السرد الأدبي والنقد في المغرب تحكمهما سلطة الحديث وجاذبية القديم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • السرد الأدبي والنقد في المغرب تحكمهما سلطة الحديث وجاذبية القديم

    السرد الأدبي والنقد في المغرب تحكمهما سلطة الحديث وجاذبية القديم


    هل خلق السرد المغربي خصوصيته التي يرجوها.
    الأربعاء 2024/03/20
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    الأدب يخلق متعة الوعي (لوحة للفنان علي رضا درويش)

    حققت الرواية المغربية نجاحات هامة على المستوى العربي في العقود الأخيرة، ما لفت الانتباه إلى خصوصياتها وكيف تكتب خاصة مع اختلافها عما يكتب في الشرق من أدب. لكن هذه البحوث وإن كانت منقوصة فإنها دعوة ملحة اليوم إلى فهم طرق تشكل التيارات السردية وخلق وعي ملم بها.

    عرف السرد الروائي والقصصي في المغرب طفرة مهمة، شدت انتباه العالم العربي، رغم أن النقد في المغرب لم يحوله بعد إلى ورشة للاشتغال، ليس قصد التعريف به، بل الكشف في متونه عن القيم الجمالية المضافة إلى مشهدنا الأدبي، وكيفيات التعبير عن القضايا المطروحة فيه، بأي لغة كتبت؟ وأي آليات استخدمت؟ ما مدى أصالتها؟ ومن أين تمتح؟

    مثل هذه الأسئلة كفيلة ببث روح المتابعات النقدية، التي عليها الانتقال من مقاربات النظرية التي تزخر بها الساحة الفكرية، ومحاولات تطبيقها على نصوصنا، ربما يتم من خلالها كشف الخفي في النص وتأكيد فعالية نظرية ما، وبذلك نثبت كونية النظريات المقاربة والفاحصة لفن السرد وحتى الشعر، بل إن الجديد كما أزعم، ليس في تقنيات الكتابة، كالاسترجاع وتكسير التتابع الزمني، أو جعل السرد نفسه أو صاحبه تيمة، بل إن قوة السرد هي لغته، وهنا ضرورة الشعري في الرواية والقصة، صورة أكثر تعبيرية عن المتخيل وحتى المعيش كما يراه الروائي أو القاص.
    الأشياء واللغة والزمن


    الجديد في الرواية ليس تقنيات الكتابة كالاسترجاع وتكسير التتابع الزمني وغيرهما بل قوة السرد التي تكمن في لغته

    يعرف المشهد السردي المغربي تحولات مست القضايا التي اعتاد الأدب المغربي التطرق إليها، بحثا عن خلق مسافات بينه وبين السرد المشرقي والعربي بشكل عام.

    وقد اعتاد الفكر المغربي على تمييز نفسه، بما يفيد نزعاته العقلانية، وتجاوزه المبكر لقضايا يبدو أنها كانت محكومة بما يشبه الحكم والمواعظ الروحية التي ميزت السرد المشرقي وروحانياته حتى في جرأته على فضح اليومي، ومراعاته للشعور العام، بحيث ظل الجسد في التجارب التأسيسية محاطا بما يشبه الانزياحات المقصودة والمراعية للحكم الجمعي، النافر مما يمس قيم الاستحياء العام، مع وجود محاولات ذات جرأة زائدة في المشهد العربي، خصوصا العراقي منه ومن الروائيين الذين عاشوا خارج بلدانهم، بعيدين عن التأثيرات العامة، التي كانت تلاحقهم اجتماعيا.

    كانت التجارب المغربية بعيد الاستقلال محافظة على النزوعات المتجنبة لإثارة الحس الجماعي، ما عدا ما كتب باللغة الفرنسية، وبذلك نوع السرد المغربي تيماته من خلال القضايا التي اختارها الروائيون المغاربة وكيفيات التعامل حتى مع القضايا القديمة، وبذلك وجدت الأشياء طريقها للبروز في السرد المغربي، ولم تعد مجرد أثاث، يسهل استعراض القدرة التوصيفية للقاص أو الروائي، بل غدت الأشياء كائنات فارضة لوجودها، وحتمت اعتبارها وظائف توحي بتشظي العالم، وعدم قدرة الكائن البشري على تملكه والتصرف به كما يشاء.

    امتدت متغيرات كثيرة للغة السرد المغربي، وتقاسمت التنوع التعبيري، حسب اختيارات المبدعين، فبرز التعبيري المفارق، ذاك الذي يبحث في القول عن لبسه وليس وضوحه، ليرغم القارئ على تجديد الصور المعتادة في ذهنه، وتطهيرها من المكرر والمعتاد، بحيث تبدو التعابير مستجدة في عالم التواصل السردي، بما تحبل به من مفارقات تعبيرية، تغني المشهد، بعيدا عما عرف بالعبثية أو حتى اللاعقلانية، التي تعتبر العالم فوضى نظمها العقل حفاظا على سيادة الإنسان وقبولا بحضوره الجوهري الوهمي.

