كبش فيلكا جاثياً على قوائمه المطوية
يشبه مجسّمين في «متحف البحرين الوطني»
كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق
نُشر: 16:46-26 مارس 2024 م ـ 16 رَمضان 1445 هـ
TT
20من المواقع الأثرية المتعددة في جزيرة فيلكا، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة حُفظت في «متحف الكويت الوطني»، منها مجسّم صغير يمثّل كبشاً جاثياً، يماثل في تكوينه مجسّمين محفوظين في «متحف البحرين الوطني»، فقدَ كلّ منهما رأسه، مصدرهما قرية دراز الواقعة في الجزء الشمالي الغربي من الساحل البحريني. تعود هذه التماثيل الثلاثة إلى مرحلة سحيقة من التاريخ، كانت فيها فيلكا والبحرين حاضرتين من إقليم واسع عُرف باسم «دلمون»، شمل مناطق واسعة من الساحل الخليجي، وشكّل حلقة وصل بين بلاد ما بين النهرين ووادي السند.
تضمّ جزيرة فيلكا مواقع أثرية عدة؛ أشهرها موقع يُعرف بـ«تل سعد»، وآخر يُعرف بـ«تل سعيد». يقع الأول في القسم الجنوبي من الجزيرة، بالقرب من ساحل البحر، ويضمّ ما تُعرف بـ«المدينة الدلمونية»، ويقع الثاني على بعد 300 متر إلى الشرق منه، ويعرف بـ«القلعة اليونانية». كشفت عن أسس هذه القلعة بعثة دنماركية خلال سلسلة حملات تنقيب نفذتها في نهاية الخمسينات، وتبيّن أن الموقع يحوي معبداً واصلت بعثة فرنسية استكشافه بشكل معمّق في 1983. في العام التالي، نشر العالمان الفرنسيان آني كوبي وجان فرنسوا سال تقريراً شاملاً، وثّقا فيه بأسلوب علمي دقيق مجمل القطع التي عُثر عليها في هذا المعبد الهلنستي خلال أعمال المسح والتنقيب. حوت هذه المجموعة من اللقى بضعة مجسّمات من الحجم الصغير؛ منها مجسّم صغير من الحجر الصابوني الرمادي اللون، يمثّل كبشاً جاثياً يبلغ طوله 6.4 سنتيمتر، وعرضه 2.4 سنتيمتر.
يحضر هذا الكبش في كتلة واحدة تخلو من أي فراغ، يبدو فيها جاثياً أرضاً على قوائمه المطوية. يغلب على ملامح هذه الحيوان الطابع التحويري المختزل. تظهر العين على شكل دائرة محفورة، ويتشكّل الأنف من كتلة مقوّسة ناتئة. تبدو القوائم شديدة الالتصاق بالجزء الأعلى من البدن، كما يبدو القرنان الناتئان ملتفّين كهلالين حول الوجه، ويظهر الذيل ملتفاً حول مؤخرة الجسد لجهة اليسار، وتعلو مساحة البدن شبكة من النقوش الطفيفة تجسّد على ما يبدو فروة الجلد. عُثر على هذا الكبش في المعبد الهلنستي، غير أنه بدا مجرّداً من أي طابع إغريقي، ممّا يوحي بأنه يعود إلى عهد سابق، أي إلى العهد الدلموني، وقد أعيد استخدامه لاحقاً في هذا الموقع، لكن وظيفته تبقى ملتبسة، والأرجح أنه كان مثبّتاً على أثر ضاع يصعب تحديد هويّته، كما توحي الثقوب المحفورة على السطح الأسفل للمجسّم.
