إنّي أتوسّل: لا تدخلوا رفح
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربيّة لمقال الصحفيّ، چِدْعون ليڤي، المنشور في الجريدة الإسرائيلية العبريّة اليوميّة هآرتس في الحادي عشر من شباط 2024.
لم يبقَ إلّا أن نطلب، أن نتوسّل، أن نصرُخ: لا تدخلوا رفح. إن اجتياح إسرائيل لرفح سيكون بمثابة هجوم على أكبر مخيّم للمهجّرين/للمقتلعين/للنازحين في العالم. هذا سيجرّ الجيش الإسرائيليّ إلى ارتكاب جرائم حرب خطيرة لم يرتكبها هو بعد. من المستحيل اجتياح رفح الآن دون ارتكاب جرائم حرب. وإذا اجتاح الجيش الإسرائيليّ مدينة رفح فستتحوّل إلى مسلخ.
يوجد في رفح الآن حوالي مليون وربع نازح، يختبئون تحت أكياس بلاستيكيّة أصبحت خِياما. الإدارة الأمريكيّة في واشنطن، التي يُفترض أن تكون حارسةَ القانون والضمير الإسرائيليّ، تشترط أن تكون لاجتياح رفح خُطّة إجلاء/إخلاء. لا توجد خُطّة كهذه ولن تكون، حتّى ولوِ اخترعت إسرائيل شيئًا ما. من المستحيل نقل مليون من بني البشر لا شيء لديهم ـ كان الكثيرون قد نزح/هُجِّر مرّتين أو ثلاثًا ـ من مكان ”آمن“ إلى مكان آخرَ سُرعان ما يتحوّل دائماً إلى ميادين قتل. ومن المستحيل نقل ملايين من البشر، كما لو كانوا عُجولاً حيّة مخصّصة للشحن. حتّى العُجول لا يمكن نقلُها بهذه القسوة. كما أنّه ليس هناك مكان آخر لإجلاء الملايين من االآدميّين. في غزّة المدمّرة، لا مكانَ للفِرار إليه ولا مكان للإخلاء. إذا تمّ إجلاء لاجئي رفح إلى مواسي، كما يقترح الجيش الإسرائيليّ في خُطّته الإنسانيّة، فإن مواسي سيتحوّل إلى موقع كارثة إنسانيّة، لم نشهد مثله بعد في غزّة.
أفاد يَردين ميخائيلي وآفي شرف أنّ في كلَّ قِطاع غزّة مليونان وثلاثمائة ألف نسمة، ويجب تجميعهم في ستّةَ عشرَ كيلومترًا مربّعًا، كمِساحة مطار بن غوريون (لا مكانَ للعودة، هآرتس، الثاني من شُباط 2024). تخيّلوا كلَّ غزّة في مطار بن غوريون. لقد حسبت أميره هِس أنّه إذا تمّ إجلاء مليون شخص ”فقط“ إلى مواسي، فإن الكثافة هناك ستكون 62,500 شخص في الكيلومتر المربّع (هآرتس، التاسع من شُباط 2024). دعونا نذكِّر أن في مواسي لا يوجد شيء. لا بُنية تحتيّة، لا ماء، لا كهرباء، لا بيوت، فقط الرمل ثمّ الرمل الذي سمتصّ الدماء والأوبئة والمجاري. إنّ مجرّدَ التفكير في ذلك ليس أمرًا مروّعًا للدم/مُجمِّدًا للدم فحسب، بل يدلّ إلى أيّة درجة من التجريد من الإنسانيّة وصلت إليها إسرائيل في خُططها.
ستُراق الدماء في مواسي كما هُرقت في الأيّام الأخيرة في رفح، التي كانت حتّى الآن آخرَ ملجأ اقترحته إسرائيل. سيعثر الشاباك (خدمة الأمن العام) بالفعل على شرطيّ في دوريّة تابع لحماس، وسيكون لِزامًا القضاء عليه بإلفاء قنبلة تزِن طنًّا على معسكر النايلون الجديد. وسيكون هناك عشرون من عابري السبيل/المارّة، معظمهم من الأطفال وسيُقتلون، قتل.حماس. وسيقصّ علينا المراسلون العسكريّون بعيون بارقة أيّ عمل ممتاز يقوم به جيش الدفاع الإسرائيليّ بتصفية العمود الفقريّ لقيادة حماس من الصفّ الأوّل. إنّ النصر المطلقَ قادمٌ، في الطريق، وسوف ”تُقَلْعَط“ إسرائيل مرّة أخرى.
