آدم فتحي "نافخ الزجاج الأعمى" الذي يبصر بالشعر
شاعر تونسي مجدد ومترجم مختلف يرى أن الترجمة عملية كانيبالية.
الخميس 2024/03/14
ShareWhatsAppTwitterFacebook
تجربة مع الشعر واللغات
آدم فتحي من أبرز التجارب الشعرية التونسية التي قدمت الكثير للقصيدة العربية في مختلف أنماطها، كما قدم العديد من الأغاني التي صارت تمائم راسخة في وجدان التونسيين، وللشاعر وجه آخر لا يقل تأثيرا هو المترجم الذي أنجز ترجمات مختلفة لعل أهمها ترجماته لإيميل سيوران التي صارت علامات متينة في المشهد الثقافي العربي المتحرك.
استضافت مؤخرا جمعية عشاق الكتب بسوسة، والتي أنا من أعضائها، الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي “نافخ الزجاج الأعمى”، نسبة إلى واحدة من أهم مجموعاته الشعرية، التي أزاحت الضباب عن الشعر.
لا نعلم حقيقة إن كانت المسميات مقرونة بالأسماء، أهي وضع اصطلاحي اعتباطي من البشر، أم إن لها من السحر الذي يجعل الدال غير منفك عن مدلوله، مقرونا به، آسرا به أسرا؟
الكتابة علاقة دموية
قيل في رسالة الغفران للمعري إن آدم حين سكن الجنة تكلم اللغة العربية. حين عوقب، نزل من الجنة وصار يتكلم اللغة السريانية، فعقابه كان نسيانه للغته الأصلية، اللغة الوليدة. لم يُعاقب شاعرنا آدم بنسيانه اللغة الأصلية، وإنما عوقب حين حشر في جحيم المعري، حيث فحول الشعراء، حيث بشار بن برد، بشار الأكمه، الذي أبصر بالشعر.
بين الأكمه والأعمى والأعمش شروخ وشقوق. قيل في المعاجم، إن الأعمى هو من فقد بصره تماما، وإن الأكمه هو من ولد أعمى، وإن الأعمش هو ضعيف البصر. آدم، لم يكن أعمى، لم يكن “نافخ الزجاج الأعمى”، وإنما كان “نافخ الزجاج الأكمه”. لم ير منذ صغره الكلمة، وإنما قال “هذه كلمة”، احتضن الأشياء فسماها. لم تنم الشجرة بين عينيه، وإنما نمت بين أحراش اللغة.
آدم هو الشاعر الذي أبصر بالشعر. بين الكاتب والشاعر أيضا شقوق. ليس الشاعر بمنزلة كاتب، وليس الكاتب بمنزلة شاعر. في جحيم المعري وجد آدم شاعرنا، رفع عنه كمهه، سبقت الكلمات الأشياء، ومن أثر السبق حدث أثر الدهشة. ومن أثر الدهشة لم نحدس بعد إن كان آدمنا قد انتقل من الأسفل إلى الأعلى، أم من الأعلى إلى الأسفل؟
الشاعر آدم فتحي يعتبر أن الترجمة هي الأصل في الأشياء فحين نقرأ نحن نترجم وحين نكتب فنحن نترجم أيضا
أثر الكلم ماتع. آدم، في أمكنة كثيفة، في الشذرة، وشعر الكتلة، في الأغنية، وفي الترجمة، إنه متعدد، لكن لغته واحدة، تنبع من مكان واحد، لحمه بل دمه. يقول آدم فتحي في لقائه مع جمعية عشاق الكتب بسوسة “الكتابة الإبداعية علاقة دموية وجسدية مع النص، أنت تضع جسدك على ورقة حين تكتب قصيدة”.
ويعتبر آدم أن الترجمة هي الأصل في الأشياء، فحين نقرأ نحن نترجم. وحين نكتب فنحن نترجم. يقول “إن الترجمة أشبه بعملية كانيبالية” ، فنحن نأكل لحم الآخرين عن طريق الكلمات، نأكله بأسناننا، لا عن طريق طقم أسنان مستعار”.
