ليس ثمة أكثر جدوى من كتابة اليوميات للتدرب على كتابة الرواية
سفيان رجب: مراجعات القراء تطربني وتخيفني في الآن ذاته.
الأربعاء 2024/03/27
المجتمع آلة محو مرعبة للنصوص التي تخدش طمأنينته
سفيان رجب من الكتاب التونسيين المجتهدين في إيمانه الراسخ بعدم الطمأنينة لنصه وضرورة تطوير تجربته، ما جعله أكثر أبناء جيله تراكما وتجريبا، فالتجريب هاجسه ضد السكون إلى الفكرة أو الأسلوب أو الطرح، وهذا ما يتشكل في شعره وفي رواياته وآخرها “قارئة نهج الدباغين” التي بلغت القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية. “العرب” كان لها معه هذا الحوار حول روايته ورؤاه.
يتفق جل المتابعين لحيثيات الكتابة السردية على أن الرواية نوع أدبي غير مكتمل ولا يوجد نص روائي يقطع الطريق على ماراثون التجريب وصياغة أشكال جديدة أو يستنفد الطاقة الإيحائية في اللغة الروائية. وما يطمح إليه كل كاتب هو الأخذ بناصية الأدوات التي تضفي طابعا كرنفاليا لأجواء عمله ويتوسل من ذلك إبعاد شبح التنميط من خط السرد. وبالتأكيد أن ذلك يتطلب الدراية بتصميم المعطيات وتوزيع المادة على المساحة المحددة لحركة الشخصيات التي تخدم الخطاب الروائي.
هذا المسعى هو ما يتمثل له برنامج رواية “قارئة نهج الدباغين” للكاتب التونسي سفيان رجب، إذ تمكن في عمله الأحدث من إدارة دفة المكونات السردية برشاقة، إذ يحسب له عدم الوقوع في مطب الاسترسال والحشو، فهو مقتصد في الوصف ولا ينزلق سرده في متاهات التاريخ، مع أن نصه يغطي البيئة التونسية بأبعادها التاريخية والواقعية والثقافية، هذا ناهيك عن رصده للظواهر التي قد غزت واقع المجتمع في مرحلة ما بعد الثورة.
الروايات كائنات حية
الكاتب ينطلق دائما في الكتابة من مخطط جاهز لكنه في أحيان كثيرة لا يكون منضبطا تماما إلى ذلك المخطط
تفتح رواية “قارئة نهج الدباغين” باب الريبة والشكوك بشأن مفهوم الإبداع الروائي، كذلك تثير الجدل حول مستويات القراءة والتلقي. نسأل سفيان رجب إن كان هذا الأمر ضمن برنامج عمله أم أن سياق الكتابة هو الذي قاد السرد نحو هذا الاختيار، ليجيبنا “الحقيقة أنني أنطلق دائما في الكتابة من خلال مخطط جاهز، لكن في أحيان كثيرة لا أكون منضبطا تماما إلى ذلك المخطط، ويكون الصراع بين المهندس الروائي داخلي وبين الشاعر المنشق، لكن في النهاية أصل إلى مستوى من التوافق بينهما إلى الحدود التي لا تمس من مخطط الرواية”.
ويضيف رجب “في روايتي الأخيرة قارئة نهج الدباغين كانت الفكرة الأساسية التي بنيت عليها الرواية هي ‘رابطة الكتاب الأشباح‘، حتى أن عنوان الرواية إلى حدود فترة قصيرة قبل إرسالها إلى النشر كانت تحمل ذلك العنوان. الرواية تحاول أن تفهم ظاهرة التابو، كتابة وقراءة، ما الذي يجعلنا نرتعش ونهرب من التابو؟ تبرز لنا لافتة بارزة في إجابتنا على هذا السؤال، وهي ما كتبه فرويد في كتابه ‘الطوطم والتابو‘، إن من يمس التابو يتحول إلى تابو؟ فالخوف في أعماق الكاتب والقارئ ليس في تعامله مع التابو، إنما خوفه بالأساس أن يتحول هو نفسه إلى تابو”.
