"دوغمان".. مذكرات البؤس ورحلة طفولة متعبة
لوك بيسون يصور روبن هود جديدا يستعين بالكلاب لتحقيق العدالة.
الأحد 2024/03/17
صداقة وحب لم يجدهما عند البشر
لوك بيسون من أبرز مخرجي ومنتجي السينما الفرنسيين في هوليوود، وإن اشتهر بإنتاجه لأفلام الحركة والإثارة التي قدم فيها أعمالا لافتة كمخرج وكاتب سيناريو ومنتج، فإن تجربته لا تخلو من تجريب أنماط مختلفة من الأفلام. وهاهو في فيلمه الجديد “دوغمان” يعود من كبوة تعثر خلالها في إنجاز أفلامه، عبر عمل يبدو مميزا في تجربته.
عانى المخرج والمنتج لوك بيسون من عدة سنوات صعبة شهدت تعثر إمبراطوريته التي بنيت بصبر لعدة عقود، وبعد الفشل المالي له في إنتاح فيلمه “فاليريان ومدينة الألف كوكب” (2017)، تأثر وضع المخرج بشدة، وعاد بشكل كارثي في عام 2019 مع فيلم الإثارة “آنا” وهو بلا شك واحد من أسوأ أفلامه.
هذه المرة يقدم بيسون إلى السينما فيلم “دوغمان” بعد اتهامه في عام 2018 بالاغتصاب من قبل الممثلة ساند فان روي. كما اتهم بسوء السلوك الجنسي من قبل موظفات سابقات في شركته يوروباكورب، على الرغم من أن أيا منهن لم تقدم شكوى رسميا، بينما رفضت محكمة النقض اتهامات ساند فان روي في يونيو 2023.
طفولة بائسة
المحاكمات لم تمنع المخرج الفرنسي المثير للجدل من مواصلة حياته كما لو أنه لم يحدث شيء، وعاد ليقدم فيلم “دوغمان” في مهرجان البندقية السينمائي في أبهة كبيرة. فيلم درامي فرنسي باللغة الإنجليزية إنتاج عام 2023، من تأليفه وإخراجه وبطولة كاليب لاندري جونز وجوجو تي جيبس وكريستوفر دينهام وجون تشارلز أغيلار وجريس بالما، وتدور أحداثه في نيو جيرسي.
افتتاحية الفيلم تبدأ عند إلقاء الشرطة القبض على دوغلاس (كاليب جونز) عند حاجز للشرطة في يوم ممطر بغزارة، وكان دوغلاس مدمى وفي حالة يرثى لها، يرتدي زي امرأة ويقود شاحنة تكتشف فيها الشرطة العشرات من الكلاب. يقول المشتبه به للشرطي “إذا لم تؤذني، فلن يؤذوك”. سحب دوغ (جونز)، الملطخ بالدماء والكدمات في ملابس مارلين مونرو إلى مركز الشرطة، ليتم استدعاء طبيب نفسي لتقييمه. عندما يبدأ الاستجواب نكتشف سياق القصة المشبعة بالعنف بعد استرجاع الأحداث بطريقة الفلاش باك في نبش الماضي.
الفيلم يحكي قصة لا تصدق عن طفل طبعت الحياة كدماتها على روحه البرئية وسيجد خلاصه بفضل حبه للكلاب
يصور الفيلم رجلا تعرض في طفولته لسوء المعاملة عندما كان طفلا من قبل والده العنيف وألقي به بشراسة في قفص الكلاب. بدلا من مهاجمته، أصبحت تلك الكلاب حلفاءه وتعمل على حمايته. في رحلة للشفاء من صدمة الطفولة والإصابات الجسدية يسعى دوغلاس إلى إيجاد طريقه الخاص حتى لو كان ذلك يعني ثني القواعد المجتمعية والإفراط في حبه للكلاب.
فيلم “دوغمان” فيلم درامي وإنساني تراجيدي كما أنه فلسفي رمزي يحكي عن طفل مرّ بطفولة معذبة محبطة ومعاملة قاسية وتعرض إلى إساءة من قبل والده وأخيه، وكانت نتائجها عواقب وخيمة دامت مدى حياته. والده يعمل على استغلال الكلاب في المراهنات في “قتال الكلاب”، لذا يعمل على تجويعها قبل موعد النزال كي تتوحش أكثر، وحين يرى الطفل الصغير يحن عليها ويطعمها، يغضب عليه ويحبسه ليلا ونهارا في القفص مع الكلاب. بينما تترك والدته البيت خوفا على حياتها من قسوة الأب.