يشبه هذا الكبش في تكوينه مجسّمين معروضين في «متحف البحرين الوطني»، عثرت عليهما البعثة الدنماركية في معبد يُعرف باسم «معبد بئر أم الصقور»، يقع في الجهة الشرقية من قرية دراز، في الجزء الشمالي الغربي من البحرين. تحوي هذه القرية آثاراً دلمونية تعود إلى أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد، وتجاورها شرقاً قرية باربار التي تحوي ثلاثة معابد شُيّد الواحد منها فوق الآخر على مر السنين، وتمثّل أهمّ شواهد حضارة دلمون في البحرين. صُنع التمثالان من الحجر الجيري، ويبلغ طول كل منهما نحو 21 سنتيمتراً، وعرضه 31 سنتيمتراً، وقد عُثر عليهما مقطوعي الرأس للأسف، ويوحي تكوينهما بأّنهما يمثلان كذلك كبشين جاثيين في وضعية تماثل وضعية كبش فيلكا، كما يوحي موقعهما الأصلي في «معبد بئر أم الصقور» بأنّهما شكّلا جزءاً من عناصر هذا المعبد.
في دراسة حملت عنوان: «فنون النحت من حضارات الساحل الغربي للخليج العربي في العصور البرونزية إلى نهاية العصر الحديدي»، ذكر الباحث علاء الدين عبد المحسن شاهين هذين التمثالين، وربط بين بئر المياه العذبة وبعض العناصر المعمارية والدينية الخاصة بالمعبد، ورأى أن هذه العناصر تتصل «بالطقوس الدينية المرتبطة بعمليات التطهّر والاغتسال، حيث شُيّدت على فوهة البئر غرفة من الحجارة الجيدة، يجري الوصول إليها عن طريق دَرَج هابط أقيم على جوانبه بعض رموز العبادة المتمثّلة في الكبشين الجاثيين على قاعدتها عند راس الدرج، واللذين ربما كانا يشكلان جزءاً من زخرفة العمود، أو زخرفة الهيكل المشيّد في فترة مجد الحضارة الدلمونية».
نُسب كبشا البحرين إلى الألف الثالث قبل الميلاد، كما تشهد اللقى الأثرية التي اكتشفت في الموقع وفي محيطه. ونُسب كبش فيلكا إلى الربع الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد. قورنت هذه المجسمات بقطع متعددة من بلاد ما بين النهرين، تعود إلى نواح مختلفة من هذه البلاد، كما قورنت بقطع من بلاد وادي السند، تعود إلى موقعَي «موهينجو دارو» و«هارابا» في جنوب باكستان. تأتي أغلب هذه القطع على شكل مجسمات من الحجم الصغير صُنعت من مواد مختلفة، ونقع على نماذج عديدة منها في مجمل المتاحف العالمية، حيث توصف غالباً بـ«التمائم».
تعود أقدم هذه النماذج على ما يبدو إلى جنوب وسط بلاد الرافدين، وهي من نتاج «عصر جمدة نصر»، أي إلى حقبة أواخر الألف الرابع وبداية الألف الثالث قبل الميلاد. يُمثّل هذا العصر ثقافة من حقبة ما قبل التاريخ، تسمّت باسم «تل جمدة نصر» في محافظة بابل، جنوب بلاد الرافدين، نسبة الى المخلفات الأثرية التي خرجت منه في العقود الأولى من القرن العشرين. وشملت هذه التسمية الجامعة مواقع أخرى في أنحاء جنوب وسط العراق؛ منها: أور، وأوروك، ونفر، وخفاجة، وأبو صلابيخ، وشوروباك، وتل العقير.
في هذا الميدان، يبرز خاتم أسطواني محفوظ في «متحف الشرق الأوسط» في برلين، مصدره مدينة «أوروك» التي تُعرف عربياً باسم «الوركاء». صُنع هذا الخاتم من الرخام والنحاس، ويعلوه مقبض نُحت على شكل كبش جاثٍ، يشبه في تكوينه إلى حد كبير كبش فيلكا. يستقرّ هذا الكبش جاثياً بثبات فوق كتلة أسطوانية تحمل نقشاً تصويرياً يمثل راعياً يُطعم قطيعاً من الغنم، وتعكس هذه الصورة الجامعة أهمية الدور الذي لعبته الماشية لدى الإنسان في «عصر جمدة نصر» الذي طبع بداية ظهور الحضارة السومرية.