    في المقابل كانت للسرد المغربي المعاصر اختيارات أخرى، متحت من الشاعري، بحيث حاولت التأثير جماليا في المتلقي، لينصت من خلال القراءة لإيقاعات الكلمات، وهي تنجز متونها الجميلة حتى وهي في أقصى درجات دراميتها وسوداويتها الجميلة، وهنا أستحضر فعل التخييل بآليات لا تستحضر الأشياء بل صورها المغايرة لها في وجود مخالف للوجود الواقعي كما دشنته الرواية الواقعية والقصة المحاكية لتيمات الحياة المعيشة كيفما اتفق.

    ونلاحظ عناية الرواية المربية بالشخوص والأزمنة، إذ لم يعد الشخص كائنا، يجد السارد ليجعل منه كائنا منسجما نفسيا مع ما يقدم عليه، كبطل، يواجه، من يعيشون مفارقات بين ما يعتقدون وما يفعلون، كصيغة معوضة لصراعات الشر والخير كما ابتدعت في الأساطير والسرود القيمية والوعظية التي تعيشها التجارب الأدبية في بداياتها وقد تعود إليها بطرق مختلفة في درجات ظهورها واختفائها، فالشخوص صارت حاضرة بأصواتها، وأحيانا كذكرى في المكتوب للسير الذاتية أو التاريخية، مع التصريح بتضارب أحكام الناس حولها.

    السارد نفسه لم تعد له القدرة على حسم الحكم على الشخصيات، فهو واحد ممن عايشوها وليست له أي سلطة مرجعية عليها، وبذلك حتى الزمن نفسه تأثر بهذه التركيبة الأدبية، ولم يعد ممتدا مع حياة الموجودات العاقلة في الأحداث، بل إن الأحداث نفسها لم تعد المجسد الفعلي للزمن، بل إن الزمن لا يستحضر كمرادف للحياة أو استعادة لها، إذ هو نفسه لم يعد شاهدا على شيء، بل هو حضور ضبابي، لا يزاح لكنه لا يزيح الأحداث ولا الشخوص.
    الأدب وسلطته




    الفكر في الآداب، مختلف عن كل أصناف الفكر الأخرى، إنه فكر المتعة، وأجمل المتع ما كان لعبا، وليس لعبة، أي ما لا نرجو منه أي منفعة مادية، فليس تجارة، ولا يشبع بطون القراء، إنه فقط مصدر ابتهاج، وليس معنى ذلك أنه مفرح بالضرورة، فالمتعة الجمالية، لا تتحقق فقط بالفرحة، بل حتى بالحزن، عندما تكتئب حزنا على شخص أو من قضية ما، فإنك تجدد انتماءك إلى الإنسانية جمعاء، أليس هذا الشعور منتهى السعادة؟

    هذا ما أعتقد، إن الآداب، تجعل من لحظة المتعة وعيا، وربما من الوعي متعة، رغم أن الأدب يخدش الوعي الفردي والجماعي، ويؤجج فيه الجموح والرفض للمعتاد، في القول والحياة، من هنا تبدأ سلطته، لكنها سلطة، لا تستمد وجودها من السلط المعتادة، ولا من عنفها، ولا من سطوة الفكر الرمزية.

    سلطة الآداب، إنصات عميق لحاجات لا أحد يريد الاعتراف بها، إن هذا المبتغى، ليس له درب واحد، بل هناك طرق اختلفت باختلاف الحضارات، وتفاعلت فيما بينها، بل تلاقحت، بدون أن تكرر ذاتها، بتقليد الغير فيما لا يمكن اعتباره إبداعا وابتكارا، بل مجرد تشبه به، وإن كان التقليد يعتبر وسيلة للتعلم، فإنه في مجالات الإبداع يعتبر استلابا تشبها روحيا بالمختلف أو محاولة للتماهي معه، فبأي حجة يمكننا الدفاع عن فكرة تقليد آداب الغرب والانتصار لنموذجه، واعتباره أقصى درجات التطور الإبداعي؟ وهل رفض ذلك يعني العودة إلى ماضينا الأدبي بغية تكراره والحفاظ على فنياته؟

