Mohammad Kujjah مثقفو حلب
اعلام راحلون من حلب وجمعية العاديات
"عائشة الدبّاغ" بنت الشهباء *
الباحثة والأديبة والشاعرة
1927 _ 2020
1 - تلقاكَ بابتسامةٍ وادعةٍ وبهدوءٍ واثق، ونظراتٍ تبعث الطمأنينة، فإذا تحدثتْ أخذتْ بمجمع الألباب، علماً غزيراً وأدباً جمّاً، ومعرفةً واسعة، ولساناً طليقاً وعبارةً بليغة، وأفقاً يمتدّ عبر القارات، وإتقاناً لعدة ألسن.
2 - "عائشة" الحلبية، أبوها "عبد القادر الدباغ" صديق المفكر العربي الكبير "عبد الرحمن الكواكبي" ورفيق لحظاته الأخيرة في مصر، فحينما شعر "الكواكبي" بأن السمّ قد دُسّ له في فنجان القهوة، أرسل يستدعي صديقه الوفيَّ ليقول له: (لقد سمّموني يا عبد القادر)! ذلك "عبد القادر" هو والد "عائشة".
أسرةٌ حلبيّة عريقةٌ في مضمار التجارة بين الشام ومصر واستانبول، وفي ظروفٍ محافظة تمكّنت "عائشة" أن تشقّ طريقها إلى العلم مرحلةً إثر مرحلة.
3 - في حلب درست المرحلة الإبتدائية. ثم حينما ابتعدت أسرتها عن حلب بسبب عمل شقيقتها الكبرى في (جرابلس) قابلةً متخرجة من المعهد الطبي، تابعت "عائشة" تعليمها الإعدادي والثانوي في مدرسة داخلية للبنات في دمشق، وكانت دائماً من المتميزات المتفوقات. وبعد دمشق، مضت "عائشة الحلبية" إلى بيروت لمتابعة الدراسة في الجامعة الأمريكية، وأشرف على أطروحتها في الماجستير المؤرخ الكبير "نقولا زيادة"، وهو الذي نصحها بأن يكون موضوع الأطروحة: (الحركة الفكرية في حلب خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين).
*****
4 - كانت حلب في تلك الفترة تمور بالمفكّرين والباحثين والأدباء والشعراء ودعاة الإصلاح، ولا يزال دور حلب لم يأخذ حقّه من الدراسة والتوثيق، بينما تسلّط الأضواء بقوة على دور القاهرة وبيروت.
حلب التي يكفيها فخراً أنها أنجبت "الكواكبي" العظيم الحرّ، في كتابيه (أم القرى) و(طبائع الاستبداد)، ولا يزال هذان الكتابان ينبوعاً لا ينضب للفكر المستنير والدعوة إلى الحرية.
حلب التي أنجبت في تلك الفترة الإخوة الثلاثة: "فرنسيس" و"عبد الله" و"مريانا مرّاش"، وأنجبت "جبرائيل الدلال"، والشيخ المؤرخ "كامل الغزي" وأخاه الشيخ "بشير الغزي"، والمؤرخ "محمد راغب الطباخ"، والأديب "قسطاكي الحمصي".
5 - حلب التي صدرت فيها عشرات الصحف والمجلات، وكانت لها الريادة في الطباعة والصحافة والاقتصاد وحركات التحرر والإصلاح.
حلب التي عرفت (مجلة الحديث) لمدة 32 عاماً، والتي أصدرها "سامي الكيالي" لتكون أهم منبرٍ للثقافة العربية في النصف الأول من القرن العشرين.
*****
6 - في كتاب "عائشة الدباغ" (الحركة الفكرية في حلب خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين) رصدٌ وتوثيق وتحليل ودراسةٌ لفترة هامة من حياة حلب الفكرية والاجتماعية، بحيث أصبح هذا الكتاب مرجعاً لا يستغنى عنه لمن أراد دراسة تلك الفتره من حياة المدينة. وعلى الرغم مما لحق حلب من نكبات وقصّ أجنحةٍ وتهميش، فإنها بقيت دائماً منارةً للإبداع، ورائدةً للتفوق والأولوية المتعددة.
7 - عادت "عائشة الدباغ" من بيروت لتكون إحدى رائدات التربية والتعليم، فكراً وإرادة ومعرفةً وخلقاً رفيعاً، ولا تزال بصماتها حيّةً في كلّ مكانٍ عملت فيه في حلب وفي إدلب.
ولم ترَ "عائشة" أن مسيرة علمها قد بلغت حدّها، فها هي في كندا تتابع دراستها وتحصيلها في العلوم الإنسانية، وها هي تضيف إلى التاريخ بُعداً فلسفياً واجتماعياً، وكانت في المعهد الذي درست فيه في كندا الأنثى الوحيدة بين أعدادٍ من الرجال. وقد أتاحت لها تلك الدراسة أن توسّع أفقها، كما أتاحت لها أن تقوم بعدة أسفارٍ حول العالم، وبخاصة أوروبا وأمريكا والبلاد العربية، وأن تكتب انطباعاتها عن تلك الأسفار، وهي الأديبة التي تتقن -إلى جانب العربية- الانكليزية والفرنسية، حديثاً وترجمةً، فكأنها واحدة من أبناء انكلترا أو فرنسا.
