شاعر يضحك على الأطلال وآخر يتذكر الحدائق
الشاعر العراقي – العماني عبدالرزاق الربيعي يراهن على ديوانه الجديد وعلى عمق سخريته من الواقع المشبع باللاواقعية.
الخميس 2024/03/21
ShareWhatsAppTwitterFacebook
عوالم شعرية مثيرة (لوحة للفنان علاء البابا)
عمّان - قدمت دار “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن مؤخرا ديوانين شعريين جديدين، لشاعرين مختلفين في التجربة، ولكنهما يمثلان إطلالة على جزء من الشعر العربي المعاصر من سلطنة عمان إلى فلسطين.
ويقدم الشاعر العراقي – العماني عبدالرزاق الربيعي نفسه في ديوانه الأخير “ضحك على الأطلال” وقد بدا ناضج الحضور، يقهقه على أطلال زمن أثخنته الجراح، محاولا رسم ابتسامة في وجه القبح.
وإسهام الشاعر والكاتب المسرحي عبدالرزاق الربيعي في المشهد الثقافي العربي بالشعر والمسرح والكتابة بكل ألوانها الإبداعية وحضوره الوازن في المحافل الإبداعية والإعلامية، يشكل علامة فارقة في الساحة الشعرية العربية، مما يجعل ديوانه الأخير يأخذ أهمية من خلال ما يطرح من رؤى ومفارقات شعرية وجمالية تختزل تجربة كبيرة في هذا الديوان.
ويراهن الربيعي الذي أثرى المكتبة العربية بما يقرب من أربعين كتابا معظمها في الشعر، والمسرح، على ديوانه الجديد وعلى عمق سخريته من الواقع المشبع باللاواقعية، وبالموت، وانعدام الأمن لمجتمعات كاملة على سر الكلمة وقدرتها على اختراق السائد لخلق ابتسامة أو تشكيل موقف أو صياغة نبوءة جديدة.
يقول الشاعر علي جعفر العلاق “تكاد قصيدة الشاعر عبدالرزاق الربيعي تكون صورة عنه. نقية، وجارحة، ومنطلقة الأسارير. لكنها تخفي، وراء ابتسامتها العريضة، وضحكتها الطفولية قدرا عاليا من الألم والمحبة، وتضمر، رغم إقبالها على الحياة ومخالطة الناس، إحساسا باليتم والعزلة قل نظيره بين مجايليه من الشعراء”.
وفي رصده لتجربة الربيعي يقول الناقد حيدر عبدالرضا “إن تجربة الربيعي محكومة دائما في منبعها الشعوري، والنفسي والتكويني، والأسلوبي بمرجعية المادة القرآنية، والتاريخية، والأسطورية، والحكاية الشعبية الموروثة، غير أنها في الوقت نفسه في كافة جموحاتها، وجنوحاتها، وشفراتها، ومشاهدها، وإلهاماتها، وزواياها، أخذت تقدم لذاتها، وللقراءة شكلا صار يرتبط وحدود التجربة الحداثوية في كافة أسئلتها وهمومها”.
وفي ديوانه والذي يحتوي العديد من القصائد المتنوعة يبدأ في محاكمة الملك الضليل في قصيدة من أجندة “الملك الضليل” فيقول: “حينما/ تنثر أوراقك/ في الليل/ على طاولة الريح/ فماذا ترتجي/ غير سيول الويل؟”.
يحاول الربيعي من خلال الاحتشاد في الصور والمعاني ومن خلال ثقافته الواسعة أن يحيل الحاضر تاريخا وأن يجعل التاريخ حاضرا بفعل صور إبداعية عالية تربط بين الماضي والحاضر بخيط ناعم.
وعلى مساحة ممتدة في أرض من المفارقات الإبداعية يتسع الديوان للعديد من القصائد منها: حوت، مصيدة، دوامة، لظى، المغيب، تحت ظلال «دم الأخوين»، رقصة على حائطٍ أزرق، كولاج، غابة «سبينوزا»، أبجديات الطين، وغيرها من نصوص يكرس من خلالها رؤاه الذاتية في مسار العالم.
أما الشاعر الفلسطيني علي مي فيُهدي ديوانه الأخير “مطر لتراب حدائقهن” إلى بلاده الشاهقة، وأبنائها الذين يواجهون الألم بابتساماتهم التي لا تعرف الذبول.
ويقدم الشاعر الحائز على المركز الثاني بجائزة الشارقة للإبداع الأدبي في مجال الشعر، عن مجموعته “نهار الغزالة”، صورا شعرية تؤثثها لحظات التراجيديا الفلسطينية، وتسند إيقاعاتها رؤى حالمة بغد تتحرر فيه مدن الحياة من هذا الموت.
يقول: “أرفع الحزن عـن صدر أغنيتي/ وأعود إلى جـسدي آخر الليل/ أضحك../ والقـلب زيتونة هـشمتها الفؤوس./ والخيل مجنونة منذ موت البسوس/ وإنْ قيل لا بد من طللٍ بعد هـذا/ فما ضر بعد وقوفي الطويل الجلوس”.