ويتابع “لم تقرأ هذا الكتاب الممنوع؟ خاصة إذا كان المنع هنا من المجتمع، كتابٌ وصم باللعنة، ودارت حوله الشبهات، وأصبح يقيم في مركز الفضيحة. والمجتمع هو الدكتاتور الهلامي المرعب، الذي يخلق التابو، وليس القائد السياسي المتغطرس، فهذا الأخير سيتعامل مع كل النصوص التي ستمس من هيبته بمنع المكتوب وعقاب الكاتب، لكنه في الأصل سيغذي مقروئية تلك النصوص، أما المجتمع فهو آلة محو مرعبة للنصوص التي تخدش طمأنينته وتعريه وتفضح عقده، وهو يعمل بالقانون الطقوسي الأول للإنسان الذي تحدث عنه فرويد ‘من يمس التابو يتحول إلى تابو‘، وهكذا يتحول النص إلى لعنة وإلى فضيحة ويطرد من كل دوائر المقروئية المعلنة ليصبح مقيما في الهامش، شأنه شأن تلك المواضيع التي تحدث عنها”.
الروايات تشبه الكائنات الحية
تقوم الرواية على بنية التضايف بين القصص، إذ يتجاور ما يتم سرده عن الشخصيات الرئيسة ليلى، نوري النمس، بابا جابر، ناصر هارون، وإبراهيم الذي سيظهر في شخصية مريم. ربما كان الغرض من تكافؤ الحزمات السردية هو إضفاء مزيد من التشويق إلى تشكيلة النص، يعلق رجب حول ذلك قائلا “التفكير في المقروئية هو شرط أساسي في كتابة الرواية، ولكل روائي طريقته الخاصة في شد القارئ، شخصيا أميل إلى السرد الشبكي الذي يتشكل من تقاطع الأحداث ومن نسيج الروايات داخل الرواية، وإلى حدود روايتي الرابعة أدعي أنني حافظت على هذه الطريقة دون أن أسقط في التكرار، فلكل رواية أسلوبها وطريقة نسجها الأصيلة والخاصة بها، وقد تكون هذه الرواية أكثر حرفية من الروايات السابقة على المستوى الفني. أي أنها وفقت في توظيف هذه الطريقة، دون افتعال وبانضباط شديد”.
فن الرواية موضوعة أساسية في “قارئة نهج الدباغين” والنقاش عن تاريخ هذا النوع الأدبي وصياغته هو ما يشغل جل مفاصلها. نسأل الكاتب التونسي هنا إن كنا قد وصلنا فعلا إلى مرحلة افتراس الرواية بلحمها، ليقر بأن وجود الرواية مرتبط بوجود الإنسان، ورهانات المبدعين هي إيجاد طرق جديدة ومبتكرة لإجراء المواضيع المطروحة.
ويضيف رجب “إن الروايات تشبه الكائنات الحية، تحمل جينات أسلافها لكنها تحمل بصمتها وأسلوبها الخاص بها. يمكننا أن نقرأ اليوم عن شخصيات مشابهة لدون كيشوت أو لزوربا، ولكنها تختلف عنها. أو يمكن لروائي أن ينطلق من حدث هامشي ذكر في رواية سابقة، ويشتغل عليه أكثر ويوسعه. لا زلت أعتبر أن رواية ‘اسمي أحمر‘ لأورهان باموق تمثل إجابة عن أسئلة كثيرة طرحت في رواية ‘اسم الوردة‘ لأمبرتو إيكو، فالكاتب التركي انطلق من حدث عرضي في اسم الوردة، يروي فيه إيكو حكاية خطاط للأناجيل في دير ألقي به في الجب بعد قتله، فيحوله باموق إلى خطاط للكتاب الذي كلف السلطان العثماني أحد خطاطيه بكتابته. لكن لا أحد يمكنه التشكيك في قوة وأصالة نص باموق، فهو بنى نصه من خلال ذلك الحديث البسيط، لكنه ذهب به بعيدا، وشيد عليه قلعة سردية عظيمة”.
ترد الإشارة على لسان نوري النمس إلى أن كتابة الرواية تبدأ بتدوين اليوميات، الأمر الذي يتكرر لدى كبار المبدعين. نسأل رجب إلى أي مدى يمثل هذا الكلام تجربته الشخصية في التأليف الروائي، ليجيب بأن كتابة الرواية تحتاج إلى التخطيط الدقيق كتشييد القلاع، وتحتاج كذلك إلى التدرب على الكتابة، وليس ثمة أكثر جدوى من كتابة اليوميات للتدرب على كتابة الرواية.
