العمل الفني تصنعه سلطة التلقي وسطوة "عالم الفن"

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • العمل الفني تصنعه سلطة التلقي وسطوة "عالم الفن"

    العمل الفني تصنعه سلطة التلقي وسطوة "عالم الفن"


    المنجز الفني طمس للأثر وصحراء متحركة رمالها نحو المجهول.
    الأحد 2024/02/25
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    المتلقي يضع ذاته في العمل الفني

    ما من شك أن التلقي هو ما يصنع جزءا هاما من العمل الفني في تأويله وفهمه وتداوله، وكلها أمور خارج المبدع الأول للعمل الفني، لكنْ هناك ظروف أخرى إضافة إلى المتلقي تصنع مفاهيم العمل الفني وتحدد تداوله، لذا فكل أثر فني يتجاوز مبدعه ليكون ابن عصره ومحيطه ووليد فعل التأويل كما سنرى.

    يعد العمل الفني نتاج صاحبه، الذي يغترب عنه (بالقصد الدريدي)، وإن معانيه رهينة القصد الثلاثي: المؤلف والعمل والمتلقي. وبالتالي، فكل عملية تأويل هي عملية انتقال، واغتراب، بين هذه القصديات الثلاثة. تجوالا وترحالا، ذهابا وإيابا. مما يجعل كل معنى نحوزه هو عُرضة للاهتزاز والتوهان واللااستقرار.

    المعاني حمالة دلالات، وهي مشرعة على التجدد في غربتها، لهذا فهي لا تقيم في العالم الثابت ولا في اللغة والكلمات ولا في الأشياء والألوان والأشكال، فلا وجود لمركز مفترض. وبهذا التصور، تصير المعاني بنت الهوامش والسيرورة، ويصبح كل تأويل مثار تأجيل، وتعليق من خارج ذاكرة العمل، وإقامة في كل الأماكن، في الهنا والهناك، في الآن وما سيأتي وما كان. مما يلغي كل حقيقة ممكنة، ويمحو كل حدود الجغرافيات المانعة للحركة السلسة للمعاني. وذلك ما دام كل متلق يمتلك كامل الحق في التأويل، الذي يغدو “سوء فهم”، فالحقيقة المرجوة لم تعد كائنة في أي مكان. بل إنها غائبة وغير متحققة أو ممكنة.. إذ إن لعبة الاحتمالات والشك احتلت فضاءات اليقين والمحتَّم.
    المتلقي صانع الفن


    الإبداع العربي اليوم لا يكاد يهرب عن المحددات والتصانيف الغربية التي باتت مرجعا لا بد من العودة إليه والاستناد عليه

    يمكننا القول إن التأويل، من حيث هو عينه نتيجة للمعنى المتحرك، وليد السياقات المتعددة، التي لا تستند على قصد المؤلف فحسب، بل على العمل عينه وعلى المتلقي، الذي لا يمكنه أن يكوّن ويصيّر تأويله الخاص بعيدا عن الذاتية أولا، ذاته ورؤيته الخاصة للعالم وأشيائه، وثانيا عن المؤسسة التي ينتمي إليها، والتي تؤثر فيه. والمؤسسة هنا تأتي بكل أشكالها الاجتماعية والثقافية والجمالية التراثية واللاهوتية والدينية والاقتصادية والسياسية. فلا معزل لبناء المعاني عن هذه المؤسسات جمعيها. لا يوجد المتلقي، بوصفه ذاتا في العالم، معزولا عن هذا الأخير. إذ يحيا ويتفاعل في مجموعات، ويتأثر بما يؤثر فيها ويؤوّل العالم انطلاقا مما راكمها منها وفيها، ومما اكتسبه من رأي خاص ورؤية ذاتية للعالم.

    أما صاحب العمل الفني فابن زمنه وبيئته، لهذا فكل منجز، نصا كان أو أثرا بصريا أو غيرهما، هو نتاج عصره وتعبير عن صاحبه وذاته في ارتباطها بالعالم المتحرك، حيث يقيم ويتقاسمه معه المتلقي. هذا الأخير الذي دونه لا وجود للعمل، ولا تكتمل معانيه ولا يتحقق وجوده. ويظل حبيس خرائط اللارؤية واللاقراءة واللاوجود. لهذا سمي المتلقي صانعا للمنجز، مثلما تذهب مجموعة من التنظيرات الفنية المعاصرة، والتي ابتدأت بوادرها الأولى مع قولة مارسيل دوشان الشهيرة: “المشاهد صانع للعمل الفني”.

