غرور الإنسان يأبى أن يُقِر
للحيوان بذكاء ...
⏺حتى الأميبة " لم تَخْل من إدراك
⏺حتى السَمَك لَهُ مُحْ ونخاع ... !
كانت الساعة السابعة صباحا .
وكنت في سبيلي الى الخروج الى العمل . وعند باب الحديقة توقفت . ذلك اني لمحت شيئا يستحق الوقوف عنده . خرق في أرض الحديقة يحفره عدد من النمل لم أدر كم هو . رأيت من النمل عشرا ، والباقي خفي في الخرق ، في بطن الأرض . لم يكن هذا الخرق هنا بالأمس ، ولم يكن نمل ، فاني كنت أتعهد الحديقة في نفس هذا المكان عشية .
- في النمل فهم وتقدير وتدبير
والذي أخرجه النمل من الأرض حبات من رمل ، جعلها كومة ، بل كومات عدة ، حول باب الخرق و نظرت هذه الحبات فراعتني نظافتها . ونظرت الى الكومات كيف تساوت بالتقريب حجما ، وكيف توزعت على ظهر الأرض حول الخرق بالسوية ، فراعني استواؤها وانتظامها .
ونظرت الى النمل فرادى . هذه نملة تخرج من الخرق ، وفي فمها حبة رمل لاشك هي أثقل منها ، ثم هي تلقيها فوق الأرض ، وتعود لتجمع غيرها . وهذه أخرى ، ثم أخرى ، تفعل نفس الشيء . وتضع احداها حبتها على كومة لم تكتمل . وصبرت حتى اكتملت هذه الكومة ، وفق ظني ، بقرب مساواتها أخواتها حجما أنها حيثما اتجهت واجهتها كومة كبيرة . وتأبى أن تزيد الكبيرة كبرا . فهل يا ترى خشيت أن تنهار تلك الكومة الكبيرة فتسد على النمل باب الخرق ؟ لا أدري ! ولكن الذي أدريه أن النملة دارت بحبتها فلم تحط بها الا على واذا بي أجد النمل يتجاوزها ليحط بحبات الرمل في الأرض البسيطة الخالية من ورائها . ونملة حملت حبة ، ودارت بها تبحث لها عن مكان تلقيها فيه . ويشاء حظها أرض بسيطة خلاء .
- متى استيقظ النمل ليحفر ؟
وعمل النمل في حفر منزله هذا ، منزل الشتاء ، في
صمت عجيب ، وفي مثابرة أعجب .
واخرجت ساعتي أعد كم يستخرج النمل من حبات الرمل الدقيقة . وقدرت بالتقريب كم حبة . أخرج الى ظهر الأرض ، واذن فكم دقيقة كان قد عمل وأخرج بالحساب على أنه لابد قضى ما بين الساعة والساعتين في عمله . فهل يا ترى كان قد بدأ العمل مع شعاعات الصباح الأولى ؟
وبدأه والبرد قارس . فقد كان الشتاء آذنت تباشيره بقدومه ..
- لكل بيت مهندس
ووددت لو أن لي بصراً أنفذ به في الأرض ، فأرى ما يجريه النمل ، وما يجري بين النمل ، في بطنها ، كيف هو يحفر . وحفر كهذا لابد فيه من تعاون ، فوددت لو عرفت كيف يكون بين النمل تعاون . والبيت فوق الأرض لابد له من هندسة كذلك البيت الذي هو في بطن الأرض . وخطر لي أنه لابد مع التعاون ، أن يكون بين النمل من يهندس ، يقدر طول النفق الى البيت ، ويقدر عرضه ، حتى يتسع للنمل ، ويتسع لما قد يحمل من قوت . والبيت نفسه كم يضيق ، وكم يصغر .
- ما أشبه النمل بالرجال !
وذكرت بالرمل رجالا تحفر تحت الأرض نفقا .
كل رجل يحمل قفة . ويدخل الى بطن الأرض يملؤها ترابا ، ثم يخرج . وحول باب النفق يكوم التراب تكويما . ويعود من حيث أتى ليحمل ترابا جديدا . والرجال تعمل على الصمت في صف داخل و آخر خارج .
