«حرية حزينة»... رواية نمساوية عن التعاسة في مجتمع الرفاهية
نُشر: 17:12-24 مارس 2024 م ـ 14 رَمضان 1445 هـ
TT
20«أن تكون فرداً من وجهة نظر القانون يعني ألا تلوم غير نفسك على تعاستك، وأن تعترف أن سبب هزائمك الشخصية دائماً ما يكمن في كسلك وبلادتك، والعلاج الوحيد هو أن تحاول وأن تستمر في المحاولة»... تشكل هذه المقولة التي وردت في كتاب «الحداثة السائلة» لعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان مدخلاً مهماً لقراءة رواية «حرية حزينة» للكاتبة النمساوية فريدريكه جيزفاينر الصادرة أخيراً عن دار «العربي» بالقاهرة بترجمة عن الألمانية مباشرة لهارون سليمان.
يدور العمل حول «هانا» التي يبدو من الظلم أن تتحمل بمفردها فاتورة تعاستها على المستوى الشخصي دون أن يكون المجتمع شريكاً في تحمل ولو جزء من النتيجة. إنها فتاة أوشكت أن تتم الثلاثين من العمر ولم تحقق شيئاً من طموحاتها بعد. تقرر أن تختار حريتها لتكون البداية لتحقيق الذات، تترك مدينتها وصديقها ووالديها بالنمسا وتسافر إلى برلين وتعيش صراع البحث عن عمل ومنصب جيد يلائم مؤهلها، فبماذا ستنتهي رحلتها؟ والأصعب من الاختيار بين هذا وذاك تحمل نتائجه، فهي تتحمل قرارها باختيارها حريتها، لكنها حرية حزينة مصحوبة بالوحدة والتعاسة والوضع المادي السيئ، في مجتمع يدعي الرفاهية. وهنا تعيش صراعاً آخر: أترضى باختيارها أم تتخذ قراراً جديداً؟
لقيت الرواية صدى جيداً لدى القراء، وهى الأولى لصاحبتها، كما حصلت على جائزة «الكتاب النمساوي» باعتبارها تطرح أزمة اجتماعية ملحة يعيشها الشباب. والمؤلفة فريدريكه جيزفاينر وُلدت 1980 في تيرول بالنمسا، ودرست العلوم الألمانية والسياسية، وتعمل محررة حرة وناقدة بمجلة «ليتراتور أوند كريتيك» ومركز «ليتراتور هاوس فيينا».
تقول المؤلفة في مقدمة الطبعة العربية:
«وكون الفرد مسؤولاً عن سعادته أو تعاسته هو مبدأ لا يصح إلا عندما يكون الفرد مستقلاً تماماً في هذه الحياة؛ أي عندما يكون قادراً على تدبر أموره دون الحاجة إلى أي شخص آخر. عندما يكون كل منا في مساره الخاص ومنعزلاً تماماً عن الآخر، ولكننا حتى الآن لم نصل إلى ذلك، بل على العكس؛ فنحن البشر لا نستطيع العيش إلا في مجتمع، نحن كائنات اجتماعية لا تعمل إلا في سياق العائلة وسياق الأصدقاء؛ أي سياق المجتمع».
وتضيف: «من الخطأ الاعتقاد أن هذه الحرية التي تتمتع بها أوروبا أو الغرب الحر الديمقراطي شديد الرأسمالية في يومنا هذا أمر مسلّم به أو شيء يتمتع به كل فرد في المجتمع، وأن الحريات الفردية المختلفة ليس لها علاقة ببعضها بعضاً، وأنها توجد جنباً إلى جنب بشكل منفصل ومرتب، والحقيقة أنها توجد معاً كجزء من حرية أكبر، حرية اجتماعية متضمنة حريتي كجزء من المجتمع في لعبة تبادلية مستمرة».