نكتشف أن المودة الوحيدة التي تلقاها دوغلاس عندما كان طفلا جاءت من الكلاب، بعد هروب والدته الحامل من البيت لمنح طفلها التالي حياة أفضل. حب الطفل دوغلاس للكلاب هو حب زرعه كردة فعل لوحشية الأب مايك (كليمنس شيك)، الذي يتركها تتضور جوعا، لذلك يتسلل ويهرب بقايا الطعام إلى الكلاب المفترسة. في نهاية المطاف، يحبس الأب مايك طفله دوغلاس في تلك الأقفاص، بعد أن أصبح بالغا ومعاقا منذ أن أطلق والده النار عليه، يعيش على هامش المجتمع. يبدأ سرد حكاية الفيلم باقتباس من ألفونس دي لامارتين “أينما كان هناك أسى، يرسل الله كلبا”.
القصة المذهلة لطفل مصاب بكدمات في الحياة، سيجد خلاصه بفضل الحب الذي تكنه له كلابه. قصة هذا الشاب الذي أصيب بصدمة بسبب إساءة مروعة وقعت خلال طفولته آسرة حقا. والده أطلق عليه النار متعمّدا لأنه يحب الكلاب ويحن عليها ويقدم لها الأكل، إطلاق النار سبب للابن كساحا وأصبح مقعدا على كرسي متحرك.
كسب الطفل موهبة التفاهم والتحدث مع الكلاب وساعدته الكلاب في الانتقام من أبيه وأخيه، وكذلك ساعدته امرأة جميلة التقى بها في دار الأيتام وفتحت عيونه على المسرح والتمثيل والغناء، واستطاع أن يتفوق رغم إعاقته وعجزه، وقع في حبها إلا أنه اكتشف أنها كانت متزوجة وحاملا.
واصل دوغلاس دربه رغم الماضي التعيس والإحباطات المتكررة إلى أن اصطدم بعصابة مسلحة تبتز الناس وكذلك مع بعض رجال الأعمال المتاجرين في العقارات الذين طردوه هو وكلابه من الملجأ الذي كان يعيش فيه ويؤوي فيه الكلاب المتشردة. يشكل دوغلاس مع أصدقائه الكلاب نوعا من العصابة، ويقدم خدماته للأفراد الذين هم ضحايا القسوة الإنسانية، بينما يمنح نفسه دور روبن هود في العصر الحديث، عند سرقة المجوهرات من الشقق الفاخرة.
ماضي العنف
طفولة مأساوية وصعوبات الاندماج الاجتماعي
يبدأ الفيلم بتصنيف الأشياء باقتباس، “عندما يمر الإنسان في مأساة، يرسل له الله كلبا”، هو نقش صاغه ألفونس دي لامارتين، الشاعر الفرنسي ورجل الدولة الذي سيتساءل بلا شك عن نوع المشكلة التي كان فيها حتى يرسل له الله “دوغمان”؟ على أي حال، الرجل المعني هنا هو دوغ (كاليب لاندري جونز) وهو ذكي جدا لأنه يبدو كثيرا مثل “الكلب”.
يبدأ مسار الأحداث من نيوجيرسي عند حاجز للشرطة، حيث يبحث رجال الشرطة عن شاب في الثلاثينات من عمره. يسحبون شاحنة صغيرة تتحول ليقودها المشتبه به نفسه، وهو رجل على كرسي متحرك يرتدي شعرا أشقر مستعارا ويضع مكياجا ملطخا ويرتدي فستانا حريريا ورديا ممزقا. في الخلف، هناك مجموعة من الكلاب من جميع السلالات والأحجام. يحذر الشاب الشرطي “لن يؤذوك طالما أنك لا تؤذني”.
لا يعرف رجال الشرطة ماذا يفعلون به، فيأخذونه إلى مركز احتجاز حيث يستدعون الطبيبة النفسية إيفلين (جوجو تي جيبس)، وهي أم عزباء مطلقة مؤخرا مع طفل يبلغ من العمر 9 أشهر. يكشف أن اسمه دوغ، وهو اختصار لدوغلاس. يقول “أنا لست مريضا، أنا متعب فقط”، وسيثبت أنه مريض ومعقد نفسيا. هناك شيئان يتضحان في جلسات العلاج الخاصة به. الأول هو أن دوغ طفل معتدى عليه ونشأ في عائلة قاسية ألقت ابنها في قفص مزر للكلاب، بعد القبض عليه وهو يطعم حيواناته الأليفة – الكلاب (هذا الجزء يستند إلى قصة حقيقية).
يهرب دوغ من الحبس عندما تداهم الشرطة منزله، ولكنه يجد نفسه في سجن من نوع آخر عندما يجد نفسه تحت رحمة نظام الرعاية. وعندما يتضور جوعا من فوائد الدولة ويبلغه قرار إغلاق ملجأ الحيوانات، ينتقل مع رفاقه الكلاب إلى مدرسة مهجورة، أخيرا، يجد مكانا يجعله ملجأ للحيوانات، ينطلق منه لتنفيذ سلسلة من الغارات الجريئة على منازل الأغنياء، “أؤمن بإعادة توزيع الثروة”، كما يردد أكثر من مرة.