ولكن حتّى من خلال هذا ”التقَلْعُط“، يجب أن يستيقظ الرأي العامّ ومعه الإدارة في الولايات المتّحدة. هذه حالة طوارئ لم يكن لها نظير من قبل في هذه الحرب. على الأميركيّين أن يمنعوا اجتياح رفح بالأفعال، وليس بالأقوال. همُ الوحيدون القادرون على إيقاف إسرائيل. على الجناح/الجانب الضميريّ للرأي العامّ الإسرائيليّ أن يجد لنفسه مصادرَ أخرى للمعلومات غير قنوات الكعك الخاصة بالجنود المسمّاة عندنا قنوات الأخبار. اُنظروا صُور رفح على أيّة شبكة في العالم - في إسرائيل لن تروْا شيئًا - وستفهمون سببَ استحالةِ إجلائها، تخيّلوا مواسي بمليوني نازح، وافهموا/وذوِّتوا نحو أيّة جرائم حرب يهرولون هنا.
عُثر البارحةَ على جُثّة الطفلة، هند حمادة، ابنة الستّة أعوام، التي اشتهرت في جميع أرجاء العالم، بعد لحظات الرعب التي عاشتها مع عائلتها قُبالةَ دبّابة إسرائيلية يوم التاسع والعشرين من شهر كانون ثانٍ الفائت. قد تمَّ تسجيلُ ذلك في مكالمة هاتفيّة مع الهلال الأحمر، حتى هدأت صرخات الرعب التي أطلقتها عمّتها/خالتها. قُتل سبعة أفراد من العائلة، ولم يتمّ إنقاذ سوى هند الصغيرة، ومنذ ذلك الحين والغموض يكتنف مصيرَها.
أمسِ عُثِر على هند ميّتة في سيّارة عمّتها/خالتها المحروقة في محطّة بنزين بخانيونس. كانت جريحةً، ملتفّة بجثث أفراد أُسرتها السبع، ولم تتمكّن من الخروج من السيّارة. لقد نزفت حتّى الموت. اِستجابت هند وعائلتُها لنداء إسرائيل ”الإنساني“ بالإخلاء. من يريد بعد الآلاف من أمثال هند فليجتح مدينة رفح ويُجلي إلى مواسي!
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربيّة لمقال الصحفيّ، چِدْعون ليڤي، المنشور في الجريدة الإسرائيلية العبريّة اليوميّة هآرتس في الحادي عشر من شباط 2024.
لم يبقَ إلّا أن نطلب، أن نتوسّل، أن نصرُخ: لا تدخلوا رفح. إن اجتياح إسرائيل لرفح سيكون بمثابة هجوم على أكبر مخيّم للمهجّرين/للمقتلعين/للنازحين في العالم. هذا سيجرّ الجيش الإسرائيليّ إلى ارتكاب جرائم حرب خطيرة لم يرتكبها هو بعد. من المستحيل اجتياح رفح الآن دون ارتكاب جرائم حرب. وإذا اجتاح الجيش الإسرائيليّ مدينة رفح فستتحوّل إلى مسلخ.
يوجد في رفح الآن حوالي مليون وربع نازح، يختبئون تحت أكياس بلاستيكيّة أصبحت خِياما. الإدارة الأمريكيّة في واشنطن، التي يُفترض أن تكون حارسةَ القانون والضمير الإسرائيليّ، تشترط أن تكون لاجتياح رفح خُطّة إجلاء/إخلاء. لا توجد خُطّة كهذه ولن تكون، حتّى ولوِ اخترعت إسرائيل شيئًا ما. من المستحيل نقل مليون من بني البشر لا شيء لديهم ـ كان الكثيرون قد نزح/هُجِّر مرّتين أو ثلاثًا ـ من مكان ”آمن“ إلى مكان آخرَ سُرعان ما يتحوّل دائماً إلى ميادين قتل. ومن المستحيل نقل ملايين من البشر، كما لو كانوا عُجولاً حيّة مخصّصة للشحن. حتّى العُجول لا يمكن نقلُها بهذه القسوة. كما أنّه ليس هناك مكان آخر لإجلاء الملايين من االآدميّين. في غزّة المدمّرة، لا مكانَ للفِرار إليه ولا مكان للإخلاء. إذا تمّ إجلاء لاجئي رفح إلى مواسي، كما يقترح الجيش الإسرائيليّ في خُطّته الإنسانيّة، فإن مواسي سيتحوّل إلى موقع كارثة إنسانيّة، لم نشهد مثله بعد في غزّة.
