نشر موقع «إنسايدر» الأمريكي تقريرًا لماثيو لو، مراسل الموقع في مكتب سنغافورة، تحدث فيه عن مشكلة العزوف عن الزواج في الصين وتدني مستويات الإنجاب وتداعيات هذه المشكلة على البلاد.
يستهل المراسل تقريره بالقول: في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، اقترح كاتب من الحزب الشيوعي الصيني مشروعًا متطرفًا بخصوص سكان مقاطعة هونان، وأطلق عليه اسم «تدفئة أسرَّة الرجال الأكبر سنًا»؛ إذ يبدو أن النساء في هذه المقاطعة لم يكنَّ مهتماتٍ بالبقاء في بلدتهن، بل كنَّ يغادرن بعيدًا لبناء حياة جديدة في المدن المجاورة، وشعر العزَّاب في هذه القرى التي هجروها بالقلق من أن العالم قد نسيهم.
وشعر جيانج وين لاي، من موقع «ريد نت» الإخباري المرتبط بالحزب، أن هذا أمر خطير، ووضع حلًّا من أربعة محاور، إذ اقترحت الخطة خدمة المواعيد المدبَّرة بين السيدات والرجال، وتبسيط إجراءات الزواج في القرى، وإيجاد فرص عمل بأجور مرتفعة في المناطق الريفية، وحملات دعائية تروِّج لـ«الزواج والإنجاب» وتقليل تكاليف الزواج الباهظة الثمن، وسَخِر مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي من الحملة متسائلين: لماذا يجب أن يكنَّ سيدات هذه المقاطعة هنَّ الحل لرجالها؟
وربما يكون هذا الغضب قد أوقف خطط جيانج لإصلاح مشكلة الزواج، ولكن مشكلة سكان هذه المقاطعة تُسلِّط الضوء على أزمة وطنية في الصين، إذ انخفض معدل الزواج لثماني سنوات على التوالي وهو الأقل منذ 36 عامًا، وفقًا للإحصاءات الرسمية، ولكن المتفاعلين على منصات التواصل الاجتماعي والحكومات المحلية ألقت باللوم في هذه الأزمة على السيدات العازبات وحثتهنَّ على الزواج، وأطلقت أجنحة شباب الحزب الشيوعي خدمات التوفيق بين الجنسين الخاصة بها هذا العام.
بيد أن عديدًا من السيدات في الصين قُلن إنهن لم يعدن مهتمات بالزواج ويرين أنه يمثل عقبة أمام تحقيق استقلالهن المادي، وفي استطلاع أجرته رابطة الشبيبة الشيوعية شمل 2905 من غير المتزوجين العام الماضي، قالت 44% من سيدات المدن اللاتي تتراوح أعمارهن بين 18 و26 عامًا إنهن لا يفكرن في الزواج، وأجاب 25% من الرجال الإجابة نفسها.
وأدَّى هذا الأمر، إلى جانب عدم التوزان في نسبة الذكور والإناث نظرًا للتفضيل الثقافي للأولاد والتكلفة الباهظة لرعاية أسرة في الوقت الحالي، بالبلاد إلى عصر يريد فيه جيل الألفية أن يتمتع بالحرية المالية للعزوبية على الرغم من الضغط المجتمعي نحو الزواج.
هل يمثل الزواج خطرًا ماليًّا؟
يشير المراسل إلى ما قالته تشن يو البالغة من العمر 35 عامًا وهي عزباء من مقاطعة جوانجدونج، من أنها أصبحت معتادة على تعبيرات القلق التي يقولها الأصدقاء لأنها لم تؤسس عائلةً بعد، وقالت للموقع: «يعتقد جميعهم أنه ينبغي أن يكون لديَّ أسرة في هذا العمر، ويفكر كثيرٌ من الصينيين بهذه الطريقة».
ولكن تشن التي تعمل طبيبةً في مستشفى تقول إنها سعيدة هكذا، وتمتلك شقة بمساحة 93 مترًا مربعًا تقريبًا، ويُعد امتلاك العقارات نقطة شائكة رئيسة لجيل الألفية الصيني الذي يفكر في الزواج، وربما يتسبَّب عدم امتلاك شقة في وقف خطوات الزواج في بلد ترتفع فيه أسعار العقارات، ومع أن تشن تمتلك عقارًا، إلا أنها قالت إن البحث عن زوجٍ ليس هدفًا من أهداف حياتها.
