة التي استهلكت الجزء الأكبر من الفيلم ، إنه أبعد من ذلك فهو يضع التاريخ على سرير التشخيص ، والتقط من جسده المُسَجّى ، كي يستنطقها ، ليصل إلى بعض الخلاصات ومنها؛ إنّ الأمم العظيمة ستَضْمَحِلّ وتتلاشى ،إذا طغت وتفرعنت وافتقرت إلى العدل.
لذلك فقد استخدم الفيلم اللغة المايانية المنقرضة ، كي يُصبح أكثر انسجاما مع روح المرحلة الزمنية التي يتحدث عنها، وهي نهاية القرن الخامس عشر. حيث حضارة المايا التي ضعفت وتلاشت ، بعد أن كانت مزدهرة منذ ألفين قبل الميلاد، لأنها آلت في حكمها إلى ملوك وكهنة فاسدين ، في توافق بين زعامات دينية ودنيوية ، تزعم أن حكمها ينطلق من الآلهة ،لذا فقد انشغلوا ببناء المعابد ، وتقديم الدم إلى الآلهة عن طريق الفتك بالفقراء والأطفال والأسرى من الأعداء، ورمي جماجمهم النازفة على امتداد سلالم المعابد ، كي تتعمد بالدم ، فتستجيب السماء لهم بهطول المطر، بعد أن أصابهم الجفاف لسنوات طويلة.
وتبدأ اللقطات الأولى من الفيلم لحياة قبيلة بدائية، تعيش بين الغابات الكثيفة والأحراش ، حيث الطبيعة والأنسان متجانسان في توازن ايكولوجي دقيق ، فتظهر قدرة الطبيعة على العطاء ، والتي توفر لهم نوعا من الوئام، بينهم وبين القبائل المتجاورة.
ولأن ممالك المايا تبحث عن ضحايا وأسرى ، فإنها تبعث بمقاتليها بين فترة وأخرى ، وهم مجموعة من المجرمين الذين لا يعرفون الرحمة ، لجلب أبناء الغابات كأسرى، لتقديمهم كقرابين إلى الآلهة أو عبيد للبناء والسخرة ،وبينما كانت القرية التي عرفنا منها الشاب ( جاكوار بو) وزوجته الحامل وبقية شرائح مجتمع القرية ، وأظهر لنا الفيلم طبيعة الحياة لهذه القرية. ولكن وصول فرقة المحاربين ،غيّر سعادتهم إلى شقاء ، فقد قام محاربو المايا بحرق بيوت القرية ، والقبض على رجالها ونسائها بعد معارك كانت في صالح الغزاة ، ولكن بطل الفيلم الشاب، أخفى زوجته الحامل وابنه الصغير في كهف تحت الأرض.
انتهت المعركة بعد قتال عنيف، وقد كُبّل أسرى القرية بالحديد، وشُدت أجسادهم بقوة بأعمدة من جذوع الشجر، التي أثقلت كاهلهم ، ومشت قافلة الغزاة في طرق وعرة، وهم يقودون الأسرى من نساء القبيلة ورجالها ، تاركين الأطفال لمصيرالفناء جوعا .
