يحيى حقي بين نجيب محفوظ وأحمد شوقي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • يحيى حقي بين نجيب محفوظ وأحمد شوقي

    يحيى حقي بين نجيب محفوظ وأحمد شوقي


    عرف أديبا يؤرخ لمعالم مصر وانبهر بشاعر أرستقراطي دافع عن الشعب.
    الجمعة 2024/03/08
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    نظرة تتفكر في حال مصر من أعمال أدبائها

    كان ليحيى حقي، الذي يعد أحد رواد القصة القصيرة في مصر والعالم العربي، موقفه الخاص والمميز من كاتبين يعتبران من بين أشهر المصريين في الأدب والشعر، هما نجيب محفوظ وأحمد شوقي؛ ففي حين عرف الأول عن قرب ورآه أديبا نابغة يؤرخ لمصر ومعالمها التاريخية والاجتماعية، لم يسعفه الحظ للتعرف على الثاني الذي رأى فيه شاعرا ينتصر لمصر مؤرخا لأحزانها وأفراحها.

    لم يلتق يحيى حقي المولود في القاهرة عام 1905 أمير الشعراء أحمد شوقي رغم أن عمره كان 27 عامًا عند وفاة شوقي عام 1932، ورحل بعده بستين عامًا (1992). غير أنه التقى كثيرا نجيب محفوظ، بل كان صديقَه ورئيسَه في العمل عندما عمل محفوظ في مصلحة الفنون التي انتقل إليها من وزارة الأوقاف بناء على اختيار يحيى حقي له.
    معالم مصر الأثرية



    حقي نشر أربع مجموعات من القصص القصيرة، من أشهر أعماله روايته "قنديل أم هاشم"، وقصته "البوسطجي"


    يذكر يحيى حقي -ومكتبه كان يجاور مكتب محفوظ- أنه دخل على محفوظ في المكتب فرآه واقفا وسط الحجرة، رافعًا رأسه إلى السقف، ويداه مشبكتان وراء ظهره، وجسده مشدود كقوس المنجد، ويذرع الحجرة ذهابا وإيابا، وهي تلك اللحظة التي كان مقبلا فيها محفوظ على تأليف “اللص والكلاب”.

    لقد حضر يحيى حقي مخاض “اللص والكلاب”. ولم ينس ضحكات وقهقهات محفوظ في ندواته، فكان يقول: لا ينبغ كاتب إلا إذا رأيته أحيانا يضحك ضحك نجيب محفوظ.

    ويُقسم يحيى حقي -في أحد لقاءاته عندما شكّك أحدهم في قيمة إبداع محفوظ- قائلا: والله العظيم أنا أعتبر نجيب محفوظ من معالم مصر الأثرية، لأن هذا الرجل أثبت لنا أنه منذ بدأ يكتب عبَّر عن عبقرية وأصالة لا حد لهما، كما عبَّر عن فكر ليبرالي لم يتحوَّل عنه طوال مراحل إبداعه.

    ويضيف: لقد اقتربتُ من الرجل سنوات طويلة، وأعرف كيف يجاهد من أجل الكلمة، ولا يكاد يصدر في أوروبا كتاب يشير إلى اتجاه أدبي جديد، إلا ويحرص على قراءته بشغف كبير.

    ويلاحظ يحيى حقي أن صاحب “الثلاثية” حرَّك فيها 52 شخصية. فيطلق عليه “مؤرخ الحياة المصرية”، وخاصة بعد أن قرأ “اللص والكلاب” و”ثرثرة فوق النيل”.

    وكان محفوظ يختلف مع يحيى حقي حول علي الكسَّار ونجيب الريحاني، كان حقي يفضِّل علي الكسار على نجيب الريحاني وكتب دراسة عنه، مؤكدًا أصالة الكسَّار وبساطته وأنه أقرب إلى الشخصية المصرية المسحوقة، في حين أن الريحاني -في نظر حقي- طبعة غربية. بينما كان محفوظ يفضِّل الريحاني بل تمنى أن يشارك نجيب الريحاني في أحد أعماله، وقد شاهد كل أعماله المسرحية والسينمائية، ويرى أنه ممثل مسرح يتفوق على ممثلين كوميديين عالميين كبار مثل فرنانديل الفرنسي، ولم يسبق الريحاني في عصره سوى شارلي شابلن. وقد شاهد محفوظ مسرحية “حكم قراقوش” للريحاني أكثر من عشرين مرة لأنها كانت عملا هائلا من وجهة نظره.

