فيصل العبيد يفكك أهمية الحب وخطورة الأمراض النفسية في "أصل الحكاية"

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فيصل العبيد يفكك أهمية الحب وخطورة الأمراض النفسية في "أصل الحكاية"

    فيصل العبيد يفكك أهمية الحب وخطورة الأمراض النفسية في "أصل الحكاية"


    ديودراما تعيدنا إلى حقيقتنا وتستفزنا لسماع أصواتنا الحقيقية الداخلية.
    الثلاثاء 2024/02/20
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    صراع فكري ونفسي عميق بين سيناريو وحوار

    نحن ما نفكر فيه، وهذا ما يرسم ملامح هويتنا، فأفكارنا التي نحملها عن أنفسنا وعن الآخر هي ما يميزنا، ويخلق هوياتنا. دون هذه الأفكار لن ندرك ماهيتنا، سنضيع، ولن نعرف من نكون، حقيقة أو مجازا، سنغوص في بحر من الأسئلة، وسنعيش غربة ذاتية لا تنتهي إلا باستعادة الهوية. هذا جزء مما يناقشه المخرج الكويتي فيصل العبيد في عمله المسرحي “أصل الحكاية”.

    “لكي تعرف من أنت اسمعك” واحدة من الجمل التي قيلت ضمن نص العمل المسرحي “أصل الحكاية” الذي أخرجه الدكتور الكويتي فيصل العبيد وعرضه ضمن فعاليات الدورة السابعة لمهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي، والذي يقدم لنا فيه قراءة مسرحية عميقة في الاضطرابات النفسية التي يرى العبيد أن الحب قد يكون علاجا لها، وأننا بالحب والرأفة على الآخر قد نحميه من السقوط فيها وفي العديد من الأمراض والصراعات النفسية الخطيرة.

    في هذا العمل الديودرامي، يتشارك “أصل الحكاية” الممثلان سماح ويوسف البغلي، في حين اشتغل على السينوغرافيا الدكتور فهد المذن، وكانت الموسيقى بلمسات وليد سراب، وتقنيات عبدالعزيز العبيد وحسين الحسن، أما عبدالله البصيري فيحضر كمساعد مخرج بينما يتولى ميثم بدر الإشراف العام.

    جاء العنوان، عتبة العمل المسرحي الأولى، مبهما، لا مباشرتية فيه، ولا يختصر ما سنراه طوال ما يقارب الساعة، وسيظل كذلك إلى آخر زمن المسرحية، حيث يكون الحوار بين البطلين عاملا مساعدا لتفكيك “أصل الحكاية” من وجهة نظر المخرج، والموضوع الذي يناقشه. في المقابل يجيبنا ديكور العمل الذي كان عتبة المتلقي الثانية للعمل على الكثير من التساؤلات.


    ليس غريبا على العبيد اشتغاله على مثل هذه النصوص المهمة، فهو مخرج ومؤلف يجيد اللعب على وتر الفلسفة


    ماهي الحكاية؟ يبدو كأن الأمر يتعلق بكاتب أو مفكر وحيد، يشكو عزلة قاتلة، أغلق على نفسه الأبواب وسد الشبابيك المنتشرة في أرجاء المنزل، يهرب من نفسه التي يعجز عن معرفة هويتها.

    مكتب بسيط يتخذ موقعه في الجانب الأيمن من الخشبة، عليه راقنة قديمة (آلة طابعة)، وبالتوازي معها في يسار الخشبة كراس ترتاح عليها “المرأة الفكرة”. هذه أول عناصر الديكور التي تحيلنا إلى بعض الأفكار المتعلقة بموضوع العمل، أما عمق الخشبة فأثث بصناديق كرتونية ومعلاقين للملابس أحدهما علقت عليه ملابس والآخر عليه دميتان، كلها عناصر اجتمعت في مساحة تشبه الغرفة المغلقة تتوسّطها طاولة عليها بعض الإكسسوارات التي ستحتاجها الممثلة في ما يلي من زمن العرض كالزهور وفنجان القهوة.