وتوضح أن «قيمة الحرية الحقيقية هشة للغاية، لكن يبدو أن الجميع ينسى هذا الأمر في موطني أوروبا، والافتراض بأن كل إنسان هو مسؤول وحده عن سعادته وتعاسته، ربما يكون أكبر سوء فهم لأوروبا في فترة ما بعد الحداثة، أو للغرب الحر الديمقراطي الرأسمالي؛ لذا تحكي لكم روايتي (حزينة) عن سوء الفهم هذا».
كون الفرد مسؤولاً عن سعادته أو تعاسته هو مبدأ لا يصح إلا عندما يكون الفرد مستقلاً تماماً في هذه الحياة
ومن أجواء الرواية نقرأ:
ترقد «هانا» في حالة شبه وعي، تركيز أفكارها ضعيف جداً. لا تستطيع التفكير في أي شيء سوى أنه يجب عليها النهوض الآن. إنها بحاجة إلى أن تنتزع غطاء النوم من عليها، ثم تضع القدم اليمنى أولاً على الأرضية، ثم اليسرى، وبعدها تتوجه إلى المطبخ. تحتاج إلى 11 خطوة تقطعها قبل أن تفتح الصنبور وتملأ غلاية الماء. تقف على النافذة وتطلق العنان لنظرها إلى الخارج في الفناء فيما الماء يسخن. لكنها لا تزال تحت الغطاء، تفكر في برودة الجو بالخارج وكيف ستكون طقطقة أرضية الصالة المكسوة بالخشب تحت قدميها. تفكر في حذرها عندما تفتح الصنبور، وتخشى اندفاع الماء المثلج. بدا كل هذا لها بائساً وحزيناً، لم تجرؤ أن تنزع الغطاء عنها. دفنت رأسها في الوسادة؛ لأنها لم تكن مستعدة لبرودة الطقس أو طقطقة الأرضية أو تحمل الماء البارد فوق بشرتها. علاوة على ذلك، لا شيء ينتظرها وليس هناك من يتصل ليسأل عنها، ليس لديها عمل ولا أحد ينتظرها في أي مكان، لا أحد يشتاق إليها».
- القاهرة : «الشرق الأوسط»
نُشر: 17:12-24 مارس 2024 م ـ 14 رَمضان 1445 هـ
TT
20«أن تكون فرداً من وجهة نظر القانون يعني ألا تلوم غير نفسك على تعاستك، وأن تعترف أن سبب هزائمك الشخصية دائماً ما يكمن في كسلك وبلادتك، والعلاج الوحيد هو أن تحاول وأن تستمر في المحاولة»... تشكل هذه المقولة التي وردت في كتاب «الحداثة السائلة» لعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان مدخلاً مهماً لقراءة رواية «حرية حزينة» للكاتبة النمساوية فريدريكه جيزفاينر الصادرة أخيراً عن دار «العربي» بالقاهرة بترجمة عن الألمانية مباشرة لهارون سليمان.
يدور العمل حول «هانا» التي يبدو من الظلم أن تتحمل بمفردها فاتورة تعاستها على المستوى الشخصي دون أن يكون المجتمع شريكاً في تحمل ولو جزء من النتيجة. إنها فتاة أوشكت أن تتم الثلاثين من العمر ولم تحقق شيئاً من طموحاتها بعد. تقرر أن تختار حريتها لتكون البداية لتحقيق الذات، تترك مدينتها وصديقها ووالديها بالنمسا وتسافر إلى برلين وتعيش صراع البحث عن عمل ومنصب جيد يلائم مؤهلها، فبماذا ستنتهي رحلتها؟ والأصعب من الاختيار بين هذا وذاك تحمل نتائجه، فهي تتحمل قرارها باختيارها حريتها، لكنها حرية حزينة مصحوبة بالوحدة والتعاسة والوضع المادي السيئ، في مجتمع يدعي الرفاهية. وهنا تعيش صراعاً آخر: أترضى باختيارها أم تتخذ قراراً جديداً؟
لقيت الرواية صدى جيداً لدى القراء، وهى الأولى لصاحبتها، كما حصلت على جائزة «الكتاب النمساوي» باعتبارها تطرح أزمة اجتماعية ملحة يعيشها الشباب. والمؤلفة فريدريكه جيزفاينر وُلدت 1980 في تيرول بالنمسا، ودرست العلوم الألمانية والسياسية، وتعمل محررة حرة وناقدة بمجلة «ليتراتور أوند كريتيك» ومركز «ليتراتور هاوس فيينا».