    ويتذكر محفوظ أنه من خلال الوظيفة عمل مع يحيى حقي الذي اختاره وعلي أحمد باكثير ليعملا معه في مصلحة الفنون التي أنشأها وزير الإرشاد فتحي رضوان عام 1955. والذي وصفه -في إهداء كتبه لمحفوظ- تارة بسيد كتَّاب الرواية، وتارة أخرى بأمير الروائيين، وثالثة بسيد الروائيين، ورابعة بأمير القصاصين العرب.

    يقول محفوظ: تعرَّفت إلى يحيى حقي في نادي القصة. كنت قد قرأت له رواية “قنديل أم هاشم” سنة 1945، وجدت فيها عذوبة وفنًّا رفيعين. وكان حقي يمضي يوم العمل كلَّه تقريبا في مكتبي الملاصق لمكتبه، وقد استنكر مني القيام لتحيته إذا أقبل في الصباح قائلا: أنت أديب كبير. ولكنني كنتُ موظفًا، وهو المدير، وهذا الوضع الأدبي الذي يقدره يحيى حقي لا يجيز لي التجاوز في علاقتي الوظيفية معه. نعم كنا أصدقاء، ولدينا ما نتواصل فيه إنسانيا، ولكنني دائما كنتُ أعطي الوظيفة حقَّها. ازدادت صداقتنا بمرور الأيام عن طريق الحوار والمؤانسة، كنا نمضي اليوم معًا في مصلحة الفنون، ثم يصحبني في سيارته لتوصيلي إلى بيتي في العباسية (9 شارع رضوان شكري)، قبل أن ينطلق إلى مسكنه بحي مصر الجديدة.
    امتداد لشاعر القبيلة



    نجيب محفوظ من معالم مصر الأثرية


    أما أحمد شوقي الذي لم يتعامل معه يحيى حقي أثناء حياته، فإنه كان يرى أن شوقي امتداد عصري لشاعر القبيلة في عصرها الذهبي، لا يُقام لها مأتم أو فرح إذا لم يحضره. وقبيلة شوقي هي مصر، لا باعتبارها قُطرًا قائمًا برأسه، بل باعتبارها قلب العروبة والإسلام. إذا اشتكى منها عضو، تداعى لها من هذا القلب شريان. كلنا في الهم شرق. وكان الزمن في مصر زمن البحث عن النفس، واستنقاذها من الشيوع أو الضياع.

    ويتعجب حقي من هذا الرجل، الأرستقراطي الذي ينضم إلى الشعب في محاربة القصر، فهو شركسي الأصل ورافع للعربية لواء الشعر، لم يتعلمها وفق منهج مدرسي، بل بالمخالطة والألفة والحب، نفذ عبر السطور ليصل إلى السليقة. ويوكد: ما أشد تقصيرنا في الوفاء بحقه وتجديد ذكره.

    ويشير يحيى حقي إلى أن مصر كانت كالقبيلة التي تتلهف على موعد شاعرها، فالزمن زمنه، ولقاؤه موعد محتوم مضروب. وجاءها شوقي فلم تكد تمتحن بواكير نظمه حتى أقرت له بموهبته وعرفت أنه شاعرها الذي تنتظر.

    ويرى أن الحفلة الرسمية التي أقيمت في أواخر عهد شوقي لمبايعته بإمارة الشعر (سنة 1927) قد سبقتها بزمن طويل مبايعة ضمنية بهذه الإمارة.

    ويكتب يحيى حقي مقالا في شخصية شوقي ومراثيه يقول فيه: شوقي هو شاعر القبيلة، هو منها القلب واللسان، المحامي والمؤرخ والسفير، لا يقام لها مأتم أو فرح إذا لم يحضره، وساقها هذا إلى المبايعة التي تخصه بالإعجاب والتدليل، وأن تغفر له أرستقراطيته، وجريه في ركاب القصر، وحمله لجراير بعض آثامه، لم تخض في سيرته خوض المتجسس الباحث عن العيوب أو الشذوذ، تدليلا منها له، فكان ما منه دلَّ عليها، لا يجد حرجًا من أن يشيد بشعره منًّا عليها، ويقول: وأنا الذي … أن يطلب منها أن تحمد ربها أن وجدت شاعرها رجلا نبيلا كريم الخلق، فيصف نفسه في رثائه لجورجي زيدان:

    لي دَولَةُ الشِعرِ دونَ العَصرِ وائِلَةٌ ** مَفاخِري حِكَمي فيها وَأَمثالي

    إِن تَمشِ لِلخَيرِ أَو لِلشَرِّ بي قَدَمٌ ** أُشَمِّرُ الذَيلَ أَو أَعثُرْ بِأَذيالي