المخرج لوك بيسون يعود بهذا الفيلم الذي يحركنا بعمق معه، فيلم حساس وذكي، وقبل كل شيء هو فيلم دقيق
لفترة من الوقت يركز المخرج بيسون ببساطة على دوغ الرومانسي، وكيف وقع في حب معلمة الدراما لطيفة سلمى (غريس بالما) وخلال الفترة القصيرة التي قضاها في مؤسسة للأحداث التي تعرفه بمسرحيات شكسبير (ذكر لاحقا أنه يحفظ جميع مسرحيات الكاتب المسرحي عن ظهر قلب)، وينكسر قلبه حين يكتشف أن ملهمته سلمى لها حبيب وقريبا سيتوج هذه الحب بالزواج. كما أنه يقضي بعض الوقت في متابعة دوغ في سعيه للعثور على وظيفة، ويتم رفضه في كل محاولة بشكل مهين، وتكثف إذلاله كرجل معاق. وعندما يجد عملا في ملهى ليلي وليوم واحد فقط (الجمعة) ويؤدي دوره مقلدا المغنية الفرنسية إديث بياف ويغني “لا فول” ويجد في هذا المكان المودة والقليل من المال للعيش مع رفاقه الكلاب.
يتنكر بملابس أديث بياف، “لطالما أحببت التنكر. هذا ما تفعله عندما لا تعرف حقا من أنت، أليس كذلك؟”، يقول دوغلاس في أحد المشاهد “أنت ترتدي ملابسك لتصنع ماضيا ولتنسى ماضيك”. بالحديث عن الكلاب، يقول “لديهم عيب واحد فقط، أنهم يثقون بالبشر”. كما يقول دوغ الشاب البالغ، المصاب بكدمات في ظروف غامضة وملطخ بالدماء ويرتدي زي مارلين مونرو المشوه وهو يسرد حكايته الغريبة إلى الطبيبة النفسية إيفلين في مركز الاحتجاز. الشيء الثاني الذي يفصح عنه دوغ لإيفلين ينطوي على قصة يتشابك فيها دوغ مع عصابة محلية تسمى إل فيردوغو (الجلاد)، التي كانت تبتز أصدقاءه الفقراء وتفرض إتاوات على أصحاب الأعمال البسيطة.
خلال مقابلته مع إيفلين رفعت الشخصية الرئيسية الحجاب عن ماضيها من خلال إخبار طبيبته النفسية بما حدث خلال السنوات الثلاثين الأولى من حياته: طفولته المأساوية، وصعوبات الاندماج الاجتماعي بسبب إعاقته ووحدته المطلقة، إذا لم يكن برفقة فقط حشد من الأصدقاء ذوي الأربعة أرجل. الفلاش باك يربط دوغ بتفاصيل ثرثارة مملة كيف احتفظ بذاكرته في مواقف والده المسيء بعنف (كليمنس شيك) الذي يحتفظ بمجموعة من الكلاب على حافة الجوع حتى تكون أكثر شراسة خلال معارك الكلاب.
ثم يحكي دوغ كيف يستخدم سربه من الكلاب في تنفيد سرقاته والتي لا يعتبرها سرقة، بل إعادة توزيع الثروات حين يسرق مجوهرات ومقتنيات الأثرياء الثمينة وتوزيعها على الفقراء لمساعدتهم. وينجح وكيل تأمين عنيد يدعى أكرمان (كريستوفر دنهام) في كشف هويته وسرقاته، ويزوره حاملا باقة ورد في الجمعة وهو اليوم الذي يعرض فيه في الملهى متنكرا بشخصية إديث بياف، من أجل المتعة والتعبير عن الذات.
يجعل دوغ عائلته من الكلاب وهذا ما أخبره والده عند قذفه في القفص. يؤمن دوغ بالله لأنه من كان سيرسل له هذه العشرات من الكلاب وأحد الحلول لكل من مشاكله؟ يرتدي ملابس نسائية لشخصيات تعرف عليها من خلال مجموعة من المجلات النسائية التي وجدها في القفص، وكذلك علمته أخصائية اجتماعية/ ممثلة جميلة والمكياج في أحد مراكز التأهيل.
فيلم دقيق
في الفيلم، يلعب لاندري جونز دور دوغلاس وكان أداؤه متميزا في شخصية رجل تعرض للإساءة عندما كان طفلا من قبل والده العنيف، والذي يلجأ إلى كلاب من أجل الصداقة عندما يصبح شخصا بالغا معذبا. في نهاية المطاف، حب الكلاب هو ما جمع بيسون ولاندري جونز معا.