تقول المؤلفة في مقدمة الطبعة العربية:
«وكون الفرد مسؤولاً عن سعادته أو تعاسته هو مبدأ لا يصح إلا عندما يكون الفرد مستقلاً تماماً في هذه الحياة؛ أي عندما يكون قادراً على تدبر أموره دون الحاجة إلى أي شخص آخر. عندما يكون كل منا في مساره الخاص ومنعزلاً تماماً عن الآخر، ولكننا حتى الآن لم نصل إلى ذلك، بل على العكس؛ فنحن البشر لا نستطيع العيش إلا في مجتمع، نحن كائنات اجتماعية لا تعمل إلا في سياق العائلة وسياق الأصدقاء؛ أي سياق المجتمع».
وتضيف: «من الخطأ الاعتقاد أن هذه الحرية التي تتمتع بها أوروبا أو الغرب الحر الديمقراطي شديد الرأسمالية في يومنا هذا أمر مسلّم به أو شيء يتمتع به كل فرد في المجتمع، وأن الحريات الفردية المختلفة ليس لها علاقة ببعضها بعضاً، وأنها توجد جنباً إلى جنب بشكل منفصل ومرتب، والحقيقة أنها توجد معاً كجزء من حرية أكبر، حرية اجتماعية متضمنة حريتي كجزء من المجتمع في لعبة تبادلية مستمرة».
وتوضح أن «قيمة الحرية الحقيقية هشة للغاية، لكن يبدو أن الجميع ينسى هذا الأمر في موطني أوروبا، والافتراض بأن كل إنسان هو مسؤول وحده عن سعادته وتعاسته، ربما يكون أكبر سوء فهم لأوروبا في فترة ما بعد الحداثة، أو للغرب الحر الديمقراطي الرأسمالي؛ لذا تحكي لكم روايتي (حزينة) عن سوء الفهم هذا».
كون الفرد مسؤولاً عن سعادته أو تعاسته هو مبدأ لا يصح إلا عندما يكون الفرد مستقلاً تماماً في هذه الحياة
ومن أجواء الرواية نقرأ:
ترقد «هانا» في حالة شبه وعي، تركيز أفكارها ضعيف جداً. لا تستطيع التفكير في أي شيء سوى أنه يجب عليها النهوض الآن. إنها بحاجة إلى أن تنتزع غطاء النوم من عليها، ثم تضع القدم اليمنى أولاً على الأرضية، ثم اليسرى، وبعدها تتوجه إلى المطبخ. تحتاج إلى 11 خطوة تقطعها قبل أن تفتح الصنبور وتملأ غلاية الماء. تقف على النافذة وتطلق العنان لنظرها إلى الخارج في الفناء فيما الماء يسخن. لكنها لا تزال تحت الغطاء، تفكر في برودة الجو بالخارج وكيف ستكون طقطقة أرضية الصالة المكسوة بالخشب تحت قدميها. تفكر في حذرها عندما تفتح الصنبور، وتخشى اندفاع الماء المثلج. بدا كل هذا لها بائساً وحزيناً، لم تجرؤ أن تنزع الغطاء عنها. دفنت رأسها في الوسادة؛ لأنها لم تكن مستعدة لبرودة الطقس أو طقطقة الأرضية أو تحمل الماء البارد فوق بشرتها. علاوة على ذلك، لا شيء ينتظرها وليس هناك من يتصل ليسأل عنها، ليس لديها عمل ولا أحد ينتظرها في أي مكان، لا أحد يشتاق إليها».