فقلت ما أشبه النمل بالرجال ! بل ما أشبه الرجال بالنمل ! لأني لم أدر أيهما الأصيل وأيهما المقلد .
- النمل ، كالرجال ، يعمل لغده .
وذكرت الهدف .
فقلت هؤلاء الرجال العاملون يعملون لغاية ، هي صناعة نفق . وقلت وهذا النمل لاشك يعمل لغاية ، هي بناء بيت كالنفق .
والرجال يعملون في يومهم لغدهم .
والنمل يعمل في يومه لغده .
- بين الغريزة والذكاء
وذكرت هذا لصاحب . قال : ان النمل يعمل بالغريزة . وأما الرجال فيعملون بالذكاء والفطنة والعقل .
وسألته : وما الغريزة ؟
قال : فطنة غير واعية .
وسألته : وما الذكاء ؟
قال : فطنة واعية .
قلت : فالنملة اذن تدخل الخرق ، وتحمل حبة
الرمل ، ثم هي تخرج تبحث لها عن مكان بعيدا عن باب الخرق فلا يزحمه ، ثم هي تعود وتعود . ثم هي تعمل عندما يعمل النمل ، وتكف عندما يكف ، وكل هذا عن غير وعي ؟!
قال صاحبي : بل هو وعي ضئيل ما يكاد يذكر وعدت الى نفسي أؤكد معنى الذكاء ، ومعنى الوعي، اللذين تقسما على الخلائق من الأحياء جميعا ، اقساما متشابهة النوع - فهي ذكاء ما وهي وعي ما ـ ولكنها مختلفة المقدار .
- غرور الانسان
وعدت الى نفسي أؤكد غرور الانسان ، ذلك
الانسان الذي يأبى ، للذي به من ذكاء كثيرا ما ينقلب غباء ، والذي به من وعي كثيرا ما ينقلب غفلة ، يأبى أن يقر لسائر الأحياء بذكاء .
واستعان الانسان باللغة ، امعانا في غروره ، فسمى
ما بالحيوان غريزة ، وسمى ما بالانسان ذكاء . وهذه حيلة في الناس قديمة ، اذا أرادوا أن يؤكدوا اختلافا بين معنيين طال فيهما الجدل ، سموا أحدهما باسم ، وسموا الآخر بغيره . ويأتي الجيل من بعد الجيل، فيتعلم اللغة ، فتعلمه اللغة غصبا أن شيئا في الحقيقة واحدا هو شيئان وينشأ على هذا ، وهو الواعي ، في غفلة عما صنعت اللغة به ، وما ختمت على فكره .
( كيف ) و ( كم )
ان النمل به ذكاء ذكاء لاشك في هذا .... وبه وعي
لا شك في هذا .
والرجال بهم ذكاء ، وبهم وعي ، ولا حاجة لتوكيد هذا .
( تعلم هذا الكلب الا يدخل الا من باب ، وأن يدق الجرس )
وشتان ما بين الذكاءين . وشتان ما بين الوعيين . ولكن ( شتان ) هذه لا تفيد اختلاف نوع . انها تفيد اختلاف كم لا اختلاف كيف .
ولكن المقدار كثيرا ما يتفاوت في الأشياء تفاوتا كبيرا هائلا فيخدع الانسان فلا يستطيع أن يرى مع التفاوت الهائل في المقدار - ان النوع واحد !
وهذا ملخص قضية النملة والرجل من حيث الذكاء
والفطنة .
وأنت قد تنزل عن النمل ، في سلم الأحياء ، الى ما هو أدنى . فلا تعدم أن تلمح ذكاء .. حتى المكروب له ذكاء ، بمقدار ما . فهو يعمل ، وهو يأكل ، وهو يتوالد بالتكاثر . وعند الفزع يدفع عن نفسه . وكثيرا ما يحس بالهزيمة فما أسرع ما يتراجع ، فيتحصن ، أو هو يستعد لواقعة أخرى .
( حتى الخيل تقبل التعلم )
( فيلة ، في سرك ، في أدوار لا يحسنها الا الانسان )
وأنت قد تصعد عن النمل ، في سلم الأحياء ، الى ما هو أعلى . فتجد الذكاء أكثر ، والوعي أبين حتى اذا بلغت الى الانسان قلت هنا غاية الذكاء ، وهنا غاية الوعي !