يتذكر المخرج بيسون “عقدنا أنا وكاليب اجتماعين حيث تحدثنا عن الحياة والأفلام، ثم في الاجتماع الثالث، سألته عما إذا كان يحب الكلاب، تحدث معي عن الكلب الذي كان لديه عندما كان صبيا، ترك صدى عندي لأنني كنت أعيش نفس الحياة الانفرادية أثناء نشأتي، دائما مع كلبي. أصبحنا قريبين على الفور”.
استعد الممثل لاندري جونز للدور لمدة ستة أشهر تقريبا، قضى الكثير منها على كرسي متحرك “لفهم كيف يشعر بالإعاقة وكيف ينظر الناس إليك بشكل مختلف”.
في فيلم “دوغمان”، يرتدي لاندري جونز أيضا ملابس امرأة (على الرغم من أنه شخصية مستقيمة وليس لديه أي ميول للمثلية). تم وضع علامة على هذا الجانب من الفيلم على أنه يحتمل أن يكون رهاب المتحولين جنسيا على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن بيسون قال إن ملابس دوغلاس الغريبة هي مجرد واحدة من تنكراته المختلفة طوال الفيلم. كما يقول دوغلاس في مرحلة ما “أنت ترتدي ملابس عندما لا تعرف حقا من أنت، ربما كي تنسى ماضيك”.
الفيلم يصور رجلا تعرض في طفولته لسوء المعاملة من قبل والده العنيف الذي ألقى به في قفص الكلاب
هناك نظرية مفادها أن الأشخاص الذين يمتلكون الكلاب ينتهي بهم الأمر إلى أن يصبحوا مثل حيواناتهم الأليفة. يحكي دوغمان قصة لا تصدق عن طفل طبعت الحياة كدماتها على روحه البرئية وسيجد خلاصه بفضل الحب الذي لم يجده عند البشر ولكن تمنحه كلابه الحب والرفقة. تكمن فكرة دوغمان في أن الكلاب تستطيع أن تكون بطريقة ما في تناغم مع شاب منعزل ومتعاطف لدرجة أنها تقوم بتنفيذ أوامره عن طريق التخاطر تقريبا. لكن دوغمان ليست لديه شجاعة قناعاته لجعل هذه فرضية خيالية كاملة تأخذها أو تتركها، مما يجعلنا نتساءل تماما كيف درب دوغلاس كلابه على السطو وسرقة المجوهرات على القصور الفاخرة أو الدخول إلى مخبأ رئيس عصابة محلي وتثبيت فكيهم حول فخذية؟
استند المخرج بيسون في سيناريوه باللغة الإنجليزية إلى مقال قرأه عن عائلة فرنسية حبست طفلها في قفص في سن الخامسة، وقضى المخرج عاما مع الممثل لاندري جونز استعدادا لما هو دور مستهلك للروح والجسد بشكل واضح. الممثل لاندري جونز، وهو موسيقي وممثل مولود في تكساس اشتهر بالدور الحائز على جائزة كان السينمائي في فيلم “نيترام”، قدم أداء مبهرا في دور دوغلاس، بعد أن تمرد على القواعد المجتمعية والجنس والمبالغة مع حبه للكلاب، لاندري جونز يتحول بشكل مثير للإعجاب إلى امرأة.
لا يتم قتل أي كلب في هذا الفيلم، على الرغم من سفك الكثير من الدماء عند المواجهة الأخيرة مع العصابة. يعيش دوغلاس في دعامات الساق التي تمنعه من الوقوف أو حتى المشي لفترة طويلة جدا بسبب الرصاصة الارتدادية من بندقية والده التي أصابته عندما كان طفلا محبوسا، ويتألق لاندري جونز في مشاهد غنائية في أدائه لشخصية دوغلاس، مرة كإديث بياف وأخرى كمارلين ديتريش المحطمة إلى حد ما قبل أن يذهب بالكامل في تقمص شخصية مارلين مونرو خلال فورة تبادل لإطلاق النار مع أعدائه أفراد العصابة الذين اقتحموا عرينه أو مخبأه.
في الختام عاد المخرج لوك بيسون بهذا الفيلم الذي يحركنا بعمق معه، فيلم حساس، ذكي، وقبل كل شيء دقيق. حكاية تركز على مكان اختلافات الجميع في مجتمعنا، ومع ذلك، فإن العيوب المعتادة في سينما بيسون لا تزال قائمة بما في ذلك ميله إلى ابتزاز المشاعر وكسب تعاطف المشاهد مع شخصيات فيلمه (الطبيب النفسي، الأم المطلقة، التي تثير مشاكلها، بطريقة بسيطة، مشاكل مريضها).
