مفاهيم غير تقليدية تنبعث من ذكريات خالد البوشي اللاشعورية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مفاهيم غير تقليدية تنبعث من ذكريات خالد البوشي اللاشعورية

    مفاهيم غير تقليدية تنبعث من ذكريات خالد البوشي اللاشعورية


    رؤية فنية متعددة الاختيارات تناهض إغلاق مخيلة المتلقي.
    الجمعة 2024/02/23
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    ريشة مستغرقة في السواد

    يسافر الفنان التشكيلي خالد البوشي في ذاكرته اللاشعورية، مطوعا اللون الأسود ليكون صوت حكاياته المؤلمة وعواطفه وعواطف المتلقي المرتبطة بحضارات مختلفة، متأثرا برهافة الفكر الصوفي وحكمته في النظر إلى الأشياء وتقييمها وإعادة تشكيلها.

    إذا كانت الموسيقى ترمز إلى شكل العاطفة الإنسانية وتصوغ الحياة الانفعالية للإنسان وتعبر عنه حسب تعبير سوزان لانجر (1895 – 1985)، فإن الفن التشكيلي لا يقل عن الموسيقى في فعل ذلك، بل يضاف إلى ذلك أنه الأكثر تعبيرا عن الذات.

    أسوق هذا القول وأنا بصدد قراءة أعمال الفنان التشكيلي السوري خالد البوشي (1985 – حماة)، الأعمال التي لا تهدف إلى التوصيل والتخاطب مع المتلقي فحسب بل إلى التقاط ما يمكن إدراكه حدسيا، بل أيضا العمل الفني عنده تعبير عن هذه المشاعر، فهو يتعامل مع مفاهيمها من منطق علاقاتها مع جوهرها وكيفيتها بوصفها تفاعلات تتم داخل كل مستوى من مستويات بنية العمل الفني.

    عمل هذا الفنان مشحون بالطاقة والحركة، غير ساكن وغير مستقر، ويخلق الكثير من السجال، سواء كان ذلك في عالمه الداخلي بشظاياه المتناثرة ومحاولته ترميمه كنوع من استيقاظ الذاكرة وانبعاث الذكريات اللاشعورية المرتبطة بثقافات مختلفة، أو في شكله الجمالي ومصدره المتسم بالمرونة كنوع من الامتلاك لحركات تثير تحولاته وما تمثله من أحكام جمالية عميقة ومناسبة.


    خالد البوشي يركز انتباهه على مفاهيم غير تقليدية، مفاهيم من شأنها أن تساعده في السيطرة على تصنيفاته نفسها


    التوقف عند البوشي، أقصد عند عمله، يبدأ من اللحظة التي يكشف فيها عن نفسه، وبلغة الذات وحضورها، ولا نغفل عما تحمله من مجازات كل منها يحمل قراءة مختلفة، فعالمه كائن قابل لأكثر من قراءة دون أي شجب لمفرداته، بل وكأنه برك مزروعة بالحلم المستغرق في سباته، وحدها أصداؤه تدركنا بمحاورات توحي بإنسانيتنا التي يلفها الكثير من السقوط في دالها ومدلولها، والتي بات الماء يهجرها بحكمة الآلهة، فتلك البرك يجب أن تجف ليموت الحلم عطشا.

    خالد البوشي يركز انتباهه على مفاهيم غير تقليدية، مفاهيم تساعده في السيطرة على تصنيفاته نفسها، لا بوصفها مصادفات مفتاحية للإعلان عن “سفر تكوينها” بل بوصفها سلسلة من الإشارات تأخذ على عاتقها وميض كل أثر لتوالدها، ويولي الأهمية في حقله للكشف عن شكل منطوق لا يمكن إسكاته، ولا يمكن التنبؤ برباطة جأشه، فالانشطار قائم لا محالة، والانفصال عن السياق العام كامن منذ الإشكالية الأولية، منذ بلورة العمل تخيليا ثم سرده في نص/منتج السيرورة فيه تخمين عائم في مسار يصعب الدخول إليه دون ترددات قد تطفل على فضاءاته مهما أدخل السجال فيها.

