إبراهيم العريس باحث وكاتب
الأحد 10 مارس 2024م
آرشيمبولدو النهضوي الذي أعاد للطبيعة حصتها من أجساد البشر
السورياليون يكشفون عن كون الرسام واحداً منهم وعن تطابق نظرته الفلسفية مع فكرهم
مواد التغذية في واحدة من لوحات جيوزيبي آرشيمبولدو (موقع الفنان)
لن يكون مفاجئاً في نهاية الأمر أن يعجز المرء عن العثور على ما يتعلق بالرسام النهضوي الإيطالي جوزيبي آرشيمبولدو (1527 – 1593) في أية موسوعة فنية معاصرة، حتى وإن كان لن يفوته أن يلاحظ أن سورياليي القرن الـ20 قد اعتبروه واحداً من مؤسسي فنونهم، ففي الحقيقة حتى في عصر النهضة الفنية الأوسط، كان هذا الرسام يعتبر حرفياً ماهراً أكثر منه مبدعاً حتى وإن كان السورياليون سينظرون إليه نظرة أخرى.
أما هو فمن الواضح أنه لم يكن ليبالي بما ستكون النظرة إليه في الأزمنة المقبلة، وكان رساماً بالتأكيد، لكنه كان أيضاً مهندساً معمارياً وناسخاً للوحات الأقدمين، وقبل ذلك كله مخططاً للنوافذ الزجاجية في الكاتدرائيات ولا سيما في مسقط رأسه ميلانو عاملاً في ركاب والده مهندس تلك الكاتدرائيات، مكتسباً مهارة مدهشة في مجال التلوين وفراغاً في الوقت مكنه من تأمل الطبيعة وعناصرها ونباتاتها وحيواناتها وغيرها من أمور ستلعب دوراً كبيراً في حياته وفنه.
جوزيبي آرشيمبولدو كان ينتمي إلى أسرة أرستقراطية تتنوع معارفها بين قصور الحكام وأعلى المراتب الكنسية والطبقات البورجوازية الصاعدة بقوة في تلك الأزمان التي كانت تشهد تخلي الفنون بالتدريج عن الهيمنة الدينية، لتدخل عالم الحياة اليومية لموسري تلك الطبقات وصولاً إلى قصور الحكام مما جعل الشاب رساماً أثيراً لدى ملوك ألمانيا وحكام براغ وغيرها.
والحقيقة أن تلك المكانة كانت ما فرض على "زبائن" آرشيمبولدو قبول فنه والنظر إليه نظرة راحت تزداد جدية عاماً بعد عام ولوحة بعد لوحة، والحقيقة أيضاً أن تلك النظرة ما كان يمكنها أن تكون مؤكدة وممكنة لولا مكانة الفنان الشاب الاجتماعية ولكان من شأن فنه أن يعتبر فناً غرائبياً وفي نظرات أخرى فناً ترفيهياً يخلو من تلك الروح التي كانت تنمو في الفنون الإيطالية حينها.
ومهما يكن من أمر هنا، لا ريب في أن أول ما كان يلاحظ في التلقي المتصاعد لفن آرشيمبولدو على مدى قرون عديدة كان ذلك البعد الترفيهي الذي سينقلب ولا سيما مع السورياليين إلى بعد فلسفي أعاد تفسير عشرات اللوحات التي خلفها آرشيمبولدو، ويقيناً إن إعادة التفسير تلك كان من شأنها أن ترضي الفنان بل تضعه هو نفسه على تماس مع ذلك الفن الذي أبدعه وكان من خيبات أمله في حياته أن كثراً لم ينظروا إليه مدركين البعد "الفلسفي" الذي سيضفيه عليه السورياليون وغيرهم من فلاسفة الفن في الأزمنة الأقرب إلينا. فكيف يمكننا أن نتحدث هنا عن ذلك البعد الذي سيصبح بالتدريج جزءاً من فلسفة الفن وينتقل بمكانة جيوزيبي آرشيمبولو من مرتبة الفن التزييني البديع للبصر بالتأكيد، إلى مرتبة الفن الكبير؟
تعليق