وبتفاصيل تسكن الشاعر الذي يقرأ أرضه، حجرا وتربة ونباتا وماء وكائنات وأساطير وتاريخا حضاريا وتراثا شعبيا، يؤنسن صاحب ديوان “مطر لتراب حدائقهن” كل شيء في هذا المحيط ليصنع الحياة التي يحلم بها، ويجعل من كل الكائنات بشرا يشعرون بالغياب، كما في قصيدة السروة التي أسرج خيالاتنا معها وجعل منها مقاوما شرسا، وحلما يراود كل من يعشق الحرية: “وقبل أن أجن/ قبل أن أصير شاعرا/ كنت أرى السروة في الحديقة/ مسلـة خضراء فوق رقعة الخليقة/ وبعد أن جننت/ بعد أن أصبحت شاعرا/ أمسكت مرغما بجمرة الحقيقة/ رأيتها سجينة العراء”.
وفي مديح كائنات الهامش لا يتوقف علي مي عن استنهاض الحياة حتى في من لا نعتقد أنهم يستحقونها، ووفق بنية سردية شعرية ترسم صورة أخرى لمقامات لم نكن ندركها، معلنا انحيازه لهذه الكائنات وحقها في الحب والحياة والمديح، كما هو حق من ننحاز لهم، مؤكدا على حق الجميع في الحياة، رافضا التعالي البشري المقيت.
وحين ينوء الشاعر بحمل الحقيقة يتوقف ليسمع همس قلبه، القلب العاشق، فيبوح بسر عشقه لمدن كانت في طريق الحياة نبوءات شاعر ومحطات أسرار ووجع، فكانت إربد إذ تـقصي عـن الفـجر الغزال ذئابه، ودمشق في شجن دمشقي، وبغداد في نشيد تشرين، والقاهرة في شهقات أخيرة، ليوقع الشاعر على مسارات ما تزال تجرح الذاكرة بالحنين، وترسم في الأفق ظلال البعيد.
وعلى عزف الدم الفلسطيني ينشد علي مي أناشيد كنعانية، يرسم فيها ملامح يوسف، الفتى الغزي مشهرا سيف الوجع في حوارية بينه وبين أمه، ثم يمر على شهيدة الكلمة شيرين أبوعاقلة، وريم بنا، وناي البرغوثي، حتى يتوقف عند صديقات أمه، ليكوي جراحه على مصاطب أعمارهن بكل حنين.
الشاعر العراقي – العماني عبدالرزاق الربيعي يراهن على ديوانه الجديد وعلى عمق سخريته من الواقع المشبع باللاواقعية.
الخميس 2024/03/21
ShareWhatsAppTwitterFacebook
عوالم شعرية مثيرة (لوحة للفنان علاء البابا)
عمّان - قدمت دار “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن مؤخرا ديوانين شعريين جديدين، لشاعرين مختلفين في التجربة، ولكنهما يمثلان إطلالة على جزء من الشعر العربي المعاصر من سلطنة عمان إلى فلسطين.
ويقدم الشاعر العراقي – العماني عبدالرزاق الربيعي نفسه في ديوانه الأخير “ضحك على الأطلال” وقد بدا ناضج الحضور، يقهقه على أطلال زمن أثخنته الجراح، محاولا رسم ابتسامة في وجه القبح.
وإسهام الشاعر والكاتب المسرحي عبدالرزاق الربيعي في المشهد الثقافي العربي بالشعر والمسرح والكتابة بكل ألوانها الإبداعية وحضوره الوازن في المحافل الإبداعية والإعلامية، يشكل علامة فارقة في الساحة الشعرية العربية، مما يجعل ديوانه الأخير يأخذ أهمية من خلال ما يطرح من رؤى ومفارقات شعرية وجمالية تختزل تجربة كبيرة في هذا الديوان.
ويراهن الربيعي الذي أثرى المكتبة العربية بما يقرب من أربعين كتابا معظمها في الشعر، والمسرح، على ديوانه الجديد وعلى عمق سخريته من الواقع المشبع باللاواقعية، وبالموت، وانعدام الأمن لمجتمعات كاملة على سر الكلمة وقدرتها على اختراق السائد لخلق ابتسامة أو تشكيل موقف أو صياغة نبوءة جديدة.
يقول الشاعر علي جعفر العلاق “تكاد قصيدة الشاعر عبدالرزاق الربيعي تكون صورة عنه. نقية، وجارحة، ومنطلقة الأسارير. لكنها تخفي، وراء ابتسامتها العريضة، وضحكتها الطفولية قدرا عاليا من الألم والمحبة، وتضمر، رغم إقبالها على الحياة ومخالطة الناس، إحساسا باليتم والعزلة قل نظيره بين مجايليه من الشعراء”.