استعار آدم صورة الوليمة ليؤثث مشهد الترجمة، هناك تفيض اللغة على الحقيقة، آدم هو المترجم الذي يسير توازيا والفائض أيضا.
ترجمات آدم عديدة، حاور نصيا كتابا عديدين. ولعل علاقته بالفيلسوف الروماني – الفرنسي إميل سيوران علاقة فريدة، بل مخصوصة. ترجم مؤلفات عديدة لإميل سيوران، من بين هذه المؤلفات “مثالب الولادة” و”المياه كلها بلون الغرق” و”تاريخ ويوتوبيا”، و”اعترافات ولعنات”، و”تمارين في الإعجاب”، و”رسالة في التحلل”، و”السقوط في الزمن”.
حين يترجم آدم لسيوران يختار الجمل العربية المعقدة تركيبيا، ذات المراس الصعب، الجمل التي إن تماهيت مع آخرها نسيت أولها. آدم، هنا، لا يقصد اللبس التركيبي، وإنما يقصد السيولة، الانحلال، الفيضان. الجملة عند آدم تتعدى الفعل والفاعل والمفعول به، هذا الثالوث “النموذج”. الجملة عند آدم تمهد الطريق نحو مستقبل اللغة. هذا المستقبل الذي يمشي بخطوات ولجة، يفتح ذراعيه إلى الوحدات القلقة، العارية والمتوجسة.
تجربة راسخة
آدم فتحي يتحرك في أمكنة كثيفة، في الشذرة وشعر الكتلة وفي الأغنية وفي الترجمة، إنه متعدد لكن لغته واحدة
حظي الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي بعدة جوائز أدبية من بينها جائزة “سركون بولص للشعر والترجمة”، وجائزة “أبي القاسم الشابي” الشعرية. ولعلنا نتنبأ بجائزة يحظى بها مستقبلا، جائزة في إبداعية اللغة. لغويا، الجملة هي جماعة الشيء، وهي ركنان، مسند ومسند إليه. عرفنيا، لا نعرف أيهما أسبق إلى البروز والظهور، هل أتى الاسم أولا ليحركه الفعل، أم أتى الفعل أولا لجذب أثر السحر بين الاسم والمسمى. آدم، هو الشاعر التجاوزي، الذي فتت ركني الجملة المتواضع عليهما، فلما زال الفتات، نفخ في الثقب.
“تسأل الطفلة أباها: كيف تكتب؟/ كان أعمى/ أنظر في نفسي طويلا إلى أن أرى ثقبا في الصفحة. أضع على الثقب كلمة. أنفخ في الكلمة كي تكبر قليلا. هكذا أحصل أحيانا على قصيدة./ ثم ماذا؟/ لا شيء سوى أني قد أقع في الثقب فلا أعود”. هكذا كتب في نص من ديوانه “نافخ الزجاج الأعمى، أيامه وأعماله”.
لسانيا، نحار بعد في إسناد ماهية للكلمة، الكلمة في اللغة العربية غير الكلمة في اللغة الفرنسية، والكلمة في اللغة الفرنسية غير الكلمة في اللغة الانجليزية. أن تكون مترجما، يعني أن تؤلف بين اللغات. أن تكون مترجما، يعني أن تشكلن اللسان، وترسم “نظامية” إبداعية داخل “النظامية” اللغوية، أن تكون مترجما يعني أن تحدث أنساقا باطنة يصعب أن يفككها لغوي مختص في أبنية الصرف والاشتقاق والإعراب. استطاع آدم، اللغوي الشاعر المترجم، أن يتجاوز لبسا لغويا لما قال “هذه كلمة”. لم يفلت من الثقب/ الجحيم حيث تكبر الكلمة.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
زهرة القاضي
كاتبة تونسية
شاعر تونسي مجدد ومترجم مختلف يرى أن الترجمة عملية كانيبالية.