علي المسعود
كاتب عراقي
لوك بيسون يصور روبن هود جديدا يستعين بالكلاب لتحقيق العدالة.
الأحد 2024/03/17
صداقة وحب لم يجدهما عند البشر
لوك بيسون من أبرز مخرجي ومنتجي السينما الفرنسيين في هوليوود، وإن اشتهر بإنتاجه لأفلام الحركة والإثارة التي قدم فيها أعمالا لافتة كمخرج وكاتب سيناريو ومنتج، فإن تجربته لا تخلو من تجريب أنماط مختلفة من الأفلام. وهاهو في فيلمه الجديد “دوغمان” يعود من كبوة تعثر خلالها في إنجاز أفلامه، عبر عمل يبدو مميزا في تجربته.
عانى المخرج والمنتج لوك بيسون من عدة سنوات صعبة شهدت تعثر إمبراطوريته التي بنيت بصبر لعدة عقود، وبعد الفشل المالي له في إنتاح فيلمه “فاليريان ومدينة الألف كوكب” (2017)، تأثر وضع المخرج بشدة، وعاد بشكل كارثي في عام 2019 مع فيلم الإثارة “آنا” وهو بلا شك واحد من أسوأ أفلامه.
هذه المرة يقدم بيسون إلى السينما فيلم “دوغمان” بعد اتهامه في عام 2018 بالاغتصاب من قبل الممثلة ساند فان روي. كما اتهم بسوء السلوك الجنسي من قبل موظفات سابقات في شركته يوروباكورب، على الرغم من أن أيا منهن لم تقدم شكوى رسميا، بينما رفضت محكمة النقض اتهامات ساند فان روي في يونيو 2023.
طفولة بائسة
المحاكمات لم تمنع المخرج الفرنسي المثير للجدل من مواصلة حياته كما لو أنه لم يحدث شيء، وعاد ليقدم فيلم “دوغمان” في مهرجان البندقية السينمائي في أبهة كبيرة. فيلم درامي فرنسي باللغة الإنجليزية إنتاج عام 2023، من تأليفه وإخراجه وبطولة كاليب لاندري جونز وجوجو تي جيبس وكريستوفر دينهام وجون تشارلز أغيلار وجريس بالما، وتدور أحداثه في نيو جيرسي.
افتتاحية الفيلم تبدأ عند إلقاء الشرطة القبض على دوغلاس (كاليب جونز) عند حاجز للشرطة في يوم ممطر بغزارة، وكان دوغلاس مدمى وفي حالة يرثى لها، يرتدي زي امرأة ويقود شاحنة تكتشف فيها الشرطة العشرات من الكلاب. يقول المشتبه به للشرطي “إذا لم تؤذني، فلن يؤذوك”. سحب دوغ (جونز)، الملطخ بالدماء والكدمات في ملابس مارلين مونرو إلى مركز الشرطة، ليتم استدعاء طبيب نفسي لتقييمه. عندما يبدأ الاستجواب نكتشف سياق القصة المشبعة بالعنف بعد استرجاع الأحداث بطريقة الفلاش باك في نبش الماضي.
الفيلم يحكي قصة لا تصدق عن طفل طبعت الحياة كدماتها على روحه البرئية وسيجد خلاصه بفضل حبه للكلاب
يصور الفيلم رجلا تعرض في طفولته لسوء المعاملة عندما كان طفلا من قبل والده العنيف وألقي به بشراسة في قفص الكلاب. بدلا من مهاجمته، أصبحت تلك الكلاب حلفاءه وتعمل على حمايته. في رحلة للشفاء من صدمة الطفولة والإصابات الجسدية يسعى دوغلاس إلى إيجاد طريقه الخاص حتى لو كان ذلك يعني ثني القواعد المجتمعية والإفراط في حبه للكلاب.
فيلم “دوغمان” فيلم درامي وإنساني تراجيدي كما أنه فلسفي رمزي يحكي عن طفل مرّ بطفولة معذبة محبطة ومعاملة قاسية وتعرض إلى إساءة من قبل والده وأخيه، وكانت نتائجها عواقب وخيمة دامت مدى حياته. والده يعمل على استغلال الكلاب في المراهنات في “قتال الكلاب”، لذا يعمل على تجويعها قبل موعد النزال كي تتوحش أكثر، وحين يرى الطفل الصغير يحن عليها ويطعمها، يغضب عليه ويحبسه ليلا ونهارا في القفص مع الكلاب. بينما تترك والدته البيت خوفا على حياتها من قسوة الأب.