أفاد يَردين ميخائيلي وآفي شرف أنّ في كلَّ قِطاع غزّة مليونان وثلاثمائة ألف نسمة، ويجب تجميعهم في ستّةَ عشرَ كيلومترًا مربّعًا، كمِساحة مطار بن غوريون (لا مكانَ للعودة، هآرتس، الثاني من شُباط 2024). تخيّلوا كلَّ غزّة في مطار بن غوريون. لقد حسبت أميره هِس أنّه إذا تمّ إجلاء مليون شخص ”فقط“ إلى مواسي، فإن الكثافة هناك ستكون 62,500 شخص في الكيلومتر المربّع (هآرتس، التاسع من شُباط 2024). دعونا نذكِّر أن في مواسي لا يوجد شيء. لا بُنية تحتيّة، لا ماء، لا كهرباء، لا بيوت، فقط الرمل ثمّ الرمل الذي سمتصّ الدماء والأوبئة والمجاري. إنّ مجرّدَ التفكير في ذلك ليس أمرًا مروّعًا للدم/مُجمِّدًا للدم فحسب، بل يدلّ إلى أيّة درجة من التجريد من الإنسانيّة وصلت إليها إسرائيل في خُططها.
ستُراق الدماء في مواسي كما هُرقت في الأيّام الأخيرة في رفح، التي كانت حتّى الآن آخرَ ملجأ اقترحته إسرائيل. سيعثر الشاباك (خدمة الأمن العام) بالفعل على شرطيّ في دوريّة تابع لحماس، وسيكون لِزامًا القضاء عليه بإلفاء قنبلة تزِن طنًّا على معسكر النايلون الجديد. وسيكون هناك عشرون من عابري السبيل/المارّة، معظمهم من الأطفال وسيُقتلون، قتل.حماس. وسيقصّ علينا المراسلون العسكريّون بعيون بارقة أيّ عمل ممتاز يقوم به جيش الدفاع الإسرائيليّ بتصفية العمود الفقريّ لقيادة حماس من الصفّ الأوّل. إنّ النصر المطلقَ قادمٌ، في الطريق، وسوف ”تُقَلْعَط“ إسرائيل مرّة أخرى.
ولكن حتّى من خلال هذا ”التقَلْعُط“، يجب أن يستيقظ الرأي العامّ ومعه الإدارة في الولايات المتّحدة. هذه حالة طوارئ لم يكن لها نظير من قبل في هذه الحرب. على الأميركيّين أن يمنعوا اجتياح رفح بالأفعال، وليس بالأقوال. همُ الوحيدون القادرون على إيقاف إسرائيل. على الجناح/الجانب الضميريّ للرأي العامّ الإسرائيليّ أن يجد لنفسه مصادرَ أخرى للمعلومات غير قنوات الكعك الخاصة بالجنود المسمّاة عندنا قنوات الأخبار. اُنظروا صُور رفح على أيّة شبكة في العالم - في إسرائيل لن تروْا شيئًا - وستفهمون سببَ استحالةِ إجلائها، تخيّلوا مواسي بمليوني نازح، وافهموا/وذوِّتوا نحو أيّة جرائم حرب يهرولون هنا.
عُثر البارحةَ على جُثّة الطفلة، هند حمادة، ابنة الستّة أعوام، التي اشتهرت في جميع أرجاء العالم، بعد لحظات الرعب التي عاشتها مع عائلتها قُبالةَ دبّابة إسرائيلية يوم التاسع والعشرين من شهر كانون ثانٍ الفائت. قد تمَّ تسجيلُ ذلك في مكالمة هاتفيّة مع الهلال الأحمر، حتى هدأت صرخات الرعب التي أطلقتها عمّتها/خالتها. قُتل سبعة أفراد من العائلة، ولم يتمّ إنقاذ سوى هند الصغيرة، ومنذ ذلك الحين والغموض يكتنف مصيرَها.
أمسِ عُثِر على هند ميّتة في سيّارة عمّتها/خالتها المحروقة في محطّة بنزين بخانيونس. كانت جريحةً، ملتفّة بجثث أفراد أُسرتها السبع، ولم تتمكّن من الخروج من السيّارة. لقد نزفت حتّى الموت. اِستجابت هند وعائلتُها لنداء إسرائيل ”الإنساني“ بالإخلاء. من يريد بعد الآلاف من أمثال هند فليجتح مدينة رفح ويُجلي إلى مواسي!