يشبه مجسّمين في «متحف البحرين الوطني»
كبش من فيلكا، يقابله كبشان من البحرين، وآخر من الوركاء في جنوب العراق
نُشر: 16:46-26 مارس 2024 م ـ 16 رَمضان 1445 هـ
TT
20من المواقع الأثرية المتعددة في جزيرة فيلكا، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة حُفظت في «متحف الكويت الوطني»، منها مجسّم صغير يمثّل كبشاً جاثياً، يماثل في تكوينه مجسّمين محفوظين في «متحف البحرين الوطني»، فقدَ كلّ منهما رأسه، مصدرهما قرية دراز الواقعة في الجزء الشمالي الغربي من الساحل البحريني. تعود هذه التماثيل الثلاثة إلى مرحلة سحيقة من التاريخ، كانت فيها فيلكا والبحرين حاضرتين من إقليم واسع عُرف باسم «دلمون»، شمل مناطق واسعة من الساحل الخليجي، وشكّل حلقة وصل بين بلاد ما بين النهرين ووادي السند.
تضمّ جزيرة فيلكا مواقع أثرية عدة؛ أشهرها موقع يُعرف بـ«تل سعد»، وآخر يُعرف بـ«تل سعيد». يقع الأول في القسم الجنوبي من الجزيرة، بالقرب من ساحل البحر، ويضمّ ما تُعرف بـ«المدينة الدلمونية»، ويقع الثاني على بعد 300 متر إلى الشرق منه، ويعرف بـ«القلعة اليونانية». كشفت عن أسس هذه القلعة بعثة دنماركية خلال سلسلة حملات تنقيب نفذتها في نهاية الخمسينات، وتبيّن أن الموقع يحوي معبداً واصلت بعثة فرنسية استكشافه بشكل معمّق في 1983. في العام التالي، نشر العالمان الفرنسيان آني كوبي وجان فرنسوا سال تقريراً شاملاً، وثّقا فيه بأسلوب علمي دقيق مجمل القطع التي عُثر عليها في هذا المعبد الهلنستي خلال أعمال المسح والتنقيب. حوت هذه المجموعة من اللقى بضعة مجسّمات من الحجم الصغير؛ منها مجسّم صغير من الحجر الصابوني الرمادي اللون، يمثّل كبشاً جاثياً يبلغ طوله 6.4 سنتيمتر، وعرضه 2.4 سنتيمتر.
يحضر هذا الكبش في كتلة واحدة تخلو من أي فراغ، يبدو فيها جاثياً أرضاً على قوائمه المطوية. يغلب على ملامح هذه الحيوان الطابع التحويري المختزل. تظهر العين على شكل دائرة محفورة، ويتشكّل الأنف من كتلة مقوّسة ناتئة. تبدو القوائم شديدة الالتصاق بالجزء الأعلى من البدن، كما يبدو القرنان الناتئان ملتفّين كهلالين حول الوجه، ويظهر الذيل ملتفاً حول مؤخرة الجسد لجهة اليسار، وتعلو مساحة البدن شبكة من النقوش الطفيفة تجسّد على ما يبدو فروة الجلد. عُثر على هذا الكبش في المعبد الهلنستي، غير أنه بدا مجرّداً من أي طابع إغريقي، ممّا يوحي بأنه يعود إلى عهد سابق، أي إلى العهد الدلموني، وقد أعيد استخدامه لاحقاً في هذا الموقع، لكن وظيفته تبقى ملتبسة، والأرجح أنه كان مثبّتاً على أثر ضاع يصعب تحديد هويّته، كما توحي الثقوب المحفورة على السطح الأسفل للمجسّم.