وبعد رحلة عذاب مرهقة ، يصل موكب الأسرى إلى مدن المايا، في رحلة مرهقة ، حيث يتراءى لهم جفاف المزارع ، والعبيد الذين ينوءون بالعمل في ظروف قاهرة ، وفي نهاية الرحلة يصلون إلى مدينة المايا ، التي تستقبلهم بالفرح وكأنهم صيد ثمين ، وتبدأ عملية بيع النساء في سوق النخاسة ،أما الرجال فيسوقونهم إلى مذبح الهرم لتقديمهم كقرابين ،بعد أن طُليت أجسادُهم باللون الأزرق ،حيث تتم مراسيم التضحية، وذلك بوضع الأسير مسجى على منصّة حجرية، ويأتي الكاهن الذي يرطن بكلمات وعبارات الابتهال ، ثم يغرز سكينا في صدر الأسير، لإخراج قلبه ورفعه إلى السماء ،وبعد ذلك يُقطع راس الضحية بالفاس لتتدحرج عبر السلالم الحجرية، وسط هياج هستيري للجماهير التي تتمتع بهذه المشاهد المرعبة . وحينما يصل الدور إلى الشاب( جاگوار باو) يحدث كسوف للشمس ، فيصاب الجميع بالذهول، ويعلن الكاهن بأن إشارة السماء تُنبئ عن الاكتفاء بالقرابين. ولكن هؤلاء الأسرى لا يتخلصون من الموت، حيث يقودونهم إلى ساحة الموت،للتخلص منهم ، ويقولون لهم: إنكم أحرار بشرط أن تنجوا من سهامنا ورماحنا ، وما أن أطلقوهم، حتى تخاطفتهم الرماح ففتكت بهم. ولكنّ جاگواربو استطاع أن ينجو بعد أن جُرح برمح ،واستطاع أن يقتل ابن زعيم المقاتلين. مما جعلهم يصرون على مطاردته للقبض عليه وسلخ جلده كما توّعده زعيمهم ، وحينما يجد نفسه في النهر وأمامه شلالات سحيقة الهاوية، لم يتردد بالقفز إلى الهاوية. وبعد أن رأوه قد نجا ، رموا أنفسهم خلفه في مطاردة عنيفة. استطاع أن يتخلص من مطارديه واحدا تلو آخر. حتى بقي اثنان منهم ً، وحينما وصل قريبا من قريته ، تساقطت أمطار غزيرة ،حتى غمرت الكهف الذي تختبئ الزوجة والطفل ، وقد تمخضت في تلك اللحظة لتلد طفلا ،وهي في حالة بين الموت والحياة. ولكن جاگوار بو يرى منظرا غريبا غير مألوف ،أذهل المقاتلين اللذين يطاردانه أيضاً ، فقد رأوا سفنا غريبة ، ورجالا بيض البشرة، فتجمدوا من الدهشة والذهول. ولكنّ الشاب المُطارَد يتذكر زوجته، فيهرع إلى الكهف الذي طفح بماء المطر ، فينقذها وطفليها ،وهم في الرمق الأخير.
كان للتكثيف البصري سطوته، في زوايا الصورة المتتابعة والمتّصلة ببعضها البعض، حتى تجعل المُشاهدَ مشدودا إليها منذ الدقائق الأولى للفيلم. ومنذ البداية كان إيقاع الفيلم متسارعا ، في مشهد صيد الخنزير البري ، وما يحتاج إلى قوة ومهارة ، وبعد ذلك تتجول الكاميرا في ملامح الغابويين ، لتكشف بعض جوانب تكوينهم البدني والنفسي ، وعلاقات الذكور بالأناث الذي يتمحور عن فكرة الإنجاب الغريزي، ولم ينس المخرج أن يمنح للمشهد بعض ملامحه البشرية، التي تمثلت بحس الدعابة من خلال تقديم الزعيم وصفة الفحولة ، ولكنّ رجل القبيلة يكتشف أن هذا الدواء يتكون من الفلفل الحار الذي يحرق عضوه التناسلي ، فيصرخ وسط ضحكات بقية الرجال والنساء.
يتدفق الفيلم بالعطاء البصري ، وهو يمنحنا شيئا من سطوة البيئة وقسوة الإنسان ، من خلال المعارك ، وعذابات الأسر ، ووجوه الأطفال الذين تركوا بدون امهاتهم أو أبائهم ، ليموتوا ببطء ،ومنها مشهد الطفلة التي لا تملك سوى نبوءتها/ أمنيتها ،بأن يموت الذي سبب عذابها، ثم المَشاهد المتلاحقة عن العبيد الذين يقومون ببناء القصور والأهرام ، وهزال أجسامهم ، وتعبيرات رعب الجوع والإرهاق واليأس الذي يكسو ملامحهم ، ورغم بشاعة القتل من خلال إخراج القلب ، وقطع رأس الضحية ، ولكنه حاول أن يضعها في زاوية بعيدة عن بؤرة الصورة ،لأن الغاية ليست بث الرعب والإيغال بالعنف ، بل كشفه من أجل رفضه وإدانة وحشيته ، أما في المطاردة، فقد كانت اللقطات البصرية تتناثر في جمالية الحركة ، وقوتها ، حتى تشعر وكأن فنتازية( فيلم أفاتار) قد تجسدت في هذه الغابة من خلال لون الجسد المصبوغ ، ومايحيط به ، ولم تكن المطاردة مستهلكة، كما هي في أفلام ( الأكشن)، بل استطاع المخرج تطعيمها بمفاجئات البيئة الغابوية التي انحازت لابنها جاگوار باو ، من خلال الأفعى التي لدغت أحد المقاتلين ، والفهد الذي افترس مقاتلا آخر ، والموائمة بين معطيات البيئة التي انتصرت لابنها، من خلال معرفته الدقيقة بخفاياها ؛ كاستخدام سموم الضفدع ، ونصب الكمائن للمطاردين.