نكتشف أن المودة الوحيدة التي تلقاها دوغلاس عندما كان طفلا جاءت من الكلاب، بعد هروب والدته الحامل من البيت لمنح طفلها التالي حياة أفضل. حب الطفل دوغلاس للكلاب هو حب زرعه كردة فعل لوحشية الأب مايك (كليمنس شيك)، الذي يتركها تتضور جوعا، لذلك يتسلل ويهرب بقايا الطعام إلى الكلاب المفترسة. في نهاية المطاف، يحبس الأب مايك طفله دوغلاس في تلك الأقفاص، بعد أن أصبح بالغا ومعاقا منذ أن أطلق والده النار عليه، يعيش على هامش المجتمع. يبدأ سرد حكاية الفيلم باقتباس من ألفونس دي لامارتين “أينما كان هناك أسى، يرسل الله كلبا”.
القصة المذهلة لطفل مصاب بكدمات في الحياة، سيجد خلاصه بفضل الحب الذي تكنه له كلابه. قصة هذا الشاب الذي أصيب بصدمة بسبب إساءة مروعة وقعت خلال طفولته آسرة حقا. والده أطلق عليه النار متعمّدا لأنه يحب الكلاب ويحن عليها ويقدم لها الأكل، إطلاق النار سبب للابن كساحا وأصبح مقعدا على كرسي متحرك.
كسب الطفل موهبة التفاهم والتحدث مع الكلاب وساعدته الكلاب في الانتقام من أبيه وأخيه، وكذلك ساعدته امرأة جميلة التقى بها في دار الأيتام وفتحت عيونه على المسرح والتمثيل والغناء، واستطاع أن يتفوق رغم إعاقته وعجزه، وقع في حبها إلا أنه اكتشف أنها كانت متزوجة وحاملا.
واصل دوغلاس دربه رغم الماضي التعيس والإحباطات المتكررة إلى أن اصطدم بعصابة مسلحة تبتز الناس وكذلك مع بعض رجال الأعمال المتاجرين في العقارات الذين طردوه هو وكلابه من الملجأ الذي كان يعيش فيه ويؤوي فيه الكلاب المتشردة. يشكل دوغلاس مع أصدقائه الكلاب نوعا من العصابة، ويقدم خدماته للأفراد الذين هم ضحايا القسوة الإنسانية، بينما يمنح نفسه دور روبن هود في العصر الحديث، عند سرقة المجوهرات من الشقق الفاخرة.
ماضي العنف
طفولة مأساوية وصعوبات الاندماج الاجتماعي
يبدأ الفيلم بتصنيف الأشياء باقتباس، “عندما يمر الإنسان في مأساة، يرسل له الله كلبا”، هو نقش صاغه ألفونس دي لامارتين، الشاعر الفرنسي ورجل الدولة الذي سيتساءل بلا شك عن نوع المشكلة التي كان فيها حتى يرسل له الله “دوغمان”؟ على أي حال، الرجل المعني هنا هو دوغ (كاليب لاندري جونز) وهو ذكي جدا لأنه يبدو كثيرا مثل “الكلب”.
يبدأ مسار الأحداث من نيوجيرسي عند حاجز للشرطة، حيث يبحث رجال الشرطة عن شاب في الثلاثينات من عمره. يسحبون شاحنة صغيرة تتحول ليقودها المشتبه به نفسه، وهو رجل على كرسي متحرك يرتدي شعرا أشقر مستعارا ويضع مكياجا ملطخا ويرتدي فستانا حريريا ورديا ممزقا. في الخلف، هناك مجموعة من الكلاب من جميع السلالات والأحجام. يحذر الشاب الشرطي “لن يؤذوك طالما أنك لا تؤذني”.
لا يعرف رجال الشرطة ماذا يفعلون به، فيأخذونه إلى مركز احتجاز حيث يستدعون الطبيبة النفسية إيفلين (جوجو تي جيبس)، وهي أم عزباء مطلقة مؤخرا مع طفل يبلغ من العمر 9 أشهر. يكشف أن اسمه دوغ، وهو اختصار لدوغلاس. يقول “أنا لست مريضا، أنا متعب فقط”، وسيثبت أنه مريض ومعقد نفسيا. هناك شيئان يتضحان في جلسات العلاج الخاصة به. الأول هو أن دوغ طفل معتدى عليه ونشأ في عائلة قاسية ألقت ابنها في قفص مزر للكلاب، بعد القبض عليه وهو يطعم حيواناته الأليفة – الكلاب (هذا الجزء يستند إلى قصة حقيقية).
يهرب دوغ من الحبس عندما تداهم الشرطة منزله، ولكنه يجد نفسه في سجن من نوع آخر عندما يجد نفسه تحت رحمة نظام الرعاية. وعندما يتضور جوعا من فوائد الدولة ويبلغه قرار إغلاق ملجأ الحيوانات، ينتقل مع رفاقه الكلاب إلى مدرسة مهجورة، أخيرا، يجد مكانا يجعله ملجأ للحيوانات، ينطلق منه لتنفيذ سلسلة من الغارات الجريئة على منازل الأغنياء، “أؤمن بإعادة توزيع الثروة”، كما يردد أكثر من مرة.