وفي رصده لتجربة الربيعي يقول الناقد حيدر عبدالرضا “إن تجربة الربيعي محكومة دائما في منبعها الشعوري، والنفسي والتكويني، والأسلوبي بمرجعية المادة القرآنية، والتاريخية، والأسطورية، والحكاية الشعبية الموروثة، غير أنها في الوقت نفسه في كافة جموحاتها، وجنوحاتها، وشفراتها، ومشاهدها، وإلهاماتها، وزواياها، أخذت تقدم لذاتها، وللقراءة شكلا صار يرتبط وحدود التجربة الحداثوية في كافة أسئلتها وهمومها”.
وفي ديوانه والذي يحتوي العديد من القصائد المتنوعة يبدأ في محاكمة الملك الضليل في قصيدة من أجندة “الملك الضليل” فيقول: “حينما/ تنثر أوراقك/ في الليل/ على طاولة الريح/ فماذا ترتجي/ غير سيول الويل؟”.
يحاول الربيعي من خلال الاحتشاد في الصور والمعاني ومن خلال ثقافته الواسعة أن يحيل الحاضر تاريخا وأن يجعل التاريخ حاضرا بفعل صور إبداعية عالية تربط بين الماضي والحاضر بخيط ناعم.
"ضحك على الأطلال" عصارة تجربة شعرية متعددة المشارب و"مطر لتراب حدائقهن" قصائد من ألم فلسطيني مازال مستمرا
وعلى مساحة ممتدة في أرض من المفارقات الإبداعية يتسع الديوان للعديد من القصائد منها: حوت، مصيدة، دوامة، لظى، المغيب، تحت ظلال «دم الأخوين»، رقصة على حائطٍ أزرق، كولاج، غابة «سبينوزا»، أبجديات الطين، وغيرها من نصوص يكرس من خلالها رؤاه الذاتية في مسار العالم.
أما الشاعر الفلسطيني علي مي فيُهدي ديوانه الأخير “مطر لتراب حدائقهن” إلى بلاده الشاهقة، وأبنائها الذين يواجهون الألم بابتساماتهم التي لا تعرف الذبول.
ويقدم الشاعر الحائز على المركز الثاني بجائزة الشارقة للإبداع الأدبي في مجال الشعر، عن مجموعته “نهار الغزالة”، صورا شعرية تؤثثها لحظات التراجيديا الفلسطينية، وتسند إيقاعاتها رؤى حالمة بغد تتحرر فيه مدن الحياة من هذا الموت.
يقول: “أرفع الحزن عـن صدر أغنيتي/ وأعود إلى جـسدي آخر الليل/ أضحك../ والقـلب زيتونة هـشمتها الفؤوس./ والخيل مجنونة منذ موت البسوس/ وإنْ قيل لا بد من طللٍ بعد هـذا/ فما ضر بعد وقوفي الطويل الجلوس”.
وبتفاصيل تسكن الشاعر الذي يقرأ أرضه، حجرا وتربة ونباتا وماء وكائنات وأساطير وتاريخا حضاريا وتراثا شعبيا، يؤنسن صاحب ديوان “مطر لتراب حدائقهن” كل شيء في هذا المحيط ليصنع الحياة التي يحلم بها، ويجعل من كل الكائنات بشرا يشعرون بالغياب، كما في قصيدة السروة التي أسرج خيالاتنا معها وجعل منها مقاوما شرسا، وحلما يراود كل من يعشق الحرية: “وقبل أن أجن/ قبل أن أصير شاعرا/ كنت أرى السروة في الحديقة/ مسلـة خضراء فوق رقعة الخليقة/ وبعد أن جننت/ بعد أن أصبحت شاعرا/ أمسكت مرغما بجمرة الحقيقة/ رأيتها سجينة العراء”.
وفي مديح كائنات الهامش لا يتوقف علي مي عن استنهاض الحياة حتى في من لا نعتقد أنهم يستحقونها، ووفق بنية سردية شعرية ترسم صورة أخرى لمقامات لم نكن ندركها، معلنا انحيازه لهذه الكائنات وحقها في الحب والحياة والمديح، كما هو حق من ننحاز لهم، مؤكدا على حق الجميع في الحياة، رافضا التعالي البشري المقيت.
وحين ينوء الشاعر بحمل الحقيقة يتوقف ليسمع همس قلبه، القلب العاشق، فيبوح بسر عشقه لمدن كانت في طريق الحياة نبوءات شاعر ومحطات أسرار ووجع، فكانت إربد إذ تـقصي عـن الفـجر الغزال ذئابه، ودمشق في شجن دمشقي، وبغداد في نشيد تشرين، والقاهرة في شهقات أخيرة، ليوقع الشاعر على مسارات ما تزال تجرح الذاكرة بالحنين، وترسم في الأفق ظلال البعيد.
وعلى عزف الدم الفلسطيني ينشد علي مي أناشيد كنعانية، يرسم فيها ملامح يوسف، الفتى الغزي مشهرا سيف الوجع في حوارية بينه وبين أمه، ثم يمر على شهيدة الكلمة شيرين أبوعاقلة، وريم بنا، وناي البرغوثي، حتى يتوقف عند صديقات أمه، ليكوي جراحه على مصاطب أعمارهن بكل حنين.