*****
8 - وبهذه الروح الإنسانية المتدفقة بالحيوية، رأينا "عائشة الدباغ" تهَب وقتها للجمعيات الثقافية والخيرية والمشاريع الإنسانية، ورأيناها في مجالس إدارة عددٍ من الجمعيات، ومنها عضويّتها في مجلس إدارة جمعية العاديّات، وما قدّمته لتلك الجمعية من جهود وأفكار ودعم، ولا تزال وفيةً فيما تقدمه.
ورأينا "عائشة الدباغ" تفتح لنفسها طريقاً جديداً في العمل الإبداعي، فإذا هي تصدر ثلاث مجموعاتٍ شعرية، فيها رصانةُ اللغة العربية وعذوبتها، وفيها تمكّنُ "عائشة" من ناصية تلك اللغة وبراعتها في الكتابة بها. ورأينا "عائشة الحلبية" تترجم عدداً من الأعمال الأدبية عن الإنكليزية والفرنسية، وتنشر تلك الأعمال ليفيد منها القارئ العربي في إطار الثقافة الإنسانية التي تشترك بقيمها الخلاقة وأبعادها الخيرة.
9 - "عائشة عبد القادر الدباغ" بنت الشهباء، تذكرنا بـ "عائشة عبد الرحمن" بنت الشاطئ. واحدةٌ في حلب والأخرى في القاهرة، تشتركان في ريادة العمل الفكري وتقديم الصورة المثلى للحياة الفكرية لبلديهما.
ومن طرائف ما تذكره "عائشة الدباغ" حين كانت في كندا، تلك الزيارة التي قام بها شاه إيران المخلوع "محمد رضا بهلوي" إلى المعهد الذي كانت تدرس فيه، والحوار الذي جرى بين الشاه الإيراني وعائشة الحلبية حول القضية الفلسطينية، وكانت إيران الشاه حينها من أقرب أصدقاء العدو الصهيوني، وكانت "عائشة" نموذج الفكر العربي الحر.
تحية للرائدة "عائشة الدباغ" بنت حلب البارة، والمثال الذي نتمنى أن يظلّ قدوةً في عمل الخير، وفي استنارة الفكر وفي العطاء الإنساني الذي لا يتوقف.
ولتبق "عائشة" في أفقها الرفيع وإبداعها الدائم.
*****
10 - في عام 2008 اقامت وزارة الثقافة ندوة تكريمية لي ، أتبعتها بنشر كتاب بعنوان " محمد قجة الباحث المبدع " . وقد شرفتني الاديبة الشاعرة عائشة الدباغ بقصيدة نظمتها في تلك المناسبة ، وتم نشرها في كتاب التكريم .
قصيدة الأديبة عائشة الدباغ
في تكريم الباحث محمد قجّـة عام 2008
"أبو حسنٍ" سما في العلم نجما
"محمد" في الورى اسمٌ مسمّى
تدرَّجَ بالمكارم والمعالي
يلبّي إنْ قصدْتَ حِماهُ يوما
إذا ذُكرَ الرجال يُقال توّاً
بأنه فاقهم عقلاً وعزما
وسلطان المنابر لو علاها
لَدَانتْ طوعَه حُكماً وحتما
فصاحتُهُ بـيانٌ لا يُضاهى
ويُدرك حسنَه من رام فهما
وأبحاثٌ له نَشرتْ علوماً
تآليفٌ كذا، نثراً ونظْما
إذا الأيام نالتْتكم بسهمٍ
أذاقتْكم تباريحاً وهمّا
وأضنتْكم مآسٍ أو دواهٍ
تُحيل الفجرَ ليلاً مُدْلَهِمّا
قصدْتم صوبَ بحرٍ، بل خضمٍّ
للآليه زَهَتْ كيفاً وكمّا
وبحرُك إنْ يَغُصْ فيه رجالٌ
أرادوا أن يصيبوا فيه سهما
لَحالتْ دون جهدهمُ رياحٌ
فما بلغوا، وما نالوه غُنْما
وبحرُكَ لو دَنا منه أناسٌ
وبُحّاثٌ لصاروا فيه طُعما
بدأْبٍ، بل بفكْرٍ قد تسامى
إلى العليا رقى حلماً وحزما
وغيره سادرٌ في الغيّ يبغي
سمواً، كان بين الناس رقما
لقد ناشدتُ شعري أن يصفه
أجاب : رأيته للجهل خصما
"أبا حسن" مآثرُكُم تبدّتْ
بكم قلبٍ سَمَتْ قدراً ونُعمى
بهذا الحفل تَوَّجْتُمْ جهوداً
غزيرٌ هَطْلُها كيفاً وكمّا
جزاكَ اللهُ عن "حلبٍ" بخيرٍ
يَراعي كَلَّ، لم أظفرْ بِنُعمى
11 - توفيت الأستاذة عائشة الدباغ يوم 25 _ 9 _ 2020
تغمدها الله بواسع رحمته ورضوانه واسكنها فسيح جنانه .
12 - الصور المرفقة :
١ - صورة عائشة الدباغ في اعوامها الأخيرة
٢ الصورة عام 1965 وهي عضو في المجلس الوطني " مجلس الشعب "
٣ - كتابها " الحركة الفكرية في حلب ، وقد اعدنا طباعته خلال احتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2006 ووزعناه هدية للباحثين .
٤و٥ ديوان شعر " وأعشب القلم " مع الصفحة الأولى وفيها إهداء الديوان منها الي عام 2001 .
Basel O Hariri