الفيلسوف صار رأسا بلا جسم بعيدا عن الضجيج الأرضي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفيلسوف صار رأسا بلا جسم بعيدا عن الضجيج الأرضي

    الفيلسوف صار رأسا بلا جسم بعيدا عن الضجيج الأرضي


    بول نيزان: الفلاسفة لم يكونوا يوما أرواحا نقية ولا أبناء طبيعيين للسماء.
    الأحد 2024/03/17

    الفلاسفة مجرد تماثيل اليوم

    يكفي تفحص سريع لواقعنا المعاصر لنرى غياب الفلاسفة والفلسفة عنه بشكل مريب، إذ تخلوا عن وظيفتهم في الاحتكاك بواقع الناس وحيواتهم ليهيموا في عالم فكري مواز، يجعلهم بعيدين تماما عن أيّ تأثير. وهذا ليس جديدا إذ نقد الفيلسوف والروائي الفرنسي بول نيزان هذه الظاهرة منذ مطلع القرن العشرين، وكأنه يتحدث عن واقعنا اليوم بكل دقة.

    ماذا لو خرج علينا الكاتب والسياسي والفيلسوف والروائي الفرنسي بول نيزان ورأى وتابع رؤى وأفكار وقراءات نخبة من المفكرين والفلاسفة المعاصرين، والتي تسعى إلى الحفاظ على سلطتها وعلاقاتها مع السلطات السياسية والدينية والاقتصادية، دون الانحياز إلى الواقع الإنساني وما يجابهه من مشكلات كارثية؟

    أظن أن نيزان لم يكن ليقول أكثر مما قال حيث أدان بشكل واضح وندد بفلاسفة عصره ومفكريه، هؤلاء الذين مثلهم مثل القائمين حاليا يستترون تحت غطاء الحيادية والموضوعية الفكرية، لينصبوا أنفسهم حراسا حقيقيين للأنظمة القائمة سواء في الشرق أو الغرب، لقد اعتبرهم مجموعة من المنظرين للمثالية وللسعادة دون التفكير في آلام الإنسانية من دكتاتوريات وآليات قمع للحرية وصراعات دموية وحروب ومجاعات، بحكم كونهم قريبين للسلطة الحاكمة أو يتوددون إليها ليصيروا كذلك.
    المبجلون المتملصون


    الفلاسفة جاهلون بكيفية تكون بني الإنسان، غير عارفين بتاتا بما يأكلون بمنازلهم، بملابسهم، وكيف يموتون ويعيشون وغيره

    يقول نيزان في كتابه “كلاب الحراسة”، الذي ترجمه أخيرا صلاح بن عياد وصدر عن دار صفحة سبعة، “ليس ثمة من أسئلة أكثر بذاءة من هذه الأسئلة التي نطرحها هنا، والتي طفت على السطح. إذ تدعي الفلسفة الحالية وتعتقد بأنها تسير في صالح الإنسان، هل هي موجهة كحقيقة وليست مجرد خطابات رنانة ومعتقدات في صالح أناس حقيقيين؟ ماذا يمكن أن تقدم لهؤلاء الناس؟ كيف يمكن أن تكون العلاقات التي تجمعها بهم؟ فباسم الإنسان وحده ومن جوانبه يمكن أن ينجلي الغموض المحيط بكلمة فلسفة. لا ينبغي الوثوق أبدا بوعود خطاب فضفاض ومجرد ببذخه المتكاسل الذي يتدفق من مفرداته”.

    ويشير إلى تأكيد مؤرخي الفلسفة الذين يمثلون الغالبية الساحقة من فلاسفة هذا العصر على أن الأفكار دائمة الخضوع لقوانين استثنائية خاصة بحقبة ما من الوجود الإنساني، ويزعمون أنهم مقتنعون بهذا التأكيد الذي يتبنونه. فالفكر يبدو لهم نشاطا متناهي النقاء، تمارسه كائنات بلا مكان ولا زمان ممن هم ليسوا موحدين في جسم واحد، فهم كائنات بلا عناوين في النهاية. ويقول هؤلاء المفكرون في معظمهم إن الفلسفة تتمثل وعبر كل مسارها التاريخي في تقديم وسحب قطع متحركة فوق رقعة من الأفكار. يا لهذه التراكيب الممكنة! يا للأجزاء الجميلة المُقتَرحة على الحكماء، لو فقط يطبقون قواعد هذه اللعبة المعقدة التي تعتمد المهارة والتي هي من استنباط هؤلاء المؤرخين!