    غير أن السؤال الذي يطرح في هذا السياق، بأي معنى يصير المتلقي صانعا للأثر الفني؟ هل عبر عملية التفاعل والمشاركة في آليات وتفاصيل المنجز (الانخراط في إتمام العمل عبر سُبل مادية أو جسدية أو ذهنية)؟ أم عبر عمليات التلقي والتفاعل والتأويل؟ في الأولى يكون الفعل ماديا وتكميليا، وفي الثانية يشاطر المتلقي الناقد في قراءة مضامين ورموز وخبايا العمل. وهنا تُطرح أسئلة أخرى من قبيل، ما مدى دقّة وصحة هذه القراءات في تعدديتها بتعدد المتلقين (المشاهدين)؟ هل بالإمكان فعليا الحديث عن “الصحة والدقة” في “التأويل”، ما دام هذا الأخير نتاج ذات فردية.. وهل هذه الذات فعلا مستقلة عن باقي التأثيرات والتوجيهات التي تأتيها مما يسميه فلاسفة التحليل بـ”عالم الفن” (أمثال بيكر ودانتو وديكي…)؟

    ينبعث إذن، العمل الفني بوصفه أثرا، من دواخل “صاحبه الأول”، الذي تؤثر فيه البيئة والمورثات والعاديات والبراديغم السائد وذاته بتشظياتها وسيكولوجته وأمراضه وجسده وعقده الطفولية ومجتمعه، وحتى غذاءه ومشربه ومسكنه. أو لنقل المؤسسة بالتعبير السوسيولوجي الشامل، أو “عالم الفن” بالتعبير التحليلي المعاصر في سياق المتغير العالمي الحاصل عن التوسع الرأسمالي والعولماتي، واختلاق العالم الجديد حيث تغيب الحدود لصالح تمدد “السوق الحرّة”. ومنه حينما يتحقق للمؤلف إبداع عمل فني فهو يبدعه انطلاقا من علاقته واتصاله وارتباطه بهذه المحددات المؤسسة على نوع من التوجيه المسبق، الواعي أو غير الواعي، المباشر أو غير المباشر.

    لهذا لم يكن، على سبيل الذكر، جيروم بوش يبدع لوحاته انطلاقا من تفكير سوريالي، بل من منطلق تأويلي ديني. (ولو وصفنا اليوم لوحاته بأنها سريالية) وفي السياق عينه، لم يكن الشاعر العربي ابن العبر سيرياليا، بالمعنى المعروف الآن، بل كان ثائرا ومتمردا سائما من الشعر القائم في زمنه.
    التباس عالم الفن



    الإبداع ليس خلقا وإتيانا بالشيء من عدم بل هو جعل الشيء يندرج ضمن رؤية فنية قوامها البراديغم الذي تحيا فيه


    إننا نبدع انطلاقا من محددات العصر والتاريخ لا خارجها. إذ لم يكن لينتج فنانو القرن الـ19 منشآت فنية، ولم يكن فنانو القرن الـ17 لينتجوا فنا إقلاليا (مينيماليا). وما كان مارسيل دوشان أن يجعل المبولة (النافورة، 1914-17) عملا فنيا لولا أن الفلسفة النيتشوية الهدامة رسمت معالم الطريق للعصر الجديد. في وقت بلغ التصوير الصباغي أقاصيه الكبرى، ولم تعد الصباغة قادرة على تحقيق الرؤية للوجود.

    كان لا بد أن يستقطب الفنانون أشياء العالم الملموسة لصلب العمل، مثلما فعل بيكاسو، حينما اشتق من كرسي قصبي قطعة ألصقها على القماش. وما كان للسرياليين أن يتحقق لهم فنهم وشعرهم وأدبهم لولا تفاسير فرويد للحلم واكتشاف مناطق اللاوعي واللاشعور. كل ذلك ضمن سياق قفزات سياسية واقتصادية، سواء في بعديهما الجيد والسيئ. وقس على ذلك فن الفيديو وفن الفوتوغرافيا والسينما، لقد احتاجوا جميعا للآلة ليخرجوا للوجود، إنهم وليدو عصر الثورة الصناعية ومؤسساتها -البورجوازية- الجديدة، وبراديغمها المغاير تماما لما سبق. مما قاد أرثر دانتو إلى القول “إن رؤية شيء ما على أنه فن يتطلب شيئًا لا تستطيع العين إدراكه – جو من نظرية الفن، ومعرفة بتاريخ الفن: عالم فني”.