    بين سماح ويوسف يتكشف لنا أصل الحكاية، لكاتب يعاني أحد أخطر الأمراض النفسية، يحاول أن يعرف من هو وماذا كان، بعد أن فقد هويته وصار “رجلا غاضبا من المجهول، خائفا”، رجلا وحيدا، لا يعرف شيئا عن هويته، يخاطب فكرة تتجسد له على هيئة امرأة، يكتبها بطلة لنصوصه، يأمرها وينهاها، يلبسها أثوابا غير حقيقتها، ويرغمها على الصمت الدائم “بين قوسيه”، لكنه بمجرد أن تتحداه يأمرها بالرحيل، وحين ترحل عن عالمه تتكشف له حقيقته ويدرك أن الماضي ذكرى والمستقبل مجهول وأن الحاضر الذي يعيشه هو المستقبل الذي أخافه في الأمس.

    وما سنعرفه لاحقا أنه رجل يعاني اضطراب الهوية التفارقية، الذي سيطر عليه بشكله الاستحواذي الذي إن أصاب المرء أظهر له هوياته المختلفة كما لو كانت عائدة إلى عملاء خارجيين وأشخاص سيطروا عليه. وهو اضطراب يأتي جراء الإصابة بصدمة ساحقة للذات، تجعل الإنسان يهرب من نفسه.

    ويظل الكاتب يصارع نفسه وأفكاره المتواترة والمترددة، وتحديدا فكرته التي تشاركه الخشبة على هيئة امرأة لن نعرف من هي حتى آخر العمل، وهو بين حين وآخر يصرخ فيها “لا أعرف من أنت لكن المعضلة أنني لا أعرف من أنا”، ثم يخبرها ويخبرننا أنه “كاتب يكتب/تجسد آلامه أصل الحكاية، لكنه يصرخ فلا يسمع”.

    على امتداد الساعة، نعيش ثنائيات متضادة، حالات شد وجذب كثيرة، بين تصاعد وهدوء، استكانة وهيجان، توتر وطمأنينة، تفكير ولا تفكير، رغبة في اكتشاف الذات وهرب منها، تعزز كل هذه الشحنات العاطفية والصدمات الفكرية التي يثيرها الحوار بين البطلين في أذهاننا الموسيقى التي تتبع نسق الحوار، وتخلق بين جمله فواصل مثيرة، تتنوع بين الفرح والحزن، الحيرة والتأكد، الغربة والألفة، الحب واللاحب، تقبل الآخر ورفضه، وبين الصراع الداخلي المزمن في عقل البطل بينه وبين أفكاره الكثيرة، ماضيها وحاضرها ومستقبلها.


    لا أعرفك ولا أعرف نفسي حتى


    إنه صراع تعيشه عقولنا أيضا، فمن منا يخلو من الآلام النفسية، بل قد نكون جميعنا معذبين ومرضى ومعقدين ولا ندري، فقط تختلف درجات المرض لدينا وحدّتها، لكننا جميعا نحتاج الحب بلسما شافيا لأرواحنا.

    وتتميز الإضاءة في هذا العمل شأنها شأن النص والديكور وهي مفردات تدعونا إلى الحوار العميق وإلى تفكيك العرض وتشريحه وقد رسمت الإضاءة بعناية فائقة ومنحت العرض حلولا جمالية وتعميقا للدلالات.

    وأبدى الممثلان سماح ويوسف البغلي أداء متناغما، متماهيا مع حالات الشخصيتين، لولا بعض الصراخ في مواضع قليلة، كما أنهما نجحا في توظيف دميتين لرجل وامرأة، يحررانهما من ضوابط التقارب على الخشبة، ويمنحانهما مساحات أكبر للحركة وللإيماءات، وللتكلم كل بلسان الجنس الآخر. كذلك جاءت أزياؤهما عاكسة لشخصيتهما، فالكاتب يبدو في هيئة كاتب بملابس كلاسيكية بينما تتنوع أزياء المرأة بين السواد وبين التلون وفق حالة المرأة/الفكرة التي يرقنها الكاتب على آلته.