    ويضيف “تبدو شريحة الفلاسفة وكأنها مغلفة بصفات متفردة، إلا أن هذا التفرد لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير غياب الصفات نهائيا. هي شريحة تضم مجموعة ساكنة من البشر، متمازجة في الامتداد الفسيح، في مهب ذكرى التاريخ التي لا تدخل مطلقا في علاقة مع المجموعات البشرية الأخرى، تماما مثلما شريحة الأسياد، رجال الدين، التجار، البورجوازيين، الحرفيين، الجنود. إليكم إذن هذا الديوان البشري الذي يبدو معفى من الظروف المحلية والزمنية التي تسمح في مجملها لكل الحالات المتنوعة بأن تُحدد مواقع التجمعات البشرية ووظائفها”.

    هناك فجوة مخزية ومسافة أكثر خزيا بين ما تنص عليه الفلسفة وما يحدث للإنسان بالرغم عن وعدها

    ويرى أن هؤلاء المبجلين، المتملصين من متطلبات الزمن الذي لا يكف عن المرور ومن سلاسل التموقع أيضا ليتجاذبوا بكل تلذذ خطابات دقيقة حول تيمات أكثر لازمنية منهم أنفسهم. نحن نحس تماما، نعترف، صحيح أن صرامة هذه المقترحات لا تستثني البتة طارئا محيرا لا يتماشى من قريب أو بعيد مع ضروريات الحياة الأبدية. لايبنيتس وولف، هيوم، نيوتن، روسو وآخرون، لقد تمكن كانط دون أدنى شك من أن يصوغ من أجلهم إجابة مختلفة ما أمكن وهي التي قدمها على أرض الواقع، لكنها تظل أقل صرامة في نظر مؤرخين مكتفين دائما بحواراتهم كما هي.

    يفقد كل التاريخ المثالي للفلسفة “لاتينيته” بين متانة الصرامة الشكلية والطارئ المادي. لكن هؤلاء المؤرخين يمرون مرور الكرام على الحقيقة التي فحواها أن الفلاسفة هم ما هم عليه يحددون ما يحددون من أجل قضايا لا صلة لها بقواعد لعبة الشطرنج، حيثُ تتوفر إمكانية لعدة أشواط جدية. لم تنتج فلسفاتهم عن معطى أن إجابة ما تظل مجهولة لبعض الأسئلة، لكنها نتجت عن معطى أنهم كانوا يعيشون مثل كل البشر حياة خاصة، في بلد وفي زمن خاصين، وكانوا قد كونوا شيئا فشيئا موقفا تجاه حياتهم وحياة الآخرين ممن يقاسمونهم نفس هذا الزمن.

    ويشدد نيزان على أنه لا ينبغي أن نُلبس الجسد بنفس أثواب الفلسفة. عندما استبعدنا عن تلك الظروف الوجودية الوحدةَ والتجارةَ الإنسانيةَ والاحترامَ والثورةَ والغضبَ وقبولَ الآخر وأيضا التبعيةَ والنقمةَ، الحيلةَ والصراحةَ، ها هنا يمكن فقط أن نعتقد بأن الفيلسوف رأس بلا جسم، كائن في منتهى النقاء، أكثر بعدا عن الضجيج الأرضي من قالب أبيض بقناعه الميت. إنه الفهم الذي دائما ما يتسول شهادة من الدنس الفلسفي.