المخرج لوك بيسون يعود بهذا الفيلم الذي يحركنا بعمق معه، فيلم حساس وذكي، وقبل كل شيء هو فيلم دقيق
لفترة من الوقت يركز المخرج بيسون ببساطة على دوغ الرومانسي، وكيف وقع في حب معلمة الدراما لطيفة سلمى (غريس بالما) وخلال الفترة القصيرة التي قضاها في مؤسسة للأحداث التي تعرفه بمسرحيات شكسبير (ذكر لاحقا أنه يحفظ جميع مسرحيات الكاتب المسرحي عن ظهر قلب)، وينكسر قلبه حين يكتشف أن ملهمته سلمى لها حبيب وقريبا سيتوج هذه الحب بالزواج. كما أنه يقضي بعض الوقت في متابعة دوغ في سعيه للعثور على وظيفة، ويتم رفضه في كل محاولة بشكل مهين، وتكثف إذلاله كرجل معاق. وعندما يجد عملا في ملهى ليلي وليوم واحد فقط (الجمعة) ويؤدي دوره مقلدا المغنية الفرنسية إديث بياف ويغني “لا فول” ويجد في هذا المكان المودة والقليل من المال للعيش مع رفاقه الكلاب.
يتنكر بملابس أديث بياف، “لطالما أحببت التنكر. هذا ما تفعله عندما لا تعرف حقا من أنت، أليس كذلك؟”، يقول دوغلاس في أحد المشاهد “أنت ترتدي ملابسك لتصنع ماضيا ولتنسى ماضيك”. بالحديث عن الكلاب، يقول “لديهم عيب واحد فقط، أنهم يثقون بالبشر”. كما يقول دوغ الشاب البالغ، المصاب بكدمات في ظروف غامضة وملطخ بالدماء ويرتدي زي مارلين مونرو المشوه وهو يسرد حكايته الغريبة إلى الطبيبة النفسية إيفلين في مركز الاحتجاز. الشيء الثاني الذي يفصح عنه دوغ لإيفلين ينطوي على قصة يتشابك فيها دوغ مع عصابة محلية تسمى إل فيردوغو (الجلاد)، التي كانت تبتز أصدقاءه الفقراء وتفرض إتاوات على أصحاب الأعمال البسيطة.
خلال مقابلته مع إيفلين رفعت الشخصية الرئيسية الحجاب عن ماضيها من خلال إخبار طبيبته النفسية بما حدث خلال السنوات الثلاثين الأولى من حياته: طفولته المأساوية، وصعوبات الاندماج الاجتماعي بسبب إعاقته ووحدته المطلقة، إذا لم يكن برفقة فقط حشد من الأصدقاء ذوي الأربعة أرجل. الفلاش باك يربط دوغ بتفاصيل ثرثارة مملة كيف احتفظ بذاكرته في مواقف والده المسيء بعنف (كليمنس شيك) الذي يحتفظ بمجموعة من الكلاب على حافة الجوع حتى تكون أكثر شراسة خلال معارك الكلاب.
ثم يحكي دوغ كيف يستخدم سربه من الكلاب في تنفيد سرقاته والتي لا يعتبرها سرقة، بل إعادة توزيع الثروات حين يسرق مجوهرات ومقتنيات الأثرياء الثمينة وتوزيعها على الفقراء لمساعدتهم. وينجح وكيل تأمين عنيد يدعى أكرمان (كريستوفر دنهام) في كشف هويته وسرقاته، ويزوره حاملا باقة ورد في الجمعة وهو اليوم الذي يعرض فيه في الملهى متنكرا بشخصية إديث بياف، من أجل المتعة والتعبير عن الذات.
يجعل دوغ عائلته من الكلاب وهذا ما أخبره والده عند قذفه في القفص. يؤمن دوغ بالله لأنه من كان سيرسل له هذه العشرات من الكلاب وأحد الحلول لكل من مشاكله؟ يرتدي ملابس نسائية لشخصيات تعرف عليها من خلال مجموعة من المجلات النسائية التي وجدها في القفص، وكذلك علمته أخصائية اجتماعية/ ممثلة جميلة والمكياج في أحد مراكز التأهيل.
فيلم دقيق
في الفيلم، يلعب لاندري جونز دور دوغلاس وكان أداؤه متميزا في شخصية رجل تعرض للإساءة عندما كان طفلا من قبل والده العنيف، والذي يلجأ إلى كلاب من أجل الصداقة عندما يصبح شخصا بالغا معذبا. في نهاية المطاف، حب الكلاب هو ما جمع بيسون ولاندري جونز معا.
