مسارات النظر النقدي الغربي ومناشئ السرد الشرقية
نُشر: 16:19-27 مارس 2024 م ـ 17 رَمضان 1445 هـ
TT
«كيف يمكن لكتابة سردية لم يمض على التجريب في قالبها سوى وقت قصير، وتصير فجأة جنساً مستقلاً له أصول خاصة وقواعد محددة؟!»، بهذا التساؤل يفتتح كتاب «الأقلمة السردية مخابرها الغربية - مناشئها الشرقية» للباحثة نادية هناوي، الصادر حديثاً عن «مؤسسة أبجد للترجمة والنشر». ويستكمل الكتاب حلقات مشروع هناوي في الأقلمة الذي بدأته بكتاب «أقلمة المرويات التراثية»، ثم «الأقلمة السردية من العصور الوسطى حتى القرن التاسع عشر».
وجهت المؤلفة مسعاها في كتابها الجديد نحو تتبع ما أنتجته مخابر الدرس السردي العالمية من فكر نقدي، والهدف هو الإفادة منه في الكشف والاستدلال على ما في السرد القديم من نظام، وما في هذا النظام من تقاليد. وترى المؤلفة أن تتبع هذه التقاليد هو الطريق لفهم الكيفيات التي بها تمت أقلمة تلك التقاليد في السرد الأوروبي بعد أن تغلغلت فيه، وما طرأ عليها من تحوّل بعد ظهور جنس الرواية، ثم ما قام به منظرو السرد الروائي من تفسيرات، وما قدموه من مفاهيم، بها وجّهوا هذا التجنيس توجيهاً نقدياً خاصاً، بدءاً من مطلع القرن العشرين وانتهاءً عند العقدين الأولين من هذا القرن. وهم يتوزعون بين ثلاث فئات: فئة منظري الرواية وفئة منظري السردية وفئة منظري علم السرد.
وتطرح المؤلفة في كتابها الذي يقع في بابين يضمان سبعة فصول، إشكالية عدم إقرار النقاد الغربيين بوجود تقاليد سردية راسخة وسابقة بزمن بعيد، بل عندهم أن الروائي الأوروبي جرب في الفراغ أموراً لم يسبقه السابقون إليها. وهو ما ترفضه قوانين الإبداع ونظرية المحاكاة، فالسرد نشاط ذو حلقات موصولة لا انقطاع فيها، وما مارسه الإنسان في الماضي الغابر يمكن له أن يستعيده في الواقع الحاضر.
ومما تناقشه د. هناوي في الباب الأول من الكتاب توصلات مخابر الأقلمة السردية في الغرب، فترى أن علم السرد البنيوي قصر في موضوعاته ومناهج أبحاثه، وصار هدفاً لمشروع سردي جديد، معه توسعت النظرية السردية. واتجهت إلى التعامل مع تخصصات أخرى والتداخل معها، الأمر الذي سمح بتطوير منظورات المدرسة الأنجلوأميركية، بدءاً من عام 1998 وفيه نشأ علم سردي جديد يختلف من ناحية التعدد والتوازي والتداخل عن سابقه.
ومن المفكرين الذين تناولتهم المؤلفة بالدراسة الأميركي ديفيد هيرمان الذي رسم خريطة سردية تكشف عن الفارق بين تطوير الشكلانيين وتطوير النقاد الجدد. فما من منهج تفسيري أو مدرسي في السرد، وإنما هي حقول ذات صلات تتطور وتتداخل. ولقد جُمعت تلك الاشتغالات والاهتمامات في موسوعة هي الأولى من نوعها في نظرية السرد، أطلق عليها «موسوعة روتلدج».
وتشير د. هناوي إلى أن مسارات النظر النقدي الغربي في سعيها إلى تطوير آفاقها تشهد نزوعاً قوياً وواضحاً باتجاه تعميق الفكر النظري، فمناهج النقد الأدبي التي يمتد تاريخها إلى أكثر من قرن تظل بحاجة إلى الابتكار والتجريب في الأبنية الأدبية بوجه عام، والأبنية السردية بوجه خاص ومختلف.
ويؤشر الكتاب في بابه الثاني مناشئ السرد الشرقية ودور اللاواقعية في بناء النظام السردي القديم. ومن الإشكاليات التي يناقشها: أصول السرد من أين أتت؟ وما طبيعتها؟ وهل تكون الواقعية هي أصل السرد؟ وما علاقتها باللاواقعية؟ وكيف أن الحكاء في العصور الغابرة قد أدرك ذلك بحدسه الفطري، على أساس أن العالم غريب وغير مفهوم، والمنطق الوحيد لفهمه هو أسطرته وتخريفه.
ومما تراه المؤلفة أن السرد الأوروبي سار على اللاواقعية، ثم أضاف إليها خطاً واقعياً متسقاً معها، وهو ما عرفته أعمال القصاصين الأوروبيين في الحقبة الكلاسيكية، وجرب بعضهم البناء الواقعي على قاعدة اللاواقعية، الأمر الذي ساعد في الاهتداء إلى أجناسية الرواية، لكن النهج الواقعي أخذ يزداد مقابل خفوت النهج غير الواقعي، فصارت الواقعية هي الأساس في تمثيل الواقع الموضوعي كتجارب إنسانية معيشة وتصورات جمالية عميقة أو متواضعة العمق. وغدت الواقعية هي النظام، والنظام هو الواقعية، وأن أكثر الروايات واقعية هي أكثرها استقراراً في نظامها، بيد أن الرواية في مرحلتها ما بعد الحداثية خلخلت هذا الاستقرار فاستعادت اللاواقعية.