    ويرى أن الفلاسفة لم يكونوا يوما أرواحا نقية ولا أبناء طبيعيين للسماء. لكنهم أجساد ورؤوس أرضية فوق أرض حيث لم تشكل ولادتُهم ولا حتى نموهم هبات لا يمكن تعويضها، أو طبائع واضحة، أو تطورا للروح الخالصة التي بلا وجود. لقد كانوا المفكرين الذين كانوا، ليس لأن إجابة ما على سؤال قديم مازالت لم يتم التوصل إليها، لكن وبكل الدقة الممكنة لأن لهم شيئا يقولونه ولذلك فقط اهتموا بما قاله سابقوهم: وكانوا مثلهم مثل أي فرد يحتاجون إلى اللغة. عندها فقط، فصلوا أثوابا من أجل أجسامهم بتقليد لا مهرب منه لأثواب وأقنعة سابقيهم. لقد وُلدوا ذات سنة، وسيموتون ذات سنة وما بين هذين التاريخين تكمن إنسانيتهم وتفسيرهم والأسباب التي جعلتهم يستعيدون على طريقتهم الإشكاليات القديمة.
    خيانة الفلاسفة




    يلاحظ نيزان أن العالم الذي هو موضوع الفلسفة الحيوي هو عبارة عن بناء تقني، علمي وعملي. يكفي أن يطرأ تعديل واحد مستمر على هذا الكون الذي يمكن تمثله حتى يُمنَعَ كانط من الإجابة على لايبنيتس حرفا فحرف. إذ تمنع الاختلافاتُ الأساسية التي تفصل بين العوالم الحديثة للفلسفة الفلاسفة من إضافة معان متجانسة على مختلف التغييرات العلمية: يمكن لعدد مختزل من العناصر الثابتة وحدها أن تمنع توهم سكنى نفس الكون المستقر. ستتمكن معادلة فلسفية من التي لم تتم بعد أن تتيح المرور من منظومة إلى أخرى ضمن نفس الرؤية النقدية. ربما لن نعرف حتى كيف سنُجيبُ على الصرامة إلا على من عاصرها وليس أكثر من ذلك.

    ويقول “إننا نعيشُ في زمن امتناع الفلاسفة عن العمل. فهم في حالة غياب مخز. كما تنتصب فجوة مخزية هي الأخرى، مسافة أكثر خزيا بين ما تنص عليه الفلسفة وما يحدثُ للإنسان بالرغم عن وعدها، في الوقت الذي لا تكف فيه عن اجترار هذا الوعد. إن الفلسفة لفي وضعية فرار. إنها ليست هنا بتاتا أين نحتاجُ خدماتها، إنها أو بالأحرى هي تبدو مستقيلة تماما. يمكن الحديث حتى على وضعية تخل نهائي عن وظيفتها، قل عن خيانة”.

    ويتابع “عندما نعلم بأن الفلسفة مازالت بعد عالقة في مسائل مثل العلاقات والروابط، الظواهر والحقائق، الدوافع الحياتية والنومينون، المحايثة والمفارقة، ما هو عرضي والحرية، الأرواح والأجساد… وعندما نعلم بأن السيد برنشفيك بوصفه من أعظم مؤسسي هذا الفكر بصدد تقديم دروس حول تقنيات العبور إلى المطلق، كم نحتار أمام عُصيات هذا الفكر، أمام هذه المُنتجات الممسوخة التي تكون تأملهم والتي تضطلع بمهمة تقديم تفسير متكرر لجمهور سوقي من الذين تتم دعوتهم بكل كرم، فنقدم لهم تفسيرا في خصوص إصابة بناتهم بالسل، في خصوص غضب زوجاتهم، خدمتهم العسكرية وما يتبعها من أحداث مُذلة، في خصوص عملهم وبطالتهم وعطلهم والحروب والإضرابات وتعفن برلماناتهم ووقاحة سُلطِهم. إننا لا نرى هُنا ماذا يمكن أن تعنيه فلسفة بلا مواد، فلسفة بلا وجهة ولا عقل”.

    ويواصل نيزان “يبدو الفلاسفة جاهلين لكيفية تكون بني الإنسان، غير عارفين بتاتا بما يأكلون، بمنازلهم حيث يسكنون، بملابسهم التي يرتدون، بالطريقة التي وفقها يموتون، بالنساء اللائي يحبون، بالعمل الذي يؤدون. غير عارفين بكيفية قضائهم أيام الأحد، بالطريقة التي يجابهون بها أمراضهم. غير عارفين بجداول توزيع أوقاتهم، بمرابيحهم، بالجرائد والكتب التي يطالعون، بخطط الترفيه التي يُفضلون، بالأفلام التي يشاهدون، بالأغاني، بأمثالهم الشعبية. إن هذا الجهل المذهل بعيد على أن يعكر السير المتخاذل للفلسفة. فالفلاسفة لا يحسون بانجذاب حقيقي إلى الأرض. إنهم خفافٌ، أكثر خفة من الملائكة، ليس لهم ذاك الثقل الذي يميز الأحياء الذين نحب. إنهم ليسوا في حاجة حتى للتمشي بين الناس”.