وقالت شين إن «القاعدة التي يشعر الناس هنا أنهم مضطرون للالتزام بها هي أن تبقى المرأة في المنزل بينما يخرج الرجل ويجلب المال»، وأضافت: «عندما أكون عزباء، فأنا أمتلك الحرية والوقت، والعلاقات التي أريدها والأماكن التي أفضلها، ولم أجد رجلًا يستحق أن أتخلى عن كل هذا من أجله»، وهذا ما يشعر به عديد من السيدات الصينيات، وقالت أليسون مالمستين، مديرة التسويق في شركة داكسو للاستشارات، إن العازبات في الصين يقلقن من التضحية بحريتهن المالية إذا تزوجن.
وأضافت: «على مدى العقدين الماضيين، رأينا السيدات الصينيات يزددن ثراءً وأصبحن ينفقن مزيدًا من الأموال على أنفسهن، وليس على الأسرة، ويشترين المجوهرات والعقارات».
وقالت الأستاذة المساعدة في علم الاجتماع مو تشنج في جامعة سنغافورة الوطنية إن هناك «ضغطًا مزدوجًا» على النساء في الصين بأن يصبحن عاملات ناجحات وربات بيوت مخلصات، وأضافت إن «عديدًا من النساء المتعلمات تعليمًا عاليًا يؤخرن الزواج أو يتخلين عنه لتجنب مثل هذه الضغوط».
وأشارت أليسون إلى استطلاع أجراه موقع البحث عن الوظائف الصيني (Zhaopin Recruiting) عام 2012، الذي وجد أن 43.5% من السيدات يترددن في اتخاذ خطوة الزواج لأنهن قلقات من أن يقلل ذلك من جودة حياتهن؛ بينما قال 53.6% من الرجال الذين شملهم الاستطلاع أن السبب الرئيس لعدم زواجهم هو أنهم يفتقرون إلى الأمان المالي لإعالة أسرة.
وقالت إستر تشونج، 40 عامًا، إن العزوبية تجعلها حرة في متابعة حياتها المهنية وتولِّي وظائف خارج البلاد، وأضافت: «كثير من زميلاتي يعملن في شركات دولية، وإذا حصلن على وظيفة خارج البلاد أو في مقاطعة أخرى في الصين فعليهن التفكير في أسرهن وترتيب شؤون أطفالهن».
المشكلة المركَّبة لانخفاض معدلات الزواج
نقل المراسل عن البروفيسور ستيورات جيتيل باستن، الذي يدرِّس العلوم الاجتماعية والسياسية العامة في جامعة هونج كونج للعلوم والتكنولوجيا، قوله إن انخفاض معدل الزواج وحده ليس بالضرورة سببًا للقلق، لكنه من بين القضايا الرئيسة التي تسبِّب مشكلات اجتماعية في الصين، وأضاف: «إذا وضعتَ كل الأمور معًا، فسنجد أن عدد مَنْ يتزوجون ليس هو المشكلة فقط، بل الحزمة بأكملها، لدينا معدلات زواج منخفضة للغاية، وكذلك معدلات الخصوبة والسكان الذين يشيخون بسرعة إذا استمر هذا الأمر».
وهذا المجتمع الذي يشيخ بسرعة هو حالة طوارئ تمر بها البلاد، إذ يقلص ذلك من القوة العاملة والمهنيين المؤهلين ويصبح هناك ملايين من كبار السن الذين يحتاجون إلى رعاية صحية، وبينما سعَت دول آسيوية أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية للتخفيف من آثار شيخوخة سكانها، لم تطلق الصين إستراتيجيتها الوطنية لمعالجة هذه المشكلة إلا في عام 2021.
والصين أيضًا لديها مشكلة في توازن أعداد الجنسين، إذ لدى الصين 111.3 ذكر مقابل كل 100 فتاة. بينما المعدل الطبيعي هو 105 ذكور مقابل 100 أنثى، وهناك قاعدة ثابتة في الصين أن المرأة تتزوج رجلًا أعلى منها اجتماعيًّا واقتصاديًّا، وهذا يعني أنه مع زيادة ثراء نساء الطبقة المتوسطة، سيجد الرجال الأفقر في الصين صعوبة في العثور على زوجات، وستقابل السيدات الأغنى عددًا أقل من الرجال الذين يمكنهن الزواج منهن.