    وبالمقابل، أمكننا القول بأن الأفكار الجديدة بدورها، لا يمكن أن تكون سبّاقة رغم جدّتها، فالرواية التنبؤية تنطلق من عصرها ومعالم عصرها، لتتشوف المستقبل. تبني تصورها لما سيكون وما سيؤول إليه العالم انطلاقا مما هو كائن ومتاح. إذ أن الظروف هي التي تصنع المبدع والعمل الفني، وليست الظروف نتاجا لهما. فنحن نبدع داخل براديغم معين لا خارجه: الكلاسيكي الحديث أو المعاصر. داخل أنساق محددة وخاضعة لسلطة المؤسسات القائمة. مما يجعلنا نتفق مع جورج ديكي في منهجه المؤسسي تجاه الفن عندما يحدد أن “العمل الفني بالمعنى التصنيفي هو قطعة اصطناعية منحتها مجموعة من مضامينها (أجزائها) مكانة ما ونوعا من التقدير من قبل شخص واحد أو أكثر، أشخاص يتصرفون نيابة عن مؤسسة اجتماعية معينة (نُسميها عالم الفن)”.

    وفقًا لبيكر، فإن عالم الفن هو “شبكة تعاون يتعاون فيها الأشخاص أنفسهم بشكل منتظم، وبالتالي يربطون المشاركين وفقًا لنظام ثابت. وإنه عالم يتكون من نشاط كل هؤلاء الأشخاص الذين يتعاونون”. ومنه، يغدو الفن “نتاجا” لعملية جماعية. وليس مُحصلة لذات فردية، نسميها “المبدع/ الفنان” فحسب. كأن هذا الأخير مجرد ذريعة لإخراج العمل الفني إلى حيز الوجود وعاملا في “مَعْمَل” صناعة الفن. شأنه شأن متدخلين آخرين يضمنون حماية “افتراضات مسبقة واتفاقيات مشتركة تسمح لهم بتنسيق هذه الأنشطة بفعالية ودون صعوبة”، يقول بيكر.

    يحمل عالم الفن التباسا في تحديد جغرافيته وحدوده ومدى توسعه، لكنه يضم إلى جانب المبدعين، الفاعلين الأوائل فيه، دور العرض والباعة والوسطاء والإعلام، وحتى المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، ومكونات المجتمع والأعراف والتقاليد وغيرها من المحددات المتعددة والمتنوعة، حيث يلعب كل طرف دورا في الدعاية للمنجز الفني، والترويج لعمل دون الآخر، وتقييم أثر والتقليل من غيره. أو مثلما تخبرنا رايمون مولان، “تنشأ القيم الفنية في تمفصل الحقل الفني والسوق”.
    صحراء متحركة



    رؤية شيء ما على أنه فن يتطلب شيئًا لا تستطيع العين إدراكه


    لا يكاد يهرب الإبداع العربي اليوم عن المحددات والتصانيف الغربية، التي باتت مرجعا لابد من العودة إليه والاستناد عليه، بل إننا لا نكاد أيضاً نقيم نقدا حتى لتراثنا، إلا انطلاقا مما أنتجته المؤسسات النقدية الغربية. ولا نتصور الأدب والفن المعاصرين إلا انطلاقا من هذه المؤسسات، التي تبني عالما بلا خرائط وبلا حدود، عالما مُعوْلما بالكامل. مما يقودنا دائما ونحن في صدد الحديث عن المنجز المعاصر، إلى الكلام عن إسقاط الجدران والإطاحة بالأسوار، والقفز عاليا وإحداث قطائع مبرمة أو مصطنعة. وهي كلها مفاهيم وليدة المؤسسة الغربية، وعالم الفن الغربي، والبراديغم الناتج عن آلياتها وتقنياتها وأفكارها، التي نبعث بشكل خاص منذ انعطافة الحرب العالمية الثانية، كنوع من التصالح مع الشتات اليهودي، وصحو الضمير الغربي، والتوسع الإمبريالي الجديد، دون حاجة إلى الغزو والاستعمار البدني.