    ولا يخفي أنه يمقتُ هذا التقليد الذي نراه هنا والذي يعود إلى زمن ديكارت. بينما تكون الفلسفة بصدد تأمل فكرة الإنسان وتطرح أسئلة لتجيب عليها في خصوصه، لكنها ليست فكرة خاصة بإنسان خاص موجود واقعا من الذي عليه أن يأكل. فعلى سبيل المثال، تكون الحرية بالنسبة إلى هذه الفلسفة عبارة عن تسلسل من المفاهيم، أو هي مباركة للمدة الزمنية الأكثر سرية. لكن، ما الذي ستقوله في ما يتعلق بهذه الألعاب، في ما يتعلق بأناس منهمكين في عمل متسلسل، هؤلاء الذين ليست الحرية بالنسبة إليهم سوى بحث درامي عن كل ما ليس في حوزتهم؟ هل ستظل الفلسفة لمدة طويلة مجرد عمل عجائزي، مجرد تطريز عزباء متقدمة في السن وعاقر؟ هل ستنافس مجلة “الميتافيزيقا والأخلاق” مجلة “المرأة في بيتها”، في “منزل ألكان” التي تصدر عن طبعات تيدسكو؟
    الفكر البرجوازي



    بوكل نيزان: الفلسفة صارت مجرد عمل عجائزي، إننا نعيش في زمن امتناع الفلاسفة عن العمل، فهم في حالة غياب مخز


    يشير نيزان إلى أنه سيكون من الصعب الالتقاء بفيلسوف واحد وهو يعلن: إني أدرس بسيكولوجيا القردة هذا لأني لا أحب الناس. لا أحد منهم سيعرف كيف سيتمكن بعد كل شيء من العبور خلال ظل قداس إنساني. لا بد من العيش كما ينبغي. قليلون هم من يكتفون بقبول تحقير ما أو حتى غضب أشباههم: تتسع الفلسفة نادرا لواحد مثل بسمارك أو مثل فوشي، لهذا فقط هم يؤكدون في كل مرة على تلك المهمة العامة للفلسفة. تلك المهمة التي تتحمل عبء العقل الذي يقود العالم. وعليه، هم يعتقدون بأنهم قد أنجزوا الكثير من أجل النوع الأرضي الذي ينتمون إليه ولهذا النوع الذي منه يكونون العقل.

    لقد حان الوقت عموما لوضعهم عرض الحائط، وأن تتم مساءلتهم في ما يتعلق بأفكارهم حول الحرب، حول الاستعمار، حول ترشيد المصانع، حول الحب، حول اختلافات طرق الموت، حول البطالة، حول السياسة، حول الانتحار، حول الشرطة والإجهاض، حول كل العناصر التي تشغل الأرض واقعا. لقد حان الوقت عموما بأن نطالبهم بموقفهم. لقد حان الوقتُ عموما بأن يكفوا عن الغدر بأي شخص، بأن يكفوا عن لعب أي دور.

    عندما حصار ديميتريوس أثينا، كان أبيقور يتمشى بين الأثينيين. أبيقور اتخذ هنا موقفا واضحا. حتى لو كانوا قد رفضوه جماهيريا “يمكنني رؤية ذلك من هنا، أن يخفق قلبي من هنا، أن أقيس من هنا ذاك الركام المتكون من أسبابهم الجميلة، من دوافعهم النبيلة التي جعلتهم يرفضون ذاك التمشي”. سيفهم أقل المراهقين شأنا بأنهم قد اختاروا واقعيا ـ وليس بعمى قابل للشفاء – رفاهيتهم الروحية والضمانات الزمنية لرفاهيتهم تلك، لصالح أسئلة إنسانية رغم حقارتها.