تفضيل القطط والكلاب على الأطفال
يقول المراسل إنه بينما ترفض بعض السيدات الصينيات الزواج، فإن بعضهن قلن لـ«إنسايدر» إنهن قد يفكرن في الزواج إذا قررن إنجاب أطفال، وقالت تشن: «إن معظم الصينيين يريدون إنجاب الأطفال»، وبما أنه لا يزال لا يسمح بإنجاب الأطفال خارج إطار الزواج، يصبح الزواج حتمًا جزءًا من أي قرار يتعلق بإنجاب طفل.
وقد عانت الصين لإقناع الأزواج بإنجاب طفل آخر حتى بعد إلغاء سياسة الطفل الواحد السيئة الذكر عام 2016. وفي عام 2021، خُففت القيود أكثر وسمحت للعائلات بإنجاب حتى ثلاثة أطفال وعززت بمكافآت للأطفال وإجازة أمومة ممتدة، لكن الإحصاءات تشير إلى انخفاض المواليد عام 2021 لمستوًى قياسي، وقال تشونج، المدير المالي في مقاطعة جوانجدونج، إن: «تكاليف المعيشة مرتفعة، ويريد الناس توفير حياة وتعليم جيدين لأطفالهم لكن الموارد لكفاية هذه الأشياء محدودة».
وتقدر تقارير وسائل الإعلام الصينية تكلفة تربية طفل حتى يصل إلى سن الجامعة في مدينة كبيرة مثل شنجهاي بنحو 1.19 مليون يوان صيني (309,025 دولار أمريكي)؛ بينما يبلغ متوسط تكلفة تربية طفل في الولايات المتحدة حتى 18 عامًا 233,610 دولار، وفقًا لوزارة الزراعة الأمريكية.
وتبنَّى عديد من جيل الألفية قططًا وكلابًا بدلًا من الإنجاب، وهو أمر متاح لغير المتزوجين دون وصمة عار مجتمعية تلاحقهم كما هو الحال مع الإنجاب خارج إطار الزواج.
إيجاد حل للمشكلة الصينية
يلفت المراسل إلى أن مشكلة الزواج في الصين ربما لا تختلف عن تلك التي يواجهها العالم لا سيما الدول التي شهدت نموًا سريعًا، وتُظهر بيانات البنك الدولي أن المتوسط العالمي لسن الزواج ازداد بمقدار عام واحد فقط في الأعوام بين 1995 و2015؛ بينما من الخمسينيات وحتى عام 2021، ارتفع عمر المتزوجين حديثًا في الولايات المتحدة من 20 إلى 28 عامًا لدى السيدات ومن 24 إلى 30 لدى الرجال.
بيد أن الصين كانت تحظى تاريخيًّا بمعدل زواج مرتفع للغاية، وربما كان هو الأعلى في العالم، وبلغ عدد الزيجات في البلاد 23.8 ملايين زيجة عام 2013 قبل أن تبدأ بالانخفاض كل عام، وربما يكون معدل الزيجات الحالي في الصين طبيعيًّا مقارنةً بدولٍ مثل سنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية؛ فقد سجلت هذه الدول معدل 5.2 و4.2 و4.3 زيجات لكل 1,000 شخص عام 2020 على التوالي؛ بينما سجلت الصين 5.8 زيجة لكل 1,000 شخص في عام 2020 بانخفاض عن معدل 9.9 عام 2013.
يقول جيتيل باستن: «عليك أن تعود إلى الأسباب التي أدَّت إلى انخفاض معدلات الزواج؛ إذا شعرتْ النساء أن هذه خطوة سيئة لحياتهن ومهنتن، فإنهن يردن تأجيلها قدر المستطاع، وربما يكون هذا أحد أعراض التحديات والمشكلات التي يعاني منها المجتمع».
ويختم المراسل مع يوان الذي يقول: ترتبط هذه القضية بـ«التحضُّر غير الصحي» في الصين الذي يفضل اكتساب المال على عيش حياة جيدة، ويضيف: «الصينيون الأكثر حظًا يمكنهم الزواج ولكنهم لا يحصلون على حياة زوجية متكاملة بسبب كل الضغوطات، بينما يحتاج الصينيون الأقل حظًا إلى تقديم تنازلات أكثر مثل تأخير الزواج، أو التنازل عن الزواج بالكلية».