    يحيى حقي يعتبر نجيب محفوظ من معالم مصر الأثرية، لأنه منذ بدأ يكتب عبَّر عن عبقرية وأصالة

    وَإِن لَقيتُ اِبنَ أُنثى لي عَلَيهِ يَدٌ ** جَحَدتُ في جَنبِ فَضلِ اللَهِ أَفضالي

    وَأَشكُرُ الصُنعَ في سِرّي وَفي عَلَني ** إِنَّ الصَنائِعَ تَزكو عِندَ أَمثالي

    ولكن هذا التدليل الذي لقيه شوقي قد أضرَّ به ولو قليلا، فهو لم يسلم أن يتحول أحيانًا بسببه من شاعر يهزُّ بقوة وجدان الشعب إلى شاعر لا يقصد إلا التطريب. كأن الشاعر القائد انقلب إلى نديم مسامر، ولما وجد نفسه في غمرة الأضواء، اتخذ شيئًا فشيئًا صورة راقص الباليه، مفتونًا هو نفسه قبل الجمهور برشاقته في حركته، وأجمل منها عنده رشاقة سكونه، كأنه تمثال، الحركة هي القصيدة، والسكون هو البيت.

    ولأن الباليه يجمع بين الموسيقى والتعبير الدرامي المنغم الرشيق، فإن الصورة المرتسمة في ذهن شوقي هي صورة راقص الباليه هذا، مغروزًا في لجة من الضوء وسط الظلام، ذراع مقوس مرفوع حذاء الرأس، وذراع ممدود بيد مفتوحة، كأنها تقول: هذا قلبي على كفي، أمنحه لك. وربما ساءني أحيانا من شعر راقص الباليه هذا تحول رشاقته إلى حركة تشبه تقصُّع الغواني.

    وأضر به هذا التدليل من ناحية أخرى، فقد زاد بسببه أنه يضيق بالنقد ضيقًا شديدًا، ولأنه شاعر القبيلة التي تستمد منه أمجادها، كان لا يرى النقد إلا حسدًا أو نكرانًا للجميل، أملق هو درره تحت أقدام الخنازير؟ وتمشي فيه الخوف من العدوى، والهلع من المرض، والرهبة من الموت، يتكتمها ويعلن أنه راضٍ، ومؤمن بقضاء الله، وتأبى إلا أن تتفجر في شواهد كثيرة من مرثياته.

    وتحت هذا الضوء يُحسن بنا أن نقرأ مراثي شوقي، تكاد تنطق بأن مقصده الأول ليس هو فحسب نعي الفقيد أو الإشادة بفضائله أو البكاء عليه وتعزية أهله، ولا بأس بشيء من التفلسف، يدور حول باطل الدنيا وحتمية الموت والاندهاش ووصف بشاعة القبر، بل القصد الأول هو التأريخ لأيام القبيلة، كأن موت إنسان له دور في حياة المجتمع، فرصة ينتهزها شوقي ليؤدي دوره مؤرخًا، فلو فاتته لأخل بحقوق القبيلة عليه. هذا سر تشييعه لكل جنازة تمر عليه. وحرام أن نلحق مراثيه بشعر المناسبات المرذول.
    شاهد على العصر



    من أشهر أعمال يحي حقي


    نستطيع أن نقول إن الذي يريد أن يؤرخ لمصر أو للأمة العربية أو للعالم الإسلامي، لا يستغني عن قراءة شوقي. ولا يريد شوقي أن يكون مؤرخ القبيلة فحسب، بل أن يكون أيضا شاهدًا على العصر.

    وهلع شوقي من المرض ينعكس على مراثيه، فهو في أحيان كثيرة يحرص أشد الحرص على أن يذكر لنا كيف كان مرض الفقيد، وبأي داء مات، فنحن نعلم منه أن إسماعيل صبري مات بالذبحة الصدرية، وعبده نور مات فجأة، وأن مصطفى كامل لم يبن للناس داؤه: هل هو القلب أم السل أم السرطان؟ يسردها شوقي سرد خبير بالأمراض، وأن عاطف بركات قد امتد مرضه وطال أرقه في الفراش، وأن حسين شرين مات بعد مرض طويل، وأن إسماعيل أباظة زار شوقي قبل موته وهو مريض محطم، وهكذا وهكذا.