ويضيف “أنا أعتبر أن الفرق بين كتابة القصة وكتابة الرواية، أنك في الأولى تؤلف كذبة ولا تهتم بمن سيصدقك وبمن سيكذبك، وفي الرواية تؤلف كذبة، لكنك تحاول جعلها قابلة للتصديق، من خلال إبراز الحجج والإتيان بالقرائن والأدلة الدامغة، وكلما أقنعت المزيد من المتابعين بصدق كذبتك تلك، كلما وفقت في كتابة روايتك. فالروائي محتاج إلى معرفة الطقس والأحداث التي مرت بيوم ما سيذكره في روايته، لإضفاء شيء من المصداقية، وكل تلك التفاصيل يمكن أن يحفظها في يومياته، ويخزنها إلى وقت الكتابة”.
ضد الطمأنينة
رواية تفتح باب الريبة والشكوك بشأن مفهوم الإبداع الروائي وتثير الجدل حول مستويات القراءة والتلقي
تلمح “قارئة نهج الدباغين” إلى محطات بارزة في تاريخ تونس، سواء في عهد الاستعمار أو في مرحلة ما بعد الثورة، كما ترصد ظواهر قد تكون جديدة على البيئة التونسية من التشدد والبحث عن الأمجاد الثقافية المزيفة. ويرى رجب أن الرواية لا تنفصل عن محيطها الثقافي، وكلما كانت الرواية متجذرة في بيئتها كلما ذهبت بعيدا.
ويقول “أحب أن أعيد دائما تلك الأمثولة التي تقول إن الطيور تبني أعشاشها من قش حقولها. قد تبدو للبعض أن فكرة رابطة الكتاب الأشباح فكرة عجائبية محضة لكن الحقيقة أن جزءا منها كان قد أملاه عليّ الواقع الثقافي في تونس، فالكتاب الأشباح الذين كتبوا سير السياسيين لا تكاد تحد أعدادهم، والذين وظفوا كتابا أشباحا لكتابة رواياتهم يتحركون في المشهد الثقافي بأقنعة مبدعين، بعضهم أساتذة جامعيون استولوا على أفكار طلبتهم، أو كتاب ألفوا قصائد وقصصا لحبيباتهم وصنعوا منهن أديبات وشواعر، أعرف بعضهن صمتن حين ذهب كتابهن الأشباح. أعرف كذلك كاتبا كانت تكتب له ابنة عمه، وحين تزوجت صمت صاحبنا إلى الأبد”.
لا يغيب الملمح الساخر في أجواء الرواية، ويقع المتلقي على الكثير من العبارات التي يمكن أن تأخذ مدى أوسع من التداول لاحقا، حول اختياره لهذه الصيغة مخالفا لما هو سائد في الرواية العربية من أجواء متشبعة بالكابوسية، يقول رجب “هذا الواقع نكتة حزينة. والسخرية هي أسلوبي في الحياة، هي أسلحتي ضد اليأس والألم. أنا لم أختر هذه الصيغة في الكتابة، إنما هي التي اختارتني ربما. في روايتي الأولى ‘القرد الليبرالي‘ كانت طاغية، وكذلك الشأن في روايتي الثانية ‘مصنع الأحذية الأميركية‘ لكن في هذه الرواية ‘قارئة نهج الدباغين‘ وفي روايتي السابقة ‘اليوم جمعة وغدا خميس‘ كانت السخرية فيهما مجرد غيوم عابرة، رغم تعاملي القاسي في الحد منها، حتى لا تفسد بعض المواضع في الرواية”.
يعتقد بول أوستر بأن مزاج القارئ بمثابة جرس ينبهه إلى ما هو غير مقنع في الرواية. نسأل الكاتب كيف يمكن للمؤلف أن يحتفظ بأوراقه ولا يكشف منها إلا بالقدر الذي يقيد القارئ في منطقة الترقب؟ ليجيبنا “أعتبر أن الروائي العبقري هو الذي يقدر على شد القارئ إلى الصفحات الأخيرة من الرواية، وأنا الآن أتدرب بجد على بلوغ تلك المرتبة. أنا الآن في المرحلة التي أعيش فيها مع القارئ مدا وجزرا في لعبة التشويق، أفشل أحيانا فأحاول تغطية ذلك الفشل باللغة العالية والاستعارات المباغتة والمخاتلة، وأنجح في مناطق أخرى من الرواية، وتصلني الأصداء من خلال مراجعات القراء، فأطرب لذلك ويسكنني الخوف في الآن ذاته. أشعر بأنني أسلك الطريق الصائبة في كتابة الرواية، وأتطور بين رواية وأخرى، وهذا ما يجعلني متوجسا وقلقا دائما، ومتيقظا من الوقوع في مزالق الطمأنينة”.