    في حفلة راقصة قد تحيلنا إلى حفلات الأفكار والمشاعر التي تعصف بينا في اليوم مرات ومرات، وقد تكون أكثر حدة وعنفا لدى المفكر والمحلل والمريض النفسي، يبدأ الكاتب في تفكيك البعض من ملامح هويته، يقرر قبلها أن يسمي نفسه والمرأة “سيناريو وحوار” وهكذا ينطلق السيناريو والحوار في خلق هوية جديدة، هو يسأل عنها وهي تجيب، إلى أن يقف مذهولا أمام حقيقته، يواجه مراياه المعتمة، ويستمع لصوته المنبعث من آلة تسجيل صغيرة.

    يثور، يمزق كل أوراقه ويأمرها بالرحيل. مع كل ورقة تشق، ينشق جزء من روحها، فهي الفكرة، الفكرة التي خلقها عقله على هيئة امرأة، الفكرة التي عبّرت عنه وصنعته وجاءت من عالمه، حتى تنتهي، فيسقط بجانبها. ونكتشف في الأخير، عبر لوحة كبيرة لزوجين، أن هذا الكاتب المسكين إنما هو يكتب زوجته الراحلة، يتخيلها فكرة في حكاياته ويهيأ له أنها تشاركه المنزل. فقدها ففقد عقله، خسرها فخسر هويته، تركته حبيبته فجن لحاجته إلى الحب.

    “أصل الحكاية” أن الحب دواء لكل داء نفسي، وأن من تصيبه اضطرابات نفسية ليس بالضرورة أصيب بمس من جن أو عين وحسد كما يؤمن الآلاف من العرب والمسلمين، هكذا يقول المخرج فيصل العبيد في اختصاره للرسالة العامة لعمله، وهو يؤكد استمراريته في الاشتغال على الفكرة والموضوع، واهتمامه بالإنسان، بالعقل وبالنفس البشرية، فالمسرح لديه رسالة هدفها إنارة مراكز التفكير والوعي لدى المتلقي، وهذا الهدف لا غنى عنه فما فائدة أن نبذل الوقت والمال والموارد البشرية في أعمال مسرحية لا تضيف ولا تؤثر ولا تصنع الوعي الذاتي والجمعي؟


    رغبة في اكتشاف الذات تعزز الشحنات العاطفية والصدمات الفكرية التي يثيرها الحوار


    وأكثر ما يمكن الإشادة به في هذا العمل هو النص، على الأقل كما تلقيته بصفتي واحدة من المتلقين، فهو نص ثري وعميق مشبع بالحوارات الذهنية والعبث الموشى بالهم النفسي ومحاولات البحث عن الخلاص في ذهن شخصية ظلت حبيسة أمسها الذي تهرب منه وتمحوه قسريا من ذاكرتها، فتفقد هويتها بالكامل، نص تستفزنا حواراته لإعادة اكتشاف الذات وتجاوز المآزق والصدمات التي نضيع من بعدها.

    وليس غريبا على المخرج فيصل العبيد اشتغاله على مثل هذه النصوص المهمة، فهو مخرج ومؤلف يجيد اللعب على وتر الفلسفة وهو من المخرجين الذين يشتغلون مكثفا على النص.

    تجارب العبيد الإخراجية يقول عنها إنها “تبدأ من اعتماد النص، سواء من كتاباتي أو لمؤلف آخر.. من خلال طرح أفكار أشارك بها الجمهور، بحيث تكون الأفكار تشغل الشارع والرأي العام، وقد تكون هناك أفكار مهملة بالنسبة إلى الناس، ولا ينتبهون إليها، حيث أحاول صياغتها بأسلوب مختلف قريب من الواقع في فترة مرحلة العرض”.

    ويقول لنا إن اهتمامه بالاشتغال على النص وتحليله وتفكيكه بناء على ما يتلقاه من آراء ونقد وردود فعل من الجمهور تستمر حتى في هذا العمل “أصل الحكاية” حيث سيعيد تقديمه لمرات أخرى، إيمانا منه بأن العمل المسرحي لا ينضج إلا بعد ما يقارب السبعة عروض.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    حنان مبروك
    صحافية تونسية
يعمل...
X