كما استطاع الفيلم أن يمنح المشاهدين ، هذا الكم الهائل من الواقعية السحرية ، رغم بشاعتها ورعبها من خلال الأجساد البشرية المتفسخة في المستنقعات ، والتي كان بطل الفيلم يجتازها وهو بصدد البحث عن الحياة. ولعل أجمل اللقطات التي أبدعها الفيلم ، والتي تمثلت في لحظات المخاض زوجة جاگوار باو وهي تصارع الماء في داخل الكف ، وكيف انطلق وليدها من رحمها إلى الماء لينغمر فيه ، ويكون امتدادا لقسوة الطبيعة ورحمتها في آن واحد.
ورغم أن فيلم ابوكاليبتو يدور حول بوادر سقوط حضارة المايا التي أَثْرت العالمَ بعلومها وتقدمها ، ولكنّها سقطت بفعل عوامل التصدع الداخلي في بنيتها القائمة على فكرة الاضطهاد والتضحية ، مما سهّل مهمة الغزاة البيض للسيطرة على تلك الأصقاع.
Apocalypto
رحمن خضير عباس
"لا يمكن احتلال حضارة عظيمة من قِبَلِ قوة خارجية،إذا لم تدمر نفسها من الداخل "
افتتح المخرج الكبير ميل جيبسون فيلمه عام ٢٠٠٦ بهذه العبارة للمفكر الأمريكي وليم ديورانت ، صاحب كتاب قصة الحضارة ، كانت هذه الجملة مفتاحا لإدراك مغزى الفيلم ، ولعل غرابة التسمية(ابوكالبتو) والتي تعني باللغة اليونانية التنبؤ بالنهاية ، تجعلنا ننغمر مع الفيلم لتشخيص علل الانهيار ،فالفيلم لا يتناول العنف ،مع أنه بلغ غايته منه ، ولا الرعب الذي وصل أوج مدَياته ، ولا التشويق الذي جعل المشاهدين يلتقطون أنفاسهم، وهم يتابعون مطاردة الموت والحياة التي استهلكت الجزء الأكبر من الفيلم ، إنه أبعد من ذلك فهو يضع التاريخ على سرير التشخيص ، والتقط من جسده المُسَجّى ، كي يستنطقها ، ليصل إلى بعض الخلاصات ومنها؛ إنّ الأمم العظيمة ستَضْمَحِلّ وتتلاشى ،إذا طغت وتفرعنت وافتقرت إلى العدل.
لذلك فقد استخدم الفيلم اللغة المايانية المنقرضة ، كي يُصبح أكثر انسجاما مع روح المرحلة الزمنية التي يتحدث عنها، وهي نهاية القرن الخامس عشر. حيث حضارة المايا التي ضعفت وتلاشت ، بعد أن كانت مزدهرة منذ ألفين قبل الميلاد، لأنها آلت في حكمها إلى ملوك وكهنة فاسدين ، في توافق بين زعامات دينية ودنيوية ، تزعم أن حكمها ينطلق من الآلهة ،لذا فقد انشغلوا ببناء المعابد ، وتقديم الدم إلى الآلهة عن طريق الفتك بالفقراء والأطفال والأسرى من الأعداء، ورمي جماجمهم النازفة على امتداد سلالم المعابد ، كي تتعمد بالدم ، فتستجيب السماء لهم بهطول المطر، بعد أن أصابهم الجفاف لسنوات طويلة.
وتبدأ اللقطات الأولى من الفيلم لحياة قبيلة بدائية، تعيش بين الغابات الكثيفة والأحراش ، حيث الطبيعة والأنسان متجانسان في توازن ايكولوجي دقيق ، فتظهر قدرة الطبيعة على العطاء ، والتي توفر لهم نوعا من الوئام، بينهم وبين القبائل المتجاورة.