كه يلان محمد
كاتب عراقي
سفيان رجب: مراجعات القراء تطربني وتخيفني في الآن ذاته.
الأربعاء 2024/03/27
المجتمع آلة محو مرعبة للنصوص التي تخدش طمأنينته
سفيان رجب من الكتاب التونسيين المجتهدين في إيمانه الراسخ بعدم الطمأنينة لنصه وضرورة تطوير تجربته، ما جعله أكثر أبناء جيله تراكما وتجريبا، فالتجريب هاجسه ضد السكون إلى الفكرة أو الأسلوب أو الطرح، وهذا ما يتشكل في شعره وفي رواياته وآخرها “قارئة نهج الدباغين” التي بلغت القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية. “العرب” كان لها معه هذا الحوار حول روايته ورؤاه.
يتفق جل المتابعين لحيثيات الكتابة السردية على أن الرواية نوع أدبي غير مكتمل ولا يوجد نص روائي يقطع الطريق على ماراثون التجريب وصياغة أشكال جديدة أو يستنفد الطاقة الإيحائية في اللغة الروائية. وما يطمح إليه كل كاتب هو الأخذ بناصية الأدوات التي تضفي طابعا كرنفاليا لأجواء عمله ويتوسل من ذلك إبعاد شبح التنميط من خط السرد. وبالتأكيد أن ذلك يتطلب الدراية بتصميم المعطيات وتوزيع المادة على المساحة المحددة لحركة الشخصيات التي تخدم الخطاب الروائي.
هذا المسعى هو ما يتمثل له برنامج رواية “قارئة نهج الدباغين” للكاتب التونسي سفيان رجب، إذ تمكن في عمله الأحدث من إدارة دفة المكونات السردية برشاقة، إذ يحسب له عدم الوقوع في مطب الاسترسال والحشو، فهو مقتصد في الوصف ولا ينزلق سرده في متاهات التاريخ، مع أن نصه يغطي البيئة التونسية بأبعادها التاريخية والواقعية والثقافية، هذا ناهيك عن رصده للظواهر التي قد غزت واقع المجتمع في مرحلة ما بعد الثورة.
الروايات كائنات حية
الكاتب ينطلق دائما في الكتابة من مخطط جاهز لكنه في أحيان كثيرة لا يكون منضبطا تماما إلى ذلك المخطط
تفتح رواية “قارئة نهج الدباغين” باب الريبة والشكوك بشأن مفهوم الإبداع الروائي، كذلك تثير الجدل حول مستويات القراءة والتلقي. نسأل سفيان رجب إن كان هذا الأمر ضمن برنامج عمله أم أن سياق الكتابة هو الذي قاد السرد نحو هذا الاختيار، ليجيبنا “الحقيقة أنني أنطلق دائما في الكتابة من خلال مخطط جاهز، لكن في أحيان كثيرة لا أكون منضبطا تماما إلى ذلك المخطط، ويكون الصراع بين المهندس الروائي داخلي وبين الشاعر المنشق، لكن في النهاية أصل إلى مستوى من التوافق بينهما إلى الحدود التي لا تمس من مخطط الرواية”.
ويضيف رجب “في روايتي الأخيرة قارئة نهج الدباغين كانت الفكرة الأساسية التي بنيت عليها الرواية هي ‘رابطة الكتاب الأشباح‘، حتى أن عنوان الرواية إلى حدود فترة قصيرة قبل إرسالها إلى النشر كانت تحمل ذلك العنوان. الرواية تحاول أن تفهم ظاهرة التابو، كتابة وقراءة، ما الذي يجعلنا نرتعش ونهرب من التابو؟ تبرز لنا لافتة بارزة في إجابتنا على هذا السؤال، وهي ما كتبه فرويد في كتابه ‘الطوطم والتابو‘، إن من يمس التابو يتحول إلى تابو؟ فالخوف في أعماق الكاتب والقارئ ليس في تعامله مع التابو، إنما خوفه بالأساس أن يتحول هو نفسه إلى تابو”.