يشبه هذا الكبش في تكوينه مجسّمين معروضين في «متحف البحرين الوطني»، عثرت عليهما البعثة الدنماركية في معبد يُعرف باسم «معبد بئر أم الصقور»، يقع في الجهة الشرقية من قرية دراز، في الجزء الشمالي الغربي من البحرين. تحوي هذه القرية آثاراً دلمونية تعود إلى أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد، وتجاورها شرقاً قرية باربار التي تحوي ثلاثة معابد شُيّد الواحد منها فوق الآخر على مر السنين، وتمثّل أهمّ شواهد حضارة دلمون في البحرين. صُنع التمثالان من الحجر الجيري، ويبلغ طول كل منهما نحو 21 سنتيمتراً، وعرضه 31 سنتيمتراً، وقد عُثر عليهما مقطوعي الرأس للأسف، ويوحي تكوينهما بأّنهما يمثلان كذلك كبشين جاثيين في وضعية تماثل وضعية كبش فيلكا، كما يوحي موقعهما الأصلي في «معبد بئر أم الصقور» بأنّهما شكّلا جزءاً من عناصر هذا المعبد.
في دراسة حملت عنوان: «فنون النحت من حضارات الساحل الغربي للخليج العربي في العصور البرونزية إلى نهاية العصر الحديدي»، ذكر الباحث علاء الدين عبد المحسن شاهين هذين التمثالين، وربط بين بئر المياه العذبة وبعض العناصر المعمارية والدينية الخاصة بالمعبد، ورأى أن هذه العناصر تتصل «بالطقوس الدينية المرتبطة بعمليات التطهّر والاغتسال، حيث شُيّدت على فوهة البئر غرفة من الحجارة الجيدة، يجري الوصول إليها عن طريق دَرَج هابط أقيم على جوانبه بعض رموز العبادة المتمثّلة في الكبشين الجاثيين على قاعدتها عند راس الدرج، واللذين ربما كانا يشكلان جزءاً من زخرفة العمود، أو زخرفة الهيكل المشيّد في فترة مجد الحضارة الدلمونية».
نُسب كبشا البحرين إلى الألف الثالث قبل الميلاد، كما تشهد اللقى الأثرية التي اكتشفت في الموقع وفي محيطه. ونُسب كبش فيلكا إلى الربع الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد. قورنت هذه المجسمات بقطع متعددة من بلاد ما بين النهرين، تعود إلى نواح مختلفة من هذه البلاد، كما قورنت بقطع من بلاد وادي السند، تعود إلى موقعَي «موهينجو دارو» و«هارابا» في جنوب باكستان. تأتي أغلب هذه القطع على شكل مجسمات من الحجم الصغير صُنعت من مواد مختلفة، ونقع على نماذج عديدة منها في مجمل المتاحف العالمية، حيث توصف غالباً بـ«التمائم».
تعود أقدم هذه النماذج على ما يبدو إلى جنوب وسط بلاد الرافدين، وهي من نتاج «عصر جمدة نصر»، أي إلى حقبة أواخر الألف الرابع وبداية الألف الثالث قبل الميلاد. يُمثّل هذا العصر ثقافة من حقبة ما قبل التاريخ، تسمّت باسم «تل جمدة نصر» في محافظة بابل، جنوب بلاد الرافدين، نسبة الى المخلفات الأثرية التي خرجت منه في العقود الأولى من القرن العشرين. وشملت هذه التسمية الجامعة مواقع أخرى في أنحاء جنوب وسط العراق؛ منها: أور، وأوروك، ونفر، وخفاجة، وأبو صلابيخ، وشوروباك، وتل العقير.
في هذا الميدان، يبرز خاتم أسطواني محفوظ في «متحف الشرق الأوسط» في برلين، مصدره مدينة «أوروك» التي تُعرف عربياً باسم «الوركاء». صُنع هذا الخاتم من الرخام والنحاس، ويعلوه مقبض نُحت على شكل كبش جاثٍ، يشبه في تكوينه إلى حد كبير كبش فيلكا. يستقرّ هذا الكبش جاثياً بثبات فوق كتلة أسطوانية تحمل نقشاً تصويرياً يمثل راعياً يُطعم قطيعاً من الغنم، وتعكس هذه الصورة الجامعة أهمية الدور الذي لعبته الماشية لدى الإنسان في «عصر جمدة نصر» الذي طبع بداية ظهور الحضارة السومرية.