يتذكر المخرج بيسون “عقدنا أنا وكاليب اجتماعين حيث تحدثنا عن الحياة والأفلام، ثم في الاجتماع الثالث، سألته عما إذا كان يحب الكلاب، تحدث معي عن الكلب الذي كان لديه عندما كان صبيا، ترك صدى عندي لأنني كنت أعيش نفس الحياة الانفرادية أثناء نشأتي، دائما مع كلبي. أصبحنا قريبين على الفور”.
استعد الممثل لاندري جونز للدور لمدة ستة أشهر تقريبا، قضى الكثير منها على كرسي متحرك “لفهم كيف يشعر بالإعاقة وكيف ينظر الناس إليك بشكل مختلف”.
في فيلم “دوغمان”، يرتدي لاندري جونز أيضا ملابس امرأة (على الرغم من أنه شخصية مستقيمة وليس لديه أي ميول للمثلية). تم وضع علامة على هذا الجانب من الفيلم على أنه يحتمل أن يكون رهاب المتحولين جنسيا على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن بيسون قال إن ملابس دوغلاس الغريبة هي مجرد واحدة من تنكراته المختلفة طوال الفيلم. كما يقول دوغلاس في مرحلة ما “أنت ترتدي ملابس عندما لا تعرف حقا من أنت، ربما كي تنسى ماضيك”.
الفيلم يصور رجلا تعرض في طفولته لسوء المعاملة من قبل والده العنيف الذي ألقى به في قفص الكلاب
هناك نظرية مفادها أن الأشخاص الذين يمتلكون الكلاب ينتهي بهم الأمر إلى أن يصبحوا مثل حيواناتهم الأليفة. يحكي دوغمان قصة لا تصدق عن طفل طبعت الحياة كدماتها على روحه البرئية وسيجد خلاصه بفضل الحب الذي لم يجده عند البشر ولكن تمنحه كلابه الحب والرفقة. تكمن فكرة دوغمان في أن الكلاب تستطيع أن تكون بطريقة ما في تناغم مع شاب منعزل ومتعاطف لدرجة أنها تقوم بتنفيذ أوامره عن طريق التخاطر تقريبا. لكن دوغمان ليست لديه شجاعة قناعاته لجعل هذه فرضية خيالية كاملة تأخذها أو تتركها، مما يجعلنا نتساءل تماما كيف درب دوغلاس كلابه على السطو وسرقة المجوهرات على القصور الفاخرة أو الدخول إلى مخبأ رئيس عصابة محلي وتثبيت فكيهم حول فخذية؟
استند المخرج بيسون في سيناريوه باللغة الإنجليزية إلى مقال قرأه عن عائلة فرنسية حبست طفلها في قفص في سن الخامسة، وقضى المخرج عاما مع الممثل لاندري جونز استعدادا لما هو دور مستهلك للروح والجسد بشكل واضح. الممثل لاندري جونز، وهو موسيقي وممثل مولود في تكساس اشتهر بالدور الحائز على جائزة كان السينمائي في فيلم “نيترام”، قدم أداء مبهرا في دور دوغلاس، بعد أن تمرد على القواعد المجتمعية والجنس والمبالغة مع حبه للكلاب، لاندري جونز يتحول بشكل مثير للإعجاب إلى امرأة.
لا يتم قتل أي كلب في هذا الفيلم، على الرغم من سفك الكثير من الدماء عند المواجهة الأخيرة مع العصابة. يعيش دوغلاس في دعامات الساق التي تمنعه من الوقوف أو حتى المشي لفترة طويلة جدا بسبب الرصاصة الارتدادية من بندقية والده التي أصابته عندما كان طفلا محبوسا، ويتألق لاندري جونز في مشاهد غنائية في أدائه لشخصية دوغلاس، مرة كإديث بياف وأخرى كمارلين ديتريش المحطمة إلى حد ما قبل أن يذهب بالكامل في تقمص شخصية مارلين مونرو خلال فورة تبادل لإطلاق النار مع أعدائه أفراد العصابة الذين اقتحموا عرينه أو مخبأه.
في الختام عاد المخرج لوك بيسون بهذا الفيلم الذي يحركنا بعمق معه، فيلم حساس، ذكي، وقبل كل شيء دقيق. حكاية تركز على مكان اختلافات الجميع في مجتمعنا، ومع ذلك، فإن العيوب المعتادة في سينما بيسون لا تزال قائمة بما في ذلك ميله إلى ابتزاز المشاعر وكسب تعاطف المشاهد مع شخصيات فيلمه (الطبيب النفسي، الأم المطلقة، التي تثير مشاكلها، بطريقة بسيطة، مشاكل مريضها).
علي المسعود
كاتب عراقي