الخميس 2024/03/14
ShareWhatsAppTwitterFacebook
تجربة مع الشعر واللغات
آدم فتحي من أبرز التجارب الشعرية التونسية التي قدمت الكثير للقصيدة العربية في مختلف أنماطها، كما قدم العديد من الأغاني التي صارت تمائم راسخة في وجدان التونسيين، وللشاعر وجه آخر لا يقل تأثيرا هو المترجم الذي أنجز ترجمات مختلفة لعل أهمها ترجماته لإيميل سيوران التي صارت علامات متينة في المشهد الثقافي العربي المتحرك.
استضافت مؤخرا جمعية عشاق الكتب بسوسة، والتي أنا من أعضائها، الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي “نافخ الزجاج الأعمى”، نسبة إلى واحدة من أهم مجموعاته الشعرية، التي أزاحت الضباب عن الشعر.
لا نعلم حقيقة إن كانت المسميات مقرونة بالأسماء، أهي وضع اصطلاحي اعتباطي من البشر، أم إن لها من السحر الذي يجعل الدال غير منفك عن مدلوله، مقرونا به، آسرا به أسرا؟
الكتابة علاقة دموية
قيل في رسالة الغفران للمعري إن آدم حين سكن الجنة تكلم اللغة العربية. حين عوقب، نزل من الجنة وصار يتكلم اللغة السريانية، فعقابه كان نسيانه للغته الأصلية، اللغة الوليدة. لم يُعاقب شاعرنا آدم بنسيانه اللغة الأصلية، وإنما عوقب حين حشر في جحيم المعري، حيث فحول الشعراء، حيث بشار بن برد، بشار الأكمه، الذي أبصر بالشعر.
بين الأكمه والأعمى والأعمش شروخ وشقوق. قيل في المعاجم، إن الأعمى هو من فقد بصره تماما، وإن الأكمه هو من ولد أعمى، وإن الأعمش هو ضعيف البصر. آدم، لم يكن أعمى، لم يكن “نافخ الزجاج الأعمى”، وإنما كان “نافخ الزجاج الأكمه”. لم ير منذ صغره الكلمة، وإنما قال “هذه كلمة”، احتضن الأشياء فسماها. لم تنم الشجرة بين عينيه، وإنما نمت بين أحراش اللغة.
آدم هو الشاعر الذي أبصر بالشعر. بين الكاتب والشاعر أيضا شقوق. ليس الشاعر بمنزلة كاتب، وليس الكاتب بمنزلة شاعر. في جحيم المعري وجد آدم شاعرنا، رفع عنه كمهه، سبقت الكلمات الأشياء، ومن أثر السبق حدث أثر الدهشة. ومن أثر الدهشة لم نحدس بعد إن كان آدمنا قد انتقل من الأسفل إلى الأعلى، أم من الأعلى إلى الأسفل؟
الشاعر آدم فتحي يعتبر أن الترجمة هي الأصل في الأشياء فحين نقرأ نحن نترجم وحين نكتب فنحن نترجم أيضا
أثر الكلم ماتع. آدم، في أمكنة كثيفة، في الشذرة، وشعر الكتلة، في الأغنية، وفي الترجمة، إنه متعدد، لكن لغته واحدة، تنبع من مكان واحد، لحمه بل دمه. يقول آدم فتحي في لقائه مع جمعية عشاق الكتب بسوسة “الكتابة الإبداعية علاقة دموية وجسدية مع النص، أنت تضع جسدك على ورقة حين تكتب قصيدة”.
ويعتبر آدم أن الترجمة هي الأصل في الأشياء، فحين نقرأ نحن نترجم. وحين نكتب فنحن نترجم. يقول “إن الترجمة أشبه بعملية كانيبالية” ، فنحن نأكل لحم الآخرين عن طريق الكلمات، نأكله بأسناننا، لا عن طريق طقم أسنان مستعار”.