للحيوان بذكاء ...
⏺حتى الأميبة " لم تَخْل من إدراك
⏺حتى السَمَك لَهُ مُحْ ونخاع ... !
كانت الساعة السابعة صباحا .
وكنت في سبيلي الى الخروج الى العمل . وعند باب الحديقة توقفت . ذلك اني لمحت شيئا يستحق الوقوف عنده . خرق في أرض الحديقة يحفره عدد من النمل لم أدر كم هو . رأيت من النمل عشرا ، والباقي خفي في الخرق ، في بطن الأرض . لم يكن هذا الخرق هنا بالأمس ، ولم يكن نمل ، فاني كنت أتعهد الحديقة في نفس هذا المكان عشية .
- في النمل فهم وتقدير وتدبير
والذي أخرجه النمل من الأرض حبات من رمل ، جعلها كومة ، بل كومات عدة ، حول باب الخرق و نظرت هذه الحبات فراعتني نظافتها . ونظرت الى الكومات كيف تساوت بالتقريب حجما ، وكيف توزعت على ظهر الأرض حول الخرق بالسوية ، فراعني استواؤها وانتظامها .
ونظرت الى النمل فرادى . هذه نملة تخرج من الخرق ، وفي فمها حبة رمل لاشك هي أثقل منها ، ثم هي تلقيها فوق الأرض ، وتعود لتجمع غيرها . وهذه أخرى ، ثم أخرى ، تفعل نفس الشيء . وتضع احداها حبتها على كومة لم تكتمل . وصبرت حتى اكتملت هذه الكومة ، وفق ظني ، بقرب مساواتها أخواتها حجما أنها حيثما اتجهت واجهتها كومة كبيرة . وتأبى أن تزيد الكبيرة كبرا . فهل يا ترى خشيت أن تنهار تلك الكومة الكبيرة فتسد على النمل باب الخرق ؟ لا أدري ! ولكن الذي أدريه أن النملة دارت بحبتها فلم تحط بها الا على واذا بي أجد النمل يتجاوزها ليحط بحبات الرمل في الأرض البسيطة الخالية من ورائها . ونملة حملت حبة ، ودارت بها تبحث لها عن مكان تلقيها فيه . ويشاء حظها أرض بسيطة خلاء .
- متى استيقظ النمل ليحفر ؟
وعمل النمل في حفر منزله هذا ، منزل الشتاء ، في
صمت عجيب ، وفي مثابرة أعجب .
واخرجت ساعتي أعد كم يستخرج النمل من حبات الرمل الدقيقة . وقدرت بالتقريب كم حبة . أخرج الى ظهر الأرض ، واذن فكم دقيقة كان قد عمل وأخرج بالحساب على أنه لابد قضى ما بين الساعة والساعتين في عمله . فهل يا ترى كان قد بدأ العمل مع شعاعات الصباح الأولى ؟
وبدأه والبرد قارس . فقد كان الشتاء آذنت تباشيره بقدومه ..
- لكل بيت مهندس
ووددت لو أن لي بصراً أنفذ به في الأرض ، فأرى ما يجريه النمل ، وما يجري بين النمل ، في بطنها ، كيف هو يحفر . وحفر كهذا لابد فيه من تعاون ، فوددت لو عرفت كيف يكون بين النمل تعاون . والبيت فوق الأرض لابد له من هندسة كذلك البيت الذي هو في بطن الأرض . وخطر لي أنه لابد مع التعاون ، أن يكون بين النمل من يهندس ، يقدر طول النفق الى البيت ، ويقدر عرضه ، حتى يتسع للنمل ، ويتسع لما قد يحمل من قوت . والبيت نفسه كم يضيق ، وكم يصغر .
- ما أشبه النمل بالرجال !
وذكرت بالرمل رجالا تحفر تحت الأرض نفقا .
كل رجل يحمل قفة . ويدخل الى بطن الأرض يملؤها ترابا ، ثم يخرج . وحول باب النفق يكوم التراب تكويما . ويعود من حيث أتى ليحمل ترابا جديدا . والرجال تعمل على الصمت في صف داخل و آخر خارج .
فقلت ما أشبه النمل بالرجال ! بل ما أشبه الرجال بالنمل ! لأني لم أدر أيهما الأصيل وأيهما المقلد .