    ويشير “عندما يعالج الفلاسفة الروح والأفكار، الأخلاق والحاكمَ الطيب، المنطق والعدلَ فهذا ملائم بالنسبة إليهم. لكن لا للمغامرات، لا للأحزان، لا للأحداث، لا للأيام التي تكون حياة ملموسة، لا لهؤلاء الذين يتحملون الأحزان، الذين تُثقلهم الحياة، الذين يلهثون خلف المغامرات والذين يقضون أيامهم حتى يصلوا إلى ختام حياتهم. إنهم لا يُفضلون هذه الطريقة الرفيعة للتفلسف”.


    الفكر يبدو للفلاسفة نشاطا متناهي النقاء تمارسه كائنات بلا مكان ولا زمان ممن هم ليسوا موحدين في جسم واحد


    إنهم يحكمون على الفلسفات انطلاقا من النظر إلى ألمهم الخاص وراحتهم الخاصة، وليس بالنظر إلى الفلسفة في حد ذاتها. فإما يوافقون عليها من بعيد أو يعتنقونها ويثورون ضدها: لم يكونوا مواضيع سلبية أبدا، مواضيع غير عابئة بما نعرف عنهم وبحكمنا الذي نحمله في خصوصهم، بالمصائر التي رُسمت من أجلهم أو لعلهم موعودون بها، بالنصائح التي أُسدِيَتْ لهم على وجه المجان. إنهم يجزعون فقط لمعرفة إذا ما كانت فلسفة ما حليفة لهم أو عدوة، إذا ما انتصبت ضدهم بكل بساطة لأنها لا توليهم الاهتمام. إنهم أكثر تطلبا بشكل لن يقدر الفلاسفة على توقعه، فهم يريدون بأن يكون كل ما يحدث في العالم في صالحهم، الآلات والكتب، الدول والشعر. هكذا هي شريحتهم: تعيد كل شيء إليها. ويمكن لنا أن نلمس هذا المعنى منذ الحكمة القديمة لبروتاغوراس.

    ويرى نيزان أن كل الفكر البرجوازي يتلخص في قبوله بكل إيجاز ودون الارتباط بتفاصيل معينة، بكل ما هو أساسي من الأفعال التي يحتج عليها عامة الناس، فيبررونها ويمحونها إن اقتضت الحاجة لأسباب علوية. ويتلخص كل جهدها في الكشف عن المبادئ البعيدة القادرة على تغيير ملامح المستقبل. وذلك بتناسيها أو بتدميرها. فهي تبعث بغيوم من التعلات على شاكلة طوافة حربية وهي تخلف وراءها شاشة من الدخان. إن هذه الفلسفة هي ما تملك دائما ما تخبئه، والتي عليها أن تعمم اعتقادا مفاده أن العالم ليس البتة كما يبدو عليه في ظاهره، فالساذج من يعتقد بأنه يرى “سوزي” لكن “سوزي” كانت في الحقيقة آلهة. اختطفتهم خطواتهم من كل الخطوات المتهورة حيث ألقوا بأسئلتهم الشرَك.

    إن الحرب لا إنسانية دون أدنى شك، وستبدو لأي عادل في حكمه ولأي معتمد على حواسه أن لا مبررات لها: لكن ينبغي تصويب هذا الحكم تماما مثلما ينبغي على العقل أن يصوب العصا التي تبدو منكسرة وهي صفحة مائية. كانت الحربُ تمتلك معنى أخلاقيا من شأنه أن يلطف من هولها. فإذا ما أصبحت الحرب فكرةً فإن الحرب في بعدها الملموس ستختفي.

    ليست الحرب ما تُسبب هذه السلسلة اللانهائية من المعارك ولا هذه الحرائق ولا كومة الضحايا المقرفة تلك ولا أيام الملل والاغتيالات ولا تموجات الغازات ولا سكاكين مزيلي الآثار ولا القمل والقذارة البشرية التي يعرفها المقاتلون دائما، لكنها مناهضة للحق الرافض لاستعمال القوة، لكنها معركة ديكارت ضد ميكيافيلي والسيد برغسون ضد الآلة الألمانية. ليس الأمر من قبيل لعبة دموية تجري في صالح صانعي الأسلحة لكنها حملة فلسفية قبل ذلك ومعركة عقول أيضا.


    محمد الحمامصي
    كاتب مصري
يعمل...
X