عرابة بيروت.. دراما الآلام المُبَهرجة
تاريخ النشر: الإثنين, 19-02-2024
تشرين- بديع صنيج:
إذا انطلقنا من أن العرَّاب يكون مسؤولاً عن زرع القيم في فكر أبنائه الروحيين، فإن مسلسل “عرابة بيروت” (تأليف مازن طه ونور شيشكلي) تمحور حول أخلاقيات المدينة في ستينيات القرن المنصرم، من خلال نمذجتها بملهى “أولد” بيروت، وما يُحاك ضمنه من دسائس واختراقات أمنية، وما يخفيه من أسرار وآلام مستترة خلف العروض المُبهرة.
أجواء من البذخ تحيط بالمكان الذي تديره مدام جولييت (جوليا قصار)، وبنات الليل اللواتي يشتغلن معها، ورغم اللامبالاة المتعلِّقة بالتعاطي مع الجسد، والتَّدرُّب على تطويعه لخدمة زبائن الملهى وجمع المعلومات اللازمة لعرابة بيروت منهم، إلا أن تلك الأجساد تحمل عذاباتها وأورام ماضيها المتفشية، لكنها تجد في هذا المكان فسحتها الضرورية للحرية ومواربة الأسى، وفي بعض الأحيان لتحقيق الأحلام.
ولكل من فتيات الهوى زينة (جيسي عبدو) وباتريسيا (رولا بقسماني) ومي (نادين الراسي) وكاميليا (نور الغندور) هواجسها ومخاوفها ورغباتها وعلاقاتها مع العالم خارج الملهى وماضيها المرير، زينة تعرضت وهي طفلة للاغتصاب من قبل زوج أمها، فنقمت عليها لأنها لم تفعل شيئاً حيال ذلك، لنكتشف في النهاية أنها هي من دهسته بسيارتها بعد معرفتها الأمر.
وباتريسيا ابنة الضيعة التي حلمت بأن تصير غنية وأكثر حرية، فتلقفتها جولييت وربَّتها على يديها، فبات جلّ اهتمامها أن تحظى بالعرض الكبير في الملهى، وبعد مكابرتها على جراحها في عملية الزائدة وتنفيذها للعرض تنفتح تلك الجراح وتؤدي إلى موتها.
أما مي فهي أم لطفلين وزوجها جميل (رودني حداد) وصوليٌّ ونذل، ويستغلها دائماً من أجل الحصول على المال، ويقتصر عملها في أولد بيروت على تقديم العروض الغنائية، وتغيب عن المنزل بحجة أنها تعمل في تمريض امرأة عجوز، مخفيةً الحقيقة عن أمها (رندة كعدي) التي لا تلبث أن تكتشفها في النهاية وتحصل مواجهة درامية من نوع مميز.
ومثل مي، كاميليا مصرية الجنسية وصاحبة العرض الراقص الأضخم في الملهى، لكن ماضيها يستمر في الضغط عليها بعدما اضطرت لقتل صاحب مشغل الخياطة الذي كانت تعمل فيه، ومحاولة أخيها قتلها للانتقام لشرفه لأن أخته باتت راقصة، وما زاد طين حياتها بلة إعجاب رجل الأعمال المتنفِّذ (مجدي مشموشي) بها، ورغبته بأن يجعلها إحدى الاستعراضيات في ملهاه بمصر ولو بالقوة.
تأتي علاقات الحب لتعزز الدراما وتغذيها، مي تنجذب إلى الساقي (إيلي متري) الذي يعشقها، وكاميليا تعجب بعمار (بديع أبو شقرا) الذي يحبها ويقرران الهرب، لكن في الأولد بيروت تبقى الكلمة الأولى والأخيرة حتى فيما يتعلق بالمشاعر للعرابة جولييت.
جولييت أيضاً رغم جبروتها وسطوتها على جميع من حولها بحكم علاقاتها وقوة شخصيتها، إلا أنها تُبالغ بحماية ابنتها ريما (ريان الحركة)، بعدما تعرضت لمحاولة قتل انتقاماً من أمها التي أحبَّت رجلين، لذا لجأت إلى إخفائها بمساعدة أختها ناديا (كارول عبود) التي تولت تربيتها، لنعيش فحوى “دائرة الطباشير القوقازية” لبرتولت بريخت بين الأم الفيزيولوجية والأم المُربية.
وإلى جانب التأثير الاجتماعي لجولييت على من حولها، إلا أنها لعبت دوراً كبيراً في الألاعيب السياسية، عبر تصوير فضائح لأحد المرشحين الكبار وإجباره على الانتحار بعدما قتل زوجته وعشيقها، لكن الخلخلة الدرامية الأكبر حصلت بعدما جاء باسم أديب العاصي (مهيار خضور) إلى بيروت مطالباً بحقه في الأولد بيروت، وتهديده بتهديم الملهى فوق رأس عرابته.
ساعده في ذلك معرفته بمكان تواجد ريما، أخته من أبيه، وتنفيذه مخططاً مشتركاً معها، أجبر والدتها على إمضاء التنازل عن الملهى، الذي يعود في النهاية لباسم ويصبح هو عرابه الجديد، فارضاً قيمه الخاصة، التي جعلت من جولييت مجرد زبونة فيه.
لكن كما كانت بداية المسلسل بجنازة من دون ميِّت لريما التي تم إخفاؤها، فإن طمع زينة بأن تصبح هي العرابة بعدما أقنعها ضابط الأمن (عمار شلق) بضرورة قتل جولييت لتحقق ذلك، ذاك الطمع أودى بحياة ريما لتصبح جنازتها حقيقية في النهاية، أي إننا عشنا عشر حلقات بين موتين الأول افتراضي والثاني حقيقي، وهو ما كان ثيمة المسلسل عموماً بين الحقيقة والوهم.
أداء الممثلين كان مبهراً بالمجمل واندغموا بشخصياتهم، وزاد من ألقهم الرؤية الإخراجية لفيليب أسمر التي أعادت حياكة مصائرهم، وتصوير بيروت الستينيات بكامل ألقها، خاصةً من ناحية الديكورات والإضاءة والأزياء والماكياج، وكأننا أمام استعادة تحتفي بجمال سويسرا الشرق في تلك الفترة وببهائها المديد.
العمل أنتجته شركة “إيغل فيلمز” بالتعاون مع منصة شاهد السعودية، ليكون واحداً من الأعمال الدرامية المشتركة بين الشركة اللبنانية والمنتج محمد مشيش.