- النمل ، كالرجال ، يعمل لغده .
وذكرت الهدف .
فقلت هؤلاء الرجال العاملون يعملون لغاية ، هي صناعة نفق . وقلت وهذا النمل لاشك يعمل لغاية ، هي بناء بيت كالنفق .
والرجال يعملون في يومهم لغدهم .
والنمل يعمل في يومه لغده .
- بين الغريزة والذكاء
وذكرت هذا لصاحب . قال : ان النمل يعمل بالغريزة . وأما الرجال فيعملون بالذكاء والفطنة والعقل .
وسألته : وما الغريزة ؟
قال : فطنة غير واعية .
وسألته : وما الذكاء ؟
قال : فطنة واعية .
قلت : فالنملة اذن تدخل الخرق ، وتحمل حبة
الرمل ، ثم هي تخرج تبحث لها عن مكان بعيدا عن باب الخرق فلا يزحمه ، ثم هي تعود وتعود . ثم هي تعمل عندما يعمل النمل ، وتكف عندما يكف ، وكل هذا عن غير وعي ؟!
قال صاحبي : بل هو وعي ضئيل ما يكاد يذكر وعدت الى نفسي أؤكد معنى الذكاء ، ومعنى الوعي، اللذين تقسما على الخلائق من الأحياء جميعا ، اقساما متشابهة النوع - فهي ذكاء ما وهي وعي ما ـ ولكنها مختلفة المقدار .
- غرور الانسان
وعدت الى نفسي أؤكد غرور الانسان ، ذلك
الانسان الذي يأبى ، للذي به من ذكاء كثيرا ما ينقلب غباء ، والذي به من وعي كثيرا ما ينقلب غفلة ، يأبى أن يقر لسائر الأحياء بذكاء .
واستعان الانسان باللغة ، امعانا في غروره ، فسمى
ما بالحيوان غريزة ، وسمى ما بالانسان ذكاء . وهذه حيلة في الناس قديمة ، اذا أرادوا أن يؤكدوا اختلافا بين معنيين طال فيهما الجدل ، سموا أحدهما باسم ، وسموا الآخر بغيره . ويأتي الجيل من بعد الجيل، فيتعلم اللغة ، فتعلمه اللغة غصبا أن شيئا في الحقيقة واحدا هو شيئان وينشأ على هذا ، وهو الواعي ، في غفلة عما صنعت اللغة به ، وما ختمت على فكره .
( كيف ) و ( كم )
ان النمل به ذكاء ذكاء لاشك في هذا .... وبه وعي
لا شك في هذا .
والرجال بهم ذكاء ، وبهم وعي ، ولا حاجة لتوكيد هذا .
( تعلم هذا الكلب الا يدخل الا من باب ، وأن يدق الجرس )
وشتان ما بين الذكاءين . وشتان ما بين الوعيين . ولكن ( شتان ) هذه لا تفيد اختلاف نوع . انها تفيد اختلاف كم لا اختلاف كيف .
ولكن المقدار كثيرا ما يتفاوت في الأشياء تفاوتا كبيرا هائلا فيخدع الانسان فلا يستطيع أن يرى مع التفاوت الهائل في المقدار - ان النوع واحد !
وهذا ملخص قضية النملة والرجل من حيث الذكاء
والفطنة .
وأنت قد تنزل عن النمل ، في سلم الأحياء ، الى ما هو أدنى . فلا تعدم أن تلمح ذكاء .. حتى المكروب له ذكاء ، بمقدار ما . فهو يعمل ، وهو يأكل ، وهو يتوالد بالتكاثر . وعند الفزع يدفع عن نفسه . وكثيرا ما يحس بالهزيمة فما أسرع ما يتراجع ، فيتحصن ، أو هو يستعد لواقعة أخرى .
( حتى الخيل تقبل التعلم )
( فيلة ، في سرك ، في أدوار لا يحسنها الا الانسان )
وأنت قد تصعد عن النمل ، في سلم الأحياء ، الى ما هو أعلى . فتجد الذكاء أكثر ، والوعي أبين حتى اذا بلغت الى الانسان قلت هنا غاية الذكاء ، وهنا غاية الوعي !
تعليق