استعار آدم صورة الوليمة ليؤثث مشهد الترجمة، هناك تفيض اللغة على الحقيقة، آدم هو المترجم الذي يسير توازيا والفائض أيضا.
ترجمات آدم عديدة، حاور نصيا كتابا عديدين. ولعل علاقته بالفيلسوف الروماني – الفرنسي إميل سيوران علاقة فريدة، بل مخصوصة. ترجم مؤلفات عديدة لإميل سيوران، من بين هذه المؤلفات “مثالب الولادة” و”المياه كلها بلون الغرق” و”تاريخ ويوتوبيا”، و”اعترافات ولعنات”، و”تمارين في الإعجاب”، و”رسالة في التحلل”، و”السقوط في الزمن”.
حين يترجم آدم لسيوران يختار الجمل العربية المعقدة تركيبيا، ذات المراس الصعب، الجمل التي إن تماهيت مع آخرها نسيت أولها. آدم، هنا، لا يقصد اللبس التركيبي، وإنما يقصد السيولة، الانحلال، الفيضان. الجملة عند آدم تتعدى الفعل والفاعل والمفعول به، هذا الثالوث “النموذج”. الجملة عند آدم تمهد الطريق نحو مستقبل اللغة. هذا المستقبل الذي يمشي بخطوات ولجة، يفتح ذراعيه إلى الوحدات القلقة، العارية والمتوجسة.
تجربة راسخة
آدم فتحي يتحرك في أمكنة كثيفة، في الشذرة وشعر الكتلة وفي الأغنية وفي الترجمة، إنه متعدد لكن لغته واحدة
حظي الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي بعدة جوائز أدبية من بينها جائزة “سركون بولص للشعر والترجمة”، وجائزة “أبي القاسم الشابي” الشعرية. ولعلنا نتنبأ بجائزة يحظى بها مستقبلا، جائزة في إبداعية اللغة. لغويا، الجملة هي جماعة الشيء، وهي ركنان، مسند ومسند إليه. عرفنيا، لا نعرف أيهما أسبق إلى البروز والظهور، هل أتى الاسم أولا ليحركه الفعل، أم أتى الفعل أولا لجذب أثر السحر بين الاسم والمسمى. آدم، هو الشاعر التجاوزي، الذي فتت ركني الجملة المتواضع عليهما، فلما زال الفتات، نفخ في الثقب.
“تسأل الطفلة أباها: كيف تكتب؟/ كان أعمى/ أنظر في نفسي طويلا إلى أن أرى ثقبا في الصفحة. أضع على الثقب كلمة. أنفخ في الكلمة كي تكبر قليلا. هكذا أحصل أحيانا على قصيدة./ ثم ماذا؟/ لا شيء سوى أني قد أقع في الثقب فلا أعود”. هكذا كتب في نص من ديوانه “نافخ الزجاج الأعمى، أيامه وأعماله”.
لسانيا، نحار بعد في إسناد ماهية للكلمة، الكلمة في اللغة العربية غير الكلمة في اللغة الفرنسية، والكلمة في اللغة الفرنسية غير الكلمة في اللغة الانجليزية. أن تكون مترجما، يعني أن تؤلف بين اللغات. أن تكون مترجما، يعني أن تشكلن اللسان، وترسم “نظامية” إبداعية داخل “النظامية” اللغوية، أن تكون مترجما يعني أن تحدث أنساقا باطنة يصعب أن يفككها لغوي مختص في أبنية الصرف والاشتقاق والإعراب. استطاع آدم، اللغوي الشاعر المترجم، أن يتجاوز لبسا لغويا لما قال “هذه كلمة”. لم يفلت من الثقب/ الجحيم حيث تكبر الكلمة.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
زهرة القاضي
كاتبة تونسية