ويتابع “لم تقرأ هذا الكتاب الممنوع؟ خاصة إذا كان المنع هنا من المجتمع، كتابٌ وصم باللعنة، ودارت حوله الشبهات، وأصبح يقيم في مركز الفضيحة. والمجتمع هو الدكتاتور الهلامي المرعب، الذي يخلق التابو، وليس القائد السياسي المتغطرس، فهذا الأخير سيتعامل مع كل النصوص التي ستمس من هيبته بمنع المكتوب وعقاب الكاتب، لكنه في الأصل سيغذي مقروئية تلك النصوص، أما المجتمع فهو آلة محو مرعبة للنصوص التي تخدش طمأنينته وتعريه وتفضح عقده، وهو يعمل بالقانون الطقوسي الأول للإنسان الذي تحدث عنه فرويد ‘من يمس التابو يتحول إلى تابو‘، وهكذا يتحول النص إلى لعنة وإلى فضيحة ويطرد من كل دوائر المقروئية المعلنة ليصبح مقيما في الهامش، شأنه شأن تلك المواضيع التي تحدث عنها”.
الروايات تشبه الكائنات الحية
تقوم الرواية على بنية التضايف بين القصص، إذ يتجاور ما يتم سرده عن الشخصيات الرئيسة ليلى، نوري النمس، بابا جابر، ناصر هارون، وإبراهيم الذي سيظهر في شخصية مريم. ربما كان الغرض من تكافؤ الحزمات السردية هو إضفاء مزيد من التشويق إلى تشكيلة النص، يعلق رجب حول ذلك قائلا “التفكير في المقروئية هو شرط أساسي في كتابة الرواية، ولكل روائي طريقته الخاصة في شد القارئ، شخصيا أميل إلى السرد الشبكي الذي يتشكل من تقاطع الأحداث ومن نسيج الروايات داخل الرواية، وإلى حدود روايتي الرابعة أدعي أنني حافظت على هذه الطريقة دون أن أسقط في التكرار، فلكل رواية أسلوبها وطريقة نسجها الأصيلة والخاصة بها، وقد تكون هذه الرواية أكثر حرفية من الروايات السابقة على المستوى الفني. أي أنها وفقت في توظيف هذه الطريقة، دون افتعال وبانضباط شديد”.
فن الرواية موضوعة أساسية في “قارئة نهج الدباغين” والنقاش عن تاريخ هذا النوع الأدبي وصياغته هو ما يشغل جل مفاصلها. نسأل الكاتب التونسي هنا إن كنا قد وصلنا فعلا إلى مرحلة افتراس الرواية بلحمها، ليقر بأن وجود الرواية مرتبط بوجود الإنسان، ورهانات المبدعين هي إيجاد طرق جديدة ومبتكرة لإجراء المواضيع المطروحة.
ويضيف رجب “إن الروايات تشبه الكائنات الحية، تحمل جينات أسلافها لكنها تحمل بصمتها وأسلوبها الخاص بها. يمكننا أن نقرأ اليوم عن شخصيات مشابهة لدون كيشوت أو لزوربا، ولكنها تختلف عنها. أو يمكن لروائي أن ينطلق من حدث هامشي ذكر في رواية سابقة، ويشتغل عليه أكثر ويوسعه. لا زلت أعتبر أن رواية ‘اسمي أحمر‘ لأورهان باموق تمثل إجابة عن أسئلة كثيرة طرحت في رواية ‘اسم الوردة‘ لأمبرتو إيكو، فالكاتب التركي انطلق من حدث عرضي في اسم الوردة، يروي فيه إيكو حكاية خطاط للأناجيل في دير ألقي به في الجب بعد قتله، فيحوله باموق إلى خطاط للكتاب الذي كلف السلطان العثماني أحد خطاطيه بكتابته. لكن لا أحد يمكنه التشكيك في قوة وأصالة نص باموق، فهو بنى نصه من خلال ذلك الحديث البسيط، لكنه ذهب به بعيدا، وشيد عليه قلعة سردية عظيمة”.
ترد الإشارة على لسان نوري النمس إلى أن كتابة الرواية تبدأ بتدوين اليوميات، الأمر الذي يتكرر لدى كبار المبدعين. نسأل رجب إلى أي مدى يمثل هذا الكلام تجربته الشخصية في التأليف الروائي، ليجيب بأن كتابة الرواية تحتاج إلى التخطيط الدقيق كتشييد القلاع، وتحتاج كذلك إلى التدرب على الكتابة، وليس ثمة أكثر جدوى من كتابة اليوميات للتدرب على كتابة الرواية.