    إنسانية الأدب فكرة صحيحة، فكل إبداع حتما هو موجه للإنسانية، إذ لم تعد اللغة عائقا بين المواطن الكوني، وقد فرضت العولمة تصور العالم كقرية صغيرة، وغدت حاجات الناس متشابهة بشكل غريب، فالمشتريات في العالم والمستهلكات صارت متطابقة، والنقل سهل إيصال هذه المتطلبات الحيوية لكل بقاع العالم بما فيها القرى النائية، فهل الإبداعات الأدبية سلعة؟ وهل تلبية الحاجات الفنية الروحية هي نفسها؟ فإن كان الغرب نموذجا في الصناعة والحرية وحتى الكرامة الإنسانية، والعلوم خصوصا، هل ذلك مبرر لأن نبدع كما أبدع روائيوه وأصحاب الفكر فيه؟ أليست الأذواق باعتراف فلاسفته مختلفة حتى داخل الحضارة الواحدة، فكيف نريد افتراض قيم جمالية موحدة تبريرا لتكرار نماذجه الأدبية؟ ألا ندرك أنه هو نفسه يساعد على ذلك، بتتويج أعمالنا الأدبية التي كتبت على مقاس مدارسه النقدية، بينما ترفض ثقافات الغرب المختلفة عن بعضها جزئيا تسويق نموذج فرنسي أو أميركي بحجة انمحاء الحدود باسم القيم الإنسانية المشتركة.

    التميز عندما نرغب في تحقيقه في زمن قياسي ونعتقد بفكرة حرق المراحل فإننا نسقط في تكرارية قاتلة

    ينتمي الأدب حتما إلى الثقافة والحضارات تتمايز عن بعضها البعض باختلاف ثقافاتها، مع ضرورة عدم الوقوع في الخصوصية المغلقة، خصوصا بتبريراتها الدينية المتعصبة. ومادام الأمر كذلك، فالأدب تعبير عن حاجة وجدانية تختلف باختلاف العصور والثقافات، ولم تستطع أي حضارة فرض نموذجها الثقافي إلا على الحضارات المنهارة والمجتثة بفعل عنيف عصف بتراثها الفكري والفني والأدبي، أما وهي موجودة وحية فلها حتما مقوماتها الأدبية، وبصيغة أخرى، فبدل أن أقرأ المقلد لغيره في الأدب الغربي، أفضل الذهاب إلى الجذور بدل الفروع.

    مادامت اللغات لم تعد تشكل حاجزا، وإن حدث ذلك فهناك اكتشاف قديم اسمه الترجمة هي مرحلة تمر منها كل الحضارات حتى لا تسقط في التكرار الفج لما يبدعه الآخرون، وفي هذه الحالة فإن الصور غير الحقيقية سرعان ما تنسى وتضمر حقيقتها دون أن تخلف أي أثر يذكر، ولتلافي هذه الحالة، لا بد من جهد نقدي يستحضر درجات حضور الغربي أدبيا في الإنتاجات العربية والتدقيق في قدرته على الاستفادة مما هو مغاير من دون تكراره مشوها أو مخفيا بسذاجة أدبية مضحكة.

    أما التفاعل التأصيلي فهو عملية واعية، يمارس بها الأديب قراءاته لما جد في عالم الإبداع العالمي، دون اختزال ذلك في لغة أوروبية واحدة، بل حتى بتجاوز مركزية الغرب نفسها، فهناك حضارات أخرى، لم تكتشف كليا إبداعاتها الأدبية، والأدباء الغربيون أنفسهم يبحثون فيها أنثروبولوجيا وحتى أدبيا، فالأديب لا يخنق نفسه، لكنه يؤرقها بما يستشعره بعد أن ينهك نفسه أدبيا، ويشعر أن خياله ضاق، وعليه أن ينعشه بإضافات جديدة، وأصيلة، ولا ضير من إطلالات على آثار الغير الأدبية بدون أي شعور بالدونية أو الفوقية المغايرة، التي نعاني منها خصوصا في المغرب مع الإشادة المفارقة بما ننعته بالآداب المغربية، رواية وقصة وحتى شعرا، بل هناك من يفاخر بمصادره الغربية التي استوحى منها نموذجه في الكتابة الأدبية بدون تمهل أو حتى خجل.

    نخلص إلى أن التميز عندما نرغب في تحقيقه في زمن قياسي، ونعتقد بفكرة حرق المراحل، نسقط في تكرارية قاتلة، قد تعطل بناء الذات الأدبية، وتسقطها في عقم لا يبدع نموذجه الخاص، بل يحين لماض منه أو يستورد الحديث ليؤثث به مشاهده، رغبة في تحقيق عالمية، مختزلة بدرجات تحنيط جديد أو دفن قديم حتى لو كان حيا.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    حميد المصباحي
    كاتب وأكاديمي مغربي
يعمل...
X