محمد الماغوطهل طردت جوائز الشعر «العمودي» شعراء النثر؟
من الصعب القول بأن قصيدة النثر هي قصيدة المستقبل
آخر تحديث: 17:22-24 مارس 2024 م ـ 14 رَمضان 1445 هـ
نُشر: 17:20-24 مارس 2024 م ـ 14 رَمضان 1445 هـ
يُثير حديث العودة إلى قصيدة النثر أسئلةً عن رهاب الهيمنة الشعرية، وعن مشاكلتها مع التاريخ والسياق، ومع مفاهيم «الفحولة» و«العمود»، فهل يكون هذا الحديث محاولةً لإعادة الثقة بـ«ناثري الشعر»؟ وهل الاكتفاء بجوائز الشعر «العمودي» جعل شعراء النثر مطرودين، وخارج لعبة الضوء والتنافس؟
هذه الأسئلة تبدو مفارقة، وفاجعة أحياناً، ليس لأن «قصيدة النثر» تجاوزت ما هو أجناسي، لتحضر بوصفها شكلاً وأداءً في الممارسة الشعرية، لها شعراء رواد، و«أبطال» جعلوا منها حافزاً على إعادة قراءة التاريخ الشعري، واستغوار مساحاته التي يمكن أن تتسع للمغامرين.
ما بين هذا وذاك، تحضر أسماء وظواهر بعينها، لتجعل السؤال الشعري قابلاً للجدل والمشاكلة، لا سيما في الحديث عن أسماء مثل أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط، وظواهر مثل مجلة «شعر» ومجلة «مواقف».
«هو بيننا الأنقى» عبارة أطلقها الشاعر أدونيس على أنسي الحاج، حملت معها اعترافاً ضمنياً بجدّة «قصيدة النثر»، فجعل من النقاء الوجودي قريناً لـ«النقاء الشعري»، وربط ذلك بالشغف العميق بحيوية نظرته للتجديد والمغايرة، إذ يردف ذلك التوصيف بالمراجعة عبر قوله: «كلنا ملوثين بالتقليد، فمعك، يا أنسي، يزداد استمساكنا بحبل الرؤيا، يتّسع أسلوبنا في التعبير عنها، وينمو ويُغنى، يصبح لنا نوع آخر من الشعر، ومن النثر أيضاً».
إنسي الحاج
هذا القول، يضعنا إزاء حساسية أدونيس لقصيدة أنسي الحاج ولخصوصيته في كتابة قصيدة النثر، وعلاقة هذه القصيدة بالتجديد، بوصفه رهاناً على الحلم بالتطهير الشعري، وعلاقة هذا التطهير بفاعلية الوعي بالتجديد، وبالنزوع إلى جعل التمرد على التاريخ وعياً بالتغيير، وباتجاه إخراج الكتابة الشعرية من «تابوات الممنوع»، إذ يكون الشعر هو جوهر «الهوية العميقة» مثلما هو شفرتها في التعاطي مع مفاهيم الجدّة والحداثة، التي تعني - بالضرورة - مساءلة مركزيات «تاريخ الشعر»، ومقاربة مداولاته النقدية/ المفاهيمية، وصولاً إلى التعرّف على لحظات المفارقة الصادمة بين التاريخ والمغامرة، بوصفها تمثيلاً لثنائية «المطابقة والاختلاف»، فبقدر ما تاريخ الشعر حافلٌ بقوة المركزية ومطابقتها، فإنه حافل بمغامرين حالمين بالاختلاف مثل أبي نواس وأبي تمام، وصولاً إلى ما حفلت به القصيدة الأندلسية، وأحسب أن الحديث عن مجلة «شعر» اللبنانية يدخل في سياق تلك المفارقة، وفي التبشير بـ«مشروع القصيدة الجديدة»، كما أشار لذلك الشاعر يوسف الخال في افتتاحية العدد الأول من المجلة، إذ ارتهن هذا المشروع بطبيعة القلق الذي كان يعتور المسار الشعري، وبجرأة الأسئلة الفارقة التي أثارها شعراء الريادة في العراق؛ السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي.
لا يمكن قراءة مشروع القصيدة الجديدة، إلّا في سياق نزوعها لمفارقة تاريخ المركزة الشعرية، والخروج من النظام الصارم إلى حساسية العالم، حيث تكون هذه القصيدة «وعياً جديداً للعالم»، وسؤالاً وجودياً محفوفاً بالقلق والتململ، واستكناه أشكال كتابية تتمثّل هاجس المغايرة.
أدونيس
هذا المعطى التجديدي ليس بعيداً عن المتغيرات السياسية العالمية، ولا عما حدث في الواقع العربي ما بعد الحرب العالمية الثانية من تحولات، جعلت من مجلة «شعر» وكأنها حاضنة لبعض التوجهات الليبرالية التي أطلقها «الحزب القومي السوري» الذي التف حوله عدد كبير من المثقفين العرب في لبنان وسوريا، من أبرزهم يوسف الخال وأدونيس وعصام محفوظ وعادل ظاهر، ورغم ما أثير حول «المجلة» من لغط يخصّ مصادر تمويلها، فإنها كانت علامة فارقة على مسار التحول الفارق في الشعرية العربية، وانغمارها في استشراف أفق شعري جديد، على مستوى الوعي بالأشكال الشعرية، وعلاقة الشعر بالآيديولوجيا، أو على مستوى الوعي بالعلاقة مع الآخر، إذ تحولت المجلة إلى «مجال ثقافي» مفتوح على المغايرة، حيث استقطب أفكاراً جديدة، وأطروحات مثيرة للجدل، لا سيما في الكتابة والترجمة، وفي الانفتاح على تابوهات ثقافية، تخص قضايا إشكالية مثل الهوية والتاريخ والأمة والدين، فضلاً عن إشكالية الكتابة الشعرية ذاتها، وهو ما بدا واضحاً وصادماً بعد ترجمة أدونيس لفصول من كتاب سوزان برنار «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا»، الذي تحول إلى منهل سحري وغاوٍ لمواجهة مركزية التاريخ والنمط الشعري السائد.
كما أنّ التلازم بين ليبرالية الوعي وليبرالية الكتابة استقطب - من جانب آخر - عدداً مهماً من الأدباء العرب إلى مغامرته، لا سيما الشعراء ذوي النزعات التجديدية مثل السياب وسلمى الخضراء الجيوسي ومحمد الماغوط وخالدة سعيد وحليم بركات وفؤاد رفقة وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم.
أثارت هذه المجموعة «الثقافية» أسئلة جديدة، وتحدياً جديداً، كشف عن المخفي في الصراعات الثقافية والآيديولوجية، فبدت ليبرالية مجلة «شعر» وكأنها «ضدٌ نوعيٌّ» لمجلة «الآداب» البيروتية ذات التوجه القومي الناصري، وكذلك في مواجهة ما كانت تطرحه مجلة «الثقافة الوطنية» ذات التوجهات الماركسية التقليدية، التي استثمرت أجواء انتصار معسكر الحلفاء والقوى الاشتراكية في الحرب العالمية الثانية، فاستغرقتها أطروحات الأدب الثوري والأدب الملتزم.
تعليق