ولأن ممالك المايا تبحث عن ضحايا وأسرى ، فإنها تبعث بمقاتليها بين فترة وأخرى ، وهم مجموعة من المجرمين الذين لا يعرفون الرحمة ، لجلب أبناء الغابات كأسرى، لتقديمهم كقرابين إلى الآلهة أو عبيد للبناء والسخرة ،وبينما كانت القرية التي عرفنا منها الشاب ( جاكوار بو) وزوجته الحامل وبقية شرائح مجتمع القرية ، وأظهر لنا الفيلم طبيعة الحياة لهذه القرية. ولكن وصول فرقة المحاربين ،غيّر سعادتهم إلى شقاء ، فقد قام محاربو المايا بحرق بيوت القرية ، والقبض على رجالها ونسائها بعد معارك كانت في صالح الغزاة ، ولكن بطل الفيلم الشاب، أخفى زوجته الحامل وابنه الصغير في كهف تحت الأرض.
انتهت المعركة بعد قتال عنيف، وقد كُبّل أسرى القرية بالحديد، وشُدت أجسادهم بقوة بأعمدة من جذوع الشجر، التي أثقلت كاهلهم ، ومشت قافلة الغزاة في طرق وعرة، وهم يقودون الأسرى من نساء القبيلة ورجالها ، تاركين الأطفال لمصيرالفناء جوعا .
وبعد رحلة عذاب مرهقة ، يصل موكب الأسرى إلى مدن المايا، في رحلة مرهقة ، حيث يتراءى لهم جفاف المزارع ، والعبيد الذين ينوءون بالعمل في ظروف قاهرة ، وفي نهاية الرحلة يصلون إلى مدينة المايا ، التي تستقبلهم بالفرح وكأنهم صيد ثمين ، وتبدأ عملية بيع النساء في سوق النخاسة ،أما الرجال فيسوقونهم إلى مذبح الهرم لتقديمهم كقرابين ،بعد أن طُليت أجسادُهم باللون الأزرق ،حيث تتم مراسيم التضحية، وذلك بوضع الأسير مسجى على منصّة حجرية، ويأتي الكاهن الذي يرطن بكلمات وعبارات الابتهال ، ثم يغرز سكينا في صدر الأسير، لإخراج قلبه ورفعه إلى السماء ،وبعد ذلك يُقطع راس الضحية بالفاس لتتدحرج عبر السلالم الحجرية، وسط هياج هستيري للجماهير التي تتمتع بهذه المشاهد المرعبة . وحينما يصل الدور إلى الشاب( جاگوار باو) يحدث كسوف للشمس ، فيصاب الجميع بالذهول، ويعلن الكاهن بأن إشارة السماء تُنبئ عن الاكتفاء بالقرابين. ولكن هؤلاء الأسرى لا يتخلصون من الموت، حيث يقودونهم إلى ساحة الموت،للتخلص منهم ، ويقولون لهم: إنكم أحرار بشرط أن تنجوا من سهامنا ورماحنا ، وما أن أطلقوهم، حتى تخاطفتهم الرماح ففتكت بهم. ولكنّ جاگواربو استطاع أن ينجو بعد أن جُرح برمح ،واستطاع أن يقتل ابن زعيم المقاتلين. مما جعلهم يصرون على مطاردته للقبض عليه وسلخ جلده كما توّعده زعيمهم ، وحينما يجد نفسه في النهر وأمامه شلالات سحيقة الهاوية، لم يتردد بالقفز إلى الهاوية. وبعد أن رأوه قد نجا ، رموا أنفسهم خلفه في مطاردة عنيفة. استطاع أن يتخلص من مطارديه واحدا تلو آخر. حتى بقي اثنان منهم ً، وحينما وصل قريبا من قريته ، تساقطت أمطار غزيرة ،حتى غمرت الكهف الذي تختبئ الزوجة والطفل ، وقد تمخضت في تلك اللحظة لتلد طفلا ،وهي في حالة بين الموت والحياة. ولكن جاگوار بو يرى منظرا غريبا غير مألوف ،أذهل المقاتلين اللذين يطاردانه أيضاً ، فقد رأوا سفنا غريبة ، ورجالا بيض البشرة، فتجمدوا من الدهشة والذهول. ولكنّ الشاب المُطارَد يتذكر زوجته، فيهرع إلى الكهف الذي طفح بماء المطر ، فينقذها وطفليها ،وهم في الرمق الأخير.