    غير أن الأمر لا يمنعنا من الإقرار بأن معاني العالم اليوم لا يمكنها أن تتحقق إلا انطلاقا من هذه المؤسسات الفكرية النقدية والاقتصادية والسياسية الغربية، التي أنتجت براديغما معاصرا يغطي على كل أشكال التفكير والتخييل المحلي، مما يجعل من الاستحالة إنتاج تصور للعالم بالابتعاد عنه. فالمعاني تصورات وأفكار تتحقق في العمل الفني وقد تتجاوز الواقع بحجم الخلفية الفنية والتجربة الذاتية. التي تحاول التمرد على عالم الفن القائم، والمؤسسات الفاعلة فيه. لكن هل يدوم طويلا هذا التمرد؟

    معاني العالم اليوم لا يمكنها أن تتحقق إلا انطلاقا من هذه المؤسسات الفكرية النقدية والاقتصادية والسياسية الغربية

    حاولت تجارب الفن المعاصر في فترات النشوء أن تثور على “السياق” الفني القائم، وقد تحقق لها ذلك، إلا أنها سرعان ما امتصتها المؤسسات الرأسمالية والعولماتية الجديدة، التي رسمت معالم العالم الجديد، عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحدد براديغم “عالمه الفني”. وهو ما حدا بنتالي إينيك إلى توصيف الفن المعاصر على أنه “ثورة فنية”. ومع ذلك، وبنفس الحماس الذي يعترضون به على التعريف العام، فإن تلاميذ فيتغنشتاين (ديكي، بيكر، دانتو، وحتى غودمان) يقدمون بالإجماع حجة الثورة الفنية التي، كما يكتب جاك بوفيريس، “تستلزم دائما تغييرا مهما في معنى مصطلح العمل الفني”؛ ويضيف “على سبيل المثال، في لحظة معينة، تتوقف الميزة التصويرية عن الانتماء إلى جوهر العمل التصويري، والنغمة إلى جوهر العمل الموسيقي، وما إلى ذلك”.

    تتولد عن ذلك ضرورة الارتحال صوب مستوى جديد من المحددات الفكرية التي بمقدورها استيعاب وتفسير وفهم العالم الجديد، الذي ينتج عنه “عالم فني” يتساوق مع متطلباته ومتغيراته، التي تفرضها المؤسسات البديلة. مثلما حدث سابقا من الانتقال من هيمنة النبلاء إلى سطوة الطبقة البرجوازية الجديدة، ومن ثم الانزياح صوب المؤسسات الرأسمالية في عصرنا هذا، وذلك بفعل ما يسميه البعض بالطفرات أو القفزات، التي تفرضها صيرورة التاريخ.

    يدفعنا هذا إلى القول بأن الإبداع إذن، ليس خلقا بمعنى الإتيان بالشيء من عدم، بل إنه جعل الشيء يندرج ضمن رؤية فنية قوامها البراديغم الذي تحيا فيه. فنحن لا نبدع إلا ما يراد لنا أن نبدعه وفق اشتراطات ملتبسة، وبقدر ما إننا لا نرى إلا ما يراد لنا أن نراه، ولا نؤول إلا انطلاقا مما أتيح لنا أن نؤوّل به. لهذا فالإبداع المتجدد، (كل العمل الفني المتجدد)، اغتراب وتباين مرجأ واستحالة ولا تحقق، ما دمنا نعيش في عالم متحرر باستمرار معرض للقفزات والثورات والتطور المسند إلى الطفرات. من هنا يتجسد القول بأن المنجز الفني طمس للأثر وصحراء متحركة رمالها نحو المجهول، وإقامة في المفتوح والمضاعف واللامنتهي. لأنه وليد عملية نائية معقدة تتدخل فيها جغرافيات لامتناهية من هيئات معنوية ومادية وشخوص يصيرون شركاء بالمعنى المعاصر.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    عزالدين بوركة
    شاعر وباحث مغربي
يعمل...
X