- بغداد: «الشرق الأوسط»
نُشر: 16:19-27 مارس 2024 م ـ 17 رَمضان 1445 هـ
TT
«كيف يمكن لكتابة سردية لم يمض على التجريب في قالبها سوى وقت قصير، وتصير فجأة جنساً مستقلاً له أصول خاصة وقواعد محددة؟!»، بهذا التساؤل يفتتح كتاب «الأقلمة السردية مخابرها الغربية - مناشئها الشرقية» للباحثة نادية هناوي، الصادر حديثاً عن «مؤسسة أبجد للترجمة والنشر». ويستكمل الكتاب حلقات مشروع هناوي في الأقلمة الذي بدأته بكتاب «أقلمة المرويات التراثية»، ثم «الأقلمة السردية من العصور الوسطى حتى القرن التاسع عشر».
وجهت المؤلفة مسعاها في كتابها الجديد نحو تتبع ما أنتجته مخابر الدرس السردي العالمية من فكر نقدي، والهدف هو الإفادة منه في الكشف والاستدلال على ما في السرد القديم من نظام، وما في هذا النظام من تقاليد. وترى المؤلفة أن تتبع هذه التقاليد هو الطريق لفهم الكيفيات التي بها تمت أقلمة تلك التقاليد في السرد الأوروبي بعد أن تغلغلت فيه، وما طرأ عليها من تحوّل بعد ظهور جنس الرواية، ثم ما قام به منظرو السرد الروائي من تفسيرات، وما قدموه من مفاهيم، بها وجّهوا هذا التجنيس توجيهاً نقدياً خاصاً، بدءاً من مطلع القرن العشرين وانتهاءً عند العقدين الأولين من هذا القرن. وهم يتوزعون بين ثلاث فئات: فئة منظري الرواية وفئة منظري السردية وفئة منظري علم السرد.
وتطرح المؤلفة في كتابها الذي يقع في بابين يضمان سبعة فصول، إشكالية عدم إقرار النقاد الغربيين بوجود تقاليد سردية راسخة وسابقة بزمن بعيد، بل عندهم أن الروائي الأوروبي جرب في الفراغ أموراً لم يسبقه السابقون إليها. وهو ما ترفضه قوانين الإبداع ونظرية المحاكاة، فالسرد نشاط ذو حلقات موصولة لا انقطاع فيها، وما مارسه الإنسان في الماضي الغابر يمكن له أن يستعيده في الواقع الحاضر.
ومما تناقشه د. هناوي في الباب الأول من الكتاب توصلات مخابر الأقلمة السردية في الغرب، فترى أن علم السرد البنيوي قصر في موضوعاته ومناهج أبحاثه، وصار هدفاً لمشروع سردي جديد، معه توسعت النظرية السردية. واتجهت إلى التعامل مع تخصصات أخرى والتداخل معها، الأمر الذي سمح بتطوير منظورات المدرسة الأنجلوأميركية، بدءاً من عام 1998 وفيه نشأ علم سردي جديد يختلف من ناحية التعدد والتوازي والتداخل عن سابقه.
ومن المفكرين الذين تناولتهم المؤلفة بالدراسة الأميركي ديفيد هيرمان الذي رسم خريطة سردية تكشف عن الفارق بين تطوير الشكلانيين وتطوير النقاد الجدد. فما من منهج تفسيري أو مدرسي في السرد، وإنما هي حقول ذات صلات تتطور وتتداخل. ولقد جُمعت تلك الاشتغالات والاهتمامات في موسوعة هي الأولى من نوعها في نظرية السرد، أطلق عليها «موسوعة روتلدج».
وتشير د. هناوي إلى أن مسارات النظر النقدي الغربي في سعيها إلى تطوير آفاقها تشهد نزوعاً قوياً وواضحاً باتجاه تعميق الفكر النظري، فمناهج النقد الأدبي التي يمتد تاريخها إلى أكثر من قرن تظل بحاجة إلى الابتكار والتجريب في الأبنية الأدبية بوجه عام، والأبنية السردية بوجه خاص ومختلف.
ويؤشر الكتاب في بابه الثاني مناشئ السرد الشرقية ودور اللاواقعية في بناء النظام السردي القديم. ومن الإشكاليات التي يناقشها: أصول السرد من أين أتت؟ وما طبيعتها؟ وهل تكون الواقعية هي أصل السرد؟ وما علاقتها باللاواقعية؟ وكيف أن الحكاء في العصور الغابرة قد أدرك ذلك بحدسه الفطري، على أساس أن العالم غريب وغير مفهوم، والمنطق الوحيد لفهمه هو أسطرته وتخريفه.
ومما تراه المؤلفة أن السرد الأوروبي سار على اللاواقعية، ثم أضاف إليها خطاً واقعياً متسقاً معها، وهو ما عرفته أعمال القصاصين الأوروبيين في الحقبة الكلاسيكية، وجرب بعضهم البناء الواقعي على قاعدة اللاواقعية، الأمر الذي ساعد في الاهتداء إلى أجناسية الرواية، لكن النهج الواقعي أخذ يزداد مقابل خفوت النهج غير الواقعي، فصارت الواقعية هي الأساس في تمثيل الواقع الموضوعي كتجارب إنسانية معيشة وتصورات جمالية عميقة أو متواضعة العمق. وغدت الواقعية هي النظام، والنظام هو الواقعية، وأن أكثر الروايات واقعية هي أكثرها استقراراً في نظامها، بيد أن الرواية في مرحلتها ما بعد الحداثية خلخلت هذا الاستقرار فاستعادت اللاواقعية.