كان للتكثيف البصري سطوته، في زوايا الصورة المتتابعة والمتّصلة ببعضها البعض، حتى تجعل المُشاهدَ مشدودا إليها منذ الدقائق الأولى للفيلم. ومنذ البداية كان إيقاع الفيلم متسارعا ، في مشهد صيد الخنزير البري ، وما يحتاج إلى قوة ومهارة ، وبعد ذلك تتجول الكاميرا في ملامح الغابويين ، لتكشف بعض جوانب تكوينهم البدني والنفسي ، وعلاقات الذكور بالأناث الذي يتمحور عن فكرة الإنجاب الغريزي، ولم ينس المخرج أن يمنح للمشهد بعض ملامحه البشرية، التي تمثلت بحس الدعابة من خلال تقديم الزعيم وصفة الفحولة ، ولكنّ رجل القبيلة يكتشف أن هذا الدواء يتكون من الفلفل الحار الذي يحرق عضوه التناسلي ، فيصرخ وسط ضحكات بقية الرجال والنساء.
يتدفق الفيلم بالعطاء البصري ، وهو يمنحنا شيئا من سطوة البيئة وقسوة الإنسان ، من خلال المعارك ، وعذابات الأسر ، ووجوه الأطفال الذين تركوا بدون امهاتهم أو أبائهم ، ليموتوا ببطء ،ومنها مشهد الطفلة التي لا تملك سوى نبوءتها/ أمنيتها ،بأن يموت الذي سبب عذابها، ثم المَشاهد المتلاحقة عن العبيد الذين يقومون ببناء القصور والأهرام ، وهزال أجسامهم ، وتعبيرات رعب الجوع والإرهاق واليأس الذي يكسو ملامحهم ، ورغم بشاعة القتل من خلال إخراج القلب ، وقطع رأس الضحية ، ولكنه حاول أن يضعها في زاوية بعيدة عن بؤرة الصورة ،لأن الغاية ليست بث الرعب والإيغال بالعنف ، بل كشفه من أجل رفضه وإدانة وحشيته ، أما في المطاردة، فقد كانت اللقطات البصرية تتناثر في جمالية الحركة ، وقوتها ، حتى تشعر وكأن فنتازية( فيلم أفاتار) قد تجسدت في هذه الغابة من خلال لون الجسد المصبوغ ، ومايحيط به ، ولم تكن المطاردة مستهلكة، كما هي في أفلام ( الأكشن)، بل استطاع المخرج تطعيمها بمفاجئات البيئة الغابوية التي انحازت لابنها جاگوار باو ، من خلال الأفعى التي لدغت أحد المقاتلين ، والفهد الذي افترس مقاتلا آخر ، والموائمة بين معطيات البيئة التي انتصرت لابنها، من خلال معرفته الدقيقة بخفاياها ؛ كاستخدام سموم الضفدع ، ونصب الكمائن للمطاردين.
كما استطاع الفيلم أن يمنح المشاهدين ، هذا الكم الهائل من الواقعية السحرية ، رغم بشاعتها ورعبها من خلال الأجساد البشرية المتفسخة في المستنقعات ، والتي كان بطل الفيلم يجتازها وهو بصدد البحث عن الحياة. ولعل أجمل اللقطات التي أبدعها الفيلم ، والتي تمثلت في لحظات المخاض زوجة جاگوار باو وهي تصارع الماء في داخل الكف ، وكيف انطلق وليدها من رحمها إلى الماء لينغمر فيه ، ويكون امتدادا لقسوة الطبيعة ورحمتها في آن واحد.
ورغم أن فيلم ابوكاليبتو يدور حول بوادر سقوط حضارة المايا التي أَثْرت العالمَ بعلومها وتقدمها ، ولكنّها سقطت بفعل عوامل التصدع الداخلي في بنيتها القائمة على فكرة الاضطهاد والتضحية ، مما سهّل مهمة الغزاة البيض للسيطرة على تلك الأصقاع.