    هو فنان يقدم مفهوما بريئا كأداة داخلية تحاكي تأملاته دون أي استبعاد لرؤيته أو ما يغلفها، فهو يوزع حلوله التنفيذية بما يتناسب مع الفراغ في تشكيلاته، وبما ينظم علاقات الأبيض بالأسود وإن كان المتدفق منهما رمادا مسافرا في تفصيلات اللحظة، أو ضبابا منفعلا يبرز خبايا الريح، أو دخانا محتدما بمرارة المشهد، بما يوحي بأشكال تغطي بؤر النص/المنتج وتمنحه ملامح شديدة الغموض تشتمل على الإدانة ومشتقاتها لكل التصادمات بترساناتها المشتعلة بالغضب والفوضى، والمتصدعة بالحضور بكل زهوه ونهوضه.

    حين يبالغ البوشي في السواد تكون الحكاية داكنة وأشياؤها مطعونة بالدموع، أو بأمكنة تسمح بالجدل العقيم مع الكتل الخرساء التي تترك إيقاعها داخل تلك الأشياء بزخمها وبما ترسمه داخل ذاتها، فكيف لا تسقط من انتماءاتها الحافلة أقدارها المشؤومة، وكيف لا تخرج من دوائرها المريرة ومن حواجزها التي تمتطي خطوط المغامرة أسرارها المشبعة بلهفة الغياب، وأصواتها السجينة بقلق المقدمات وحكمة النهايات.


    يشرع خالد البوشي بكل جرأة في تتبع أثر المجادلات بين المكونات الفاعلة في صيغه الساعية إلى التميز، والمستغرقة في تقطيعات ضمنية تحمل من الذرائع ما يخفف من وطأة الرتابة عليه، ومن مستلزمات المجاورة.

    هو لا يهمل الجانب الجمالي ولا يعارض مقاييسه الداخلية والخارجية، موضحا أن المسألة هنا هي الوصول إلى حقول فيها من التناغم بقدر ما فيها من الاختلاف، فيها من التفخيم وكأنها تروي تلاوة بقدر ما فيها من الترقيق وكأنها رهافات صوفية، وتحريكها في دوائر زمكانية يجعلها في حالة نهوض حتى تغدو مفجرات إبداعية مفتوحة على مشاهد لافتة في مدرجات السواد واستخداماتها من ولادة قيمها الجمالية إلى ولادة قيمها التعبيرية، تجعلها في حركة صعود بدءا من المرتبط بعمليات البحث القابع في الحقب المركزية لألحان مساراته، والمرتهن لحداثة خاصة، إلى التعريض الضمني لكل مفصل من مفاصل منتجه.

    وبأمانة نمطية يفصل البوشي جوانب طاقته في صورها المتحورة ويمنحها رؤية مناهضة لإغلاق مخيلة المتلقي، مكثفة تذهب به إلى جعل خياراته مفتوحة قد تأخذه إلى فضاءات أخرى مستخدما كل وسائطه لضرورات بحثية تحسب له، فيعطي كل وقته لتجليات المشهد وما ستنشده من سرد بصري يشكل بمجمله مؤشراته الملموسة التي لن يغيب عنها الاهتمام والانتباه ولفت النظر لمدة طويلة.

    ومن الجدير بالذكر أن الفنان التشكيلي خالد البوشي خريج قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة بدمشق ويعمل على موضوع المقامات الصوفية حيث تطرق سابقا في مشروع تخرجه الذي قدمه عام 2009 إلى التجارب التي تتناول الصوفية في التشكيل الفني، متجها إلى التجريد لكونه بحرا تشكيليا واسعا وغنيا بخياراته الفنية.


    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    غريب ملا زلال
    كاتب سوري
يعمل...
X