"بريق من مروا من هنا" قصائد يحركها الحنين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "بريق من مروا من هنا" قصائد يحركها الحنين

    "بريق من مروا من هنا" قصائد يحركها الحنين


    الشاعر السوري حسين درويش يوثق مسيرة حياة يغيرها الزمن.
    الثلاثاء 2024/02/20

    الماضي يولد رؤى الشاعر (لوحة للفنان بسيم الريس)

    منذ نشأته لم يتخل الشعر أبدا عن المشاعر، فرغم تقلباته وتغيراته على امتداد قرون في الشكل والمواضيع والأساليب الفنية تبقى حالات الوجدان والحنين والحب والألم وغيرها من المشاعر المحرك الأساسي للقصيدة أو النص الشعري، فمنها نقرأ الشعر لا لنفهمه فقط بل لنحسه أيضا، وهكذا كانت نصوص الشاعر حسين درويش في مجموعته الأخيرة.

    بين الهجرة والهجران، والرحيل والغياب، بين الماضي والحاضر، وسط تيار جارف من أحاسيس تلامس كل فرد منا، في رحلة تجوب فضاء زمن يستمر متحولا، تتمحور مواضيع العشرين قصيدة التي يتألف منها ديوان “بريق مَن مروا من هنا” للشاعر السوري المقيم في دبي حسين درويش، الصادر عن منشورات المتوسط في ميلانو – إيطاليا.

    منذ الغلاف الذي صممه وأخرجه خالد الناصري تقرأ الديوان؛ فالعنوان واللوحة ينطقان ويدعوانك إلى الدخول إلى عالم الشاعر المتراوح بين الهنا والهناك.
    حالة حنين


    القصائد يسيطر عليها مناخ شعري متآلف العناصر، ممزوج بالكثير من الحنين الوجداني والوجودي فضلا عن الحالة الرثائية

    يسيطر على القصائد مناخ شعري متآلف العناصر، ممزوج بالكثير من الحنين الوجداني والوجودي، فضلا عن الحالة الرثائية التي خلفها “مَن مروا من هنا” كذاك البريق الذي يتركونه خلفهم طابعين في عبورهم علامة وأثرا بارقا، روحيا ونفسيا لا يزول.

    كثير من الوجوه يستحضرها حسين درويش، فتطالعنا منذ مطلع الديوان صورة الفراق، بدءا بمنازل الجيران المهجورة: “عندما ترك الجيران/ أحواضهم تجف تحت الشمس”. ويأخذه الحنين وهو يعبر ملاعب صباه، فيتذكر أيام المدرسة، ويلمح بعين الخيال “مقاعد الدراسة”، ليلمح بعين الواقع “كآبة الحقول” الخالية اليوم، وقد عمرت بهم في الماضي.

    كما يذكر أصدقاءه، ندماءه، الذين رحلوا “خلف البحار البعيدة/ … خلف بحار باردة/ بحار مظلمة”. لكن المسافات لم تخفف من عمق معرفته بهم، فتنعكس حالته ويأسه عليهم في يقين لا يقبل الشك بقوله “أعرف صمتهم/ أدرك يأسهم/ أعرف خطاهم/ أحفظ وجوههم: عابسة/ ضاحكة/ تراني من خلف/ فضائهم الأزرق”.

    ويشتد به الحنين في “البرية الزرقاء” التي تضم مَن رحلوا إلى حيث لا عودة، “لا شيء على أجداثهم الصماء/ سوى بريقهم الأزرق/ بريق مَن مروا من هنا”؛ فيتذكر سِيَرهم ومدارسهم وبيوتهم وأحباءهم والأصدقاء المشتركين، ويذكر بلهفة المشتاق أياما خلت وصدق العاطفة التي كانت تشد الأواصر: “كم من الكلام أعجبنا/ كم أعجبناهم/ كم عانقونا/ كم أحبونا”.

    وللحنين العاطفي حصة في ديوان الشاعر، فاليد الباردة “التي حملت وردة ذابلة/ ضلت الطريق إلى النافذة”، هي “يد مترعة الحنين”، ليشمل الجزء الكل، فيصبح هو اليد، ويقول معبرًا عن شوقه إلى الحبيبة وتوقه إلى ملامستها ورؤيتها بقوله “كأني يد عمياء أبصرت روحها/ يد ضالة/ تبحث عن دليل/ تبحث عنكِ”.

    والشاعر لا ينسى أحدا ممن مر في حياته وعبر إلى محطة أخرى، ليعبر عن حالة إنسانية يعيشها الجميع، فيمثل التجربة البشرية عامة، وينتقل من الأنا إلى الجماعة: “أصدقاء الهجر” و”ندماء الحنين”، الذين يعانون ما يعاني، “يقتفون الأثر تلو الأثر/ … يخترعون الكلمات ذاتها/ … العبارات ذاتها/ الآهات ذاتها”.


    مناخ شعري ممزوج بالكثير من الحنين الوجداني والوجودي


    كما أنه يذكر الكثير من التفاصيل التي تتعلق بالماضي وتذكره بالغياب، على نحو الهاتف الذي كان يسمع عبر أسلاكه صوت الأصحاب، ورنينه في المساء، الشاهد على أحاديث هامسة في “غرف مغلقة”. لقد تساقطت منه الأسمار وصمتت الأصوات مع مرور الأيام ورحيل الأحبة، بينما قطار الزمن يستمر متقدما في رحلته، “يوغل في الضباب”.
    الشاعر والعائلة


    يستحضر حسين درويش كل هذه الحالات، حيث تتشارك الحواس والإحساس، فيشعر بالغائبين، ويراهم، ويسمعهم. إنهم سلواه في وحدته: “أرقب أصدقاء وحدتي/ أرى ذبول ظهورهم/ تعثر خطواتهم/ طقطقة ركبهم”… وهو على يقين من أنهم يبادلونه الشعور، يرونه، يرافقونه، يخففون من وطأة وحدته، يتوجهون إليه قائلين “نحن نراك/ نحن معك/ نحن مثلك/ أحياء من فرط وحدتنا”.

    ولئن كان هذا الرحيل الذي تتمحور حوله القصائد قد جاء على حين غفلة، بلا تحضير ولا استعداد: فالوردة ذبلت في المزهرية، وباب الحديقة نُسي مفتوحا يتلاعب به الهواء، وكذلك الشباك الذي تئن مفاصله… فإنه يؤكد أنه كان رغما عنه أيضا، إنه أمر حتمي: “أبدا لم نكن شهودا في موسم الرحيل”.

    واللافت في الديوان تناول الشاعر غربة العائلة وابتعاد أفرادها بعضهم عن بعض، ليستعيضوا عن اللقاء الجسدي والتحاور الكلامي المباشر، بلقاء تكنولوجي. “جروب العائلة” القصيدة المميزة والمعاصرة التي قل من تطرق إلى موضوع مشابه لها حيث ذكر فيها الشاعر الكلمات والمصطلحات، لا بل الصور والوجوه والحالات التي نرسلها عبر “جروب” العائلة، كذلك فترة الكورونا ونكاتها وإشارات الاستفهام، وقائمة الطعام… ناهيك عن تهاني الأعياد، وبيض الفصح، وهلال العيد وغيرها… وكلها ترسم “حياتنا في كلمات”.

    لقد أبدع المؤلف في نقل خلجات شعوره على الورق، لتطال مشاعر كل قارئ وكل إنسان، في مسيرة حياتية تخضع لتغير الزمان وتقلباته.


    سارة ضاهر
    كاتبة لبنانية
يعمل...
X