ويضيف “أنا أعتبر أن الفرق بين كتابة القصة وكتابة الرواية، أنك في الأولى تؤلف كذبة ولا تهتم بمن سيصدقك وبمن سيكذبك، وفي الرواية تؤلف كذبة، لكنك تحاول جعلها قابلة للتصديق، من خلال إبراز الحجج والإتيان بالقرائن والأدلة الدامغة، وكلما أقنعت المزيد من المتابعين بصدق كذبتك تلك، كلما وفقت في كتابة روايتك. فالروائي محتاج إلى معرفة الطقس والأحداث التي مرت بيوم ما سيذكره في روايته، لإضفاء شيء من المصداقية، وكل تلك التفاصيل يمكن أن يحفظها في يومياته، ويخزنها إلى وقت الكتابة”.
ضد الطمأنينة
رواية تفتح باب الريبة والشكوك بشأن مفهوم الإبداع الروائي وتثير الجدل حول مستويات القراءة والتلقي
تلمح “قارئة نهج الدباغين” إلى محطات بارزة في تاريخ تونس، سواء في عهد الاستعمار أو في مرحلة ما بعد الثورة، كما ترصد ظواهر قد تكون جديدة على البيئة التونسية من التشدد والبحث عن الأمجاد الثقافية المزيفة. ويرى رجب أن الرواية لا تنفصل عن محيطها الثقافي، وكلما كانت الرواية متجذرة في بيئتها كلما ذهبت بعيدا.
ويقول “أحب أن أعيد دائما تلك الأمثولة التي تقول إن الطيور تبني أعشاشها من قش حقولها. قد تبدو للبعض أن فكرة رابطة الكتاب الأشباح فكرة عجائبية محضة لكن الحقيقة أن جزءا منها كان قد أملاه عليّ الواقع الثقافي في تونس، فالكتاب الأشباح الذين كتبوا سير السياسيين لا تكاد تحد أعدادهم، والذين وظفوا كتابا أشباحا لكتابة رواياتهم يتحركون في المشهد الثقافي بأقنعة مبدعين، بعضهم أساتذة جامعيون استولوا على أفكار طلبتهم، أو كتاب ألفوا قصائد وقصصا لحبيباتهم وصنعوا منهن أديبات وشواعر، أعرف بعضهن صمتن حين ذهب كتابهن الأشباح. أعرف كذلك كاتبا كانت تكتب له ابنة عمه، وحين تزوجت صمت صاحبنا إلى الأبد”.
لا يغيب الملمح الساخر في أجواء الرواية، ويقع المتلقي على الكثير من العبارات التي يمكن أن تأخذ مدى أوسع من التداول لاحقا، حول اختياره لهذه الصيغة مخالفا لما هو سائد في الرواية العربية من أجواء متشبعة بالكابوسية، يقول رجب “هذا الواقع نكتة حزينة. والسخرية هي أسلوبي في الحياة، هي أسلحتي ضد اليأس والألم. أنا لم أختر هذه الصيغة في الكتابة، إنما هي التي اختارتني ربما. في روايتي الأولى ‘القرد الليبرالي‘ كانت طاغية، وكذلك الشأن في روايتي الثانية ‘مصنع الأحذية الأميركية‘ لكن في هذه الرواية ‘قارئة نهج الدباغين‘ وفي روايتي السابقة ‘اليوم جمعة وغدا خميس‘ كانت السخرية فيهما مجرد غيوم عابرة، رغم تعاملي القاسي في الحد منها، حتى لا تفسد بعض المواضع في الرواية”.
يعتقد بول أوستر بأن مزاج القارئ بمثابة جرس ينبهه إلى ما هو غير مقنع في الرواية. نسأل الكاتب كيف يمكن للمؤلف أن يحتفظ بأوراقه ولا يكشف منها إلا بالقدر الذي يقيد القارئ في منطقة الترقب؟ ليجيبنا “أعتبر أن الروائي العبقري هو الذي يقدر على شد القارئ إلى الصفحات الأخيرة من الرواية، وأنا الآن أتدرب بجد على بلوغ تلك المرتبة. أنا الآن في المرحلة التي أعيش فيها مع القارئ مدا وجزرا في لعبة التشويق، أفشل أحيانا فأحاول تغطية ذلك الفشل باللغة العالية والاستعارات المباغتة والمخاتلة، وأنجح في مناطق أخرى من الرواية، وتصلني الأصداء من خلال مراجعات القراء، فأطرب لذلك ويسكنني الخوف في الآن ذاته. أشعر بأنني أسلك الطريق الصائبة في كتابة الرواية، وأتطور بين رواية وأخرى، وهذا ما يجعلني متوجسا وقلقا دائما، ومتيقظا من الوقوع في مزالق الطمأنينة”.
كه يلان محمد
كاتب عراقي