    أما استبشاعه للقبر فإنه يظلل كثيرًا من مراثيه، فالقبر رقاد على الحصى بعد التقلب في الحرير، ومعانقة للأكفان في جوف الثرى، بعد الطراز الفخم في الأعياد، والقبر مملوء حشرات، لا بأس أن توحي إليه بحكمة. يقول لعمر لطفي:

    لا تَشكُوَنَّ الضُرَّ مِن حَشَراتِهِ ** حَشَراتُ هَذا الناسِ أَقبَحُ مَنظَرا

    ويقول عن فتحي زغلول، وقد هام بالمقابلة بين رأسه تتقد ذكاء في حياته، ورأسه تعرضت للبلى بعد موته، أنه كما يعجب لهذا الذكاء يعجب؛

    لرأسِهِ العالي تناثرَ لبُّه ** ونَزا وصار نسيجُه لفَسَادِ

    وشوقي يسأل مَنْ يرثيه عن لحظة الموت، كيف وجدها، إنه لا يرهب الموت في ذاته، بقدر رهبته للحظة طلوع الروح، هي عنده لحظة عصيبة، لا شيء يضمن ألا تكون مصحوبة بألم شديد. إنه يخاف من الموتِ عذابَه. يقول لسليم تقلا: إنما الموت ظلمة تملأ العين، ووقر على الصدور ثقيل، وثوان أخف منها العوالي.

    هذه هي الثواني التي تزلزل شوقي، ويقول لرياض باشا:

    سَأَلتُكَ ما المَنِيَّةُ أَيُّ كَأسٍ ** وَكَيفَ مَذاقُها وَمَنِ السُقاةُ

    وَماذا يوجِسُ الإِنسانُ مِنها ** إِذا غَصَّت بِعَلقَمِها اللَهاةُ

    وَأَيُّ المَصرَعَينِ أَشَدُّ مَوتٌ ** عَلى عِلمٍ أَمِ المَوتُ الفَواتُ

    حقي يرى أن شوقي امتداد عصري لشاعر القبيلة في عصرها الذهبي، لا يُقام لها مأتم أو فرح إذا لم يحضره

    وَهَل تَقَعُ النُفوسُ عَلى أَمانٍ ** كَما وَقَعَت عَلى الحَرَمِ القَطاةُ

    ويقول لأبيه:

    يا أَبي وَالمَوتُ كَأسٌ مُرَّةٌ ** لا تَذوقُ النَفسُ مِنها مَرَّتَين

    كَيفَ كانَت ساعَةٌ قَضَّيتَها ** كُلُّ شَيءٍ قَبلَها أَو بَعدُ هَين

    أَشَرِبتَ المَوتَ فيها جُرعَةً ** أَم شَرِبتَ المَوتَ فيها جُرعَتَين

    لذلك كان التجلد للموت في نظر شوقي هو قمة البطولة، والمثل الأعلى عنده هو سقراط، تسحره صورته وهو يشرب السمَّ بيده، لا انتحارًا، بل طلبًا للموت الذي أُريد له بغير إرادته.

    وهناك صورة تلح على شوقي كثيرًا، تشبيهه الدنيا بالهرة التي تجود بالحياة على بنيها، ثم تأكلهم بفمٍ يتهلل بالسخرية.

    أما يحيى حقي محمد حقي (1905 – 1992) فهو كاتب وروائي مصري، من رواد القصة القصيرة، ولد في القاهرة لأسرة ذات جذور تركية. درس الحقوق وعمل بالمحاماة والسلك الدبلوماسي والعمل الصحفي. وهو يعد علامة بارزة في تاريخ الأدب والسينما ومن كبار الأدباء المصريين. نشر أربع مجموعات من القصص القصيرة، والعديد من المقالات، ومن أشهر أعماله روايته “قنديل أم هاشم”، وقصته “البوسطجي”.

    حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1969، تقديرًا لما بذله من دور ثقافي عام، ولكونه واحداً ممن أسهموا مساهمة واضحة في حركة الفكر والآداب والثقافة في مصر، بدءًا من الربع الأول من القرن العشرين. كما منحته الحكومة الفرنسية عام 1983 وسام “فارس” من الطبقة الأولى، ومنحته جامعة المنيا عام 1983 الدكتوراه الفخرية، اعترافا من الجامعة بريادته وقيمته الفنية الكبيرة. وكان واحدًا ممن حصلوا على جائزة الملك فيصل العالمية – فرع الأدب العربي، لكونه رائدًا من روَّاد القصة العربية الحديثة، عام 1990.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    أحمد فضل شبلول
    كاتب مصري
يعمل...
X