سامية حلبي وهي تنظر إلينا من علٍ

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سامية حلبي وهي تنظر إلينا من علٍ

    سامية حلبي وهي تنظر إلينا من علٍ


    فنانة أعادت قولبة وطنها فلسطين ورموزه.


    الرسم لغة حلبي للتعريف بالهوية والجذور

    تجربة الفنانة التشكيلية سامية حلبي ثرية، لا يمكن إلا أن تستفز متابعها بالفهم والتحليل والنقد، لكنها تظل تجربة رائدة جردت وطنها فلسطين من صورته النمطية التي تحصره في دائرة الصراع المعروف مع إسرائيل لتحوله إلى رمز ووجود وهوية ما انفكّت حلبي تعيد تشكيلها.

    قد يكون أول ما لفت انتباهي وأنا أتنقل بين لوحات وأعمال التشكيلية الفلسطينية سامية حلبي في معرضها “علامات فارقة” هو الكيفية التي تنظر بها سامية للعالم، وكيف أنها تستطيع أن تكون في اللحظة ذاتها شخصا ينظر للتفاصيل من علو شاهق شمولي، وجزءا من أدق تلك التفاصيل على الأرض ممتزجا بها أيضا، أو قد يبدو الأمر كمن يستخدم المايكروسكوب التشريحي ليمنهج الطريقة التي ينظر بها إلى العالم، وليعيد بعد تلك النظرة، إنتاج تأملاته الشخصية على هيئة لوحات وأشكال مفاهيمية كثيفة.

    وفي المعرض المقام ضمن سلسلة معارض “علامات فارقة” لمتحف الشارقة للفنون في قاعتيه الرئيسيتين الأولى والثانية، كنت موعودة ومأخوذة بالتعرف على التجربة الممتدة لحلبي بدءا من ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم. فسامية التي ولدت في القدس عام 1936 قبل أن تنتقل إلى ساحل يافا مع عائلتها، حيث عمل والدها في التجارة إلى سنة النكبة 1948، لتعيش عائلتها بعدها كبقية العائلات الفلسطينية على تنوعها واختلاف طبقاتها ذلك التهجير القسري في عدة دول حول العالم انتهت أخيرا في الولايات المتحدة، حيث درست الفن وكان لها من خلاله ما تريد أن تقوله، لكن الأهم من ذلك من وجهة نظري، هو أن الفن قبل أن يكون طريقة حلبي للتعبير، فقد كان سبيلها للتفكير وفهم موضعها من المأساة الفلسطينية، ثم موقفها الوجودي والإنساني من كل شيء في هذا العالم، بما يتناسق مع مفهوم مارتن هايدغر حول الهوية والوجود، باعتبارها شكل التفكير الذي نختار ونعبر عنه فنمتزج به ويصبح هويتنا، الهوية باعتبارها الفكرة لا الشكل والقالب.
    العالم موقف سياسي وإنساني


    سامية حلبي ترفض أن تنحاز إلا لفكرة واحدة، هي حقها الوجودي في التفكير والتفكيك وصناعة أثر

    تعرّف سامية حلبي بنفسها كرسامة ومفكرة وتحب أن يراها الآخرون كذلك، وهي تمازج بين اللون والفكرة منذ اللحظة الأولى، تستشعر ذلك و أنت تتجول وسط لوحاتها التجريدية الأولى التي شمل بعضها مشاريع تخرجها من الجامعة في الولايات المتحدة، حيث الإنهماك في التجريد اللوني، الذي عُرف عمن ينتهج الموقف السياسي الصريح والمباشر في انحيازه للحركات الطليعية في بدايات القرن العشرين، الثورية خارج القوالب المتموضعة فنيا واجتماعيا وسياسيا.

    سامية حلبي الطالبة، ثم الفنانة في أول سنوات تخرجها ترفض أن توضع في قالب ما وترفض أن تنحاز إلا لفكرة واحدة، هي حقها الوجودي في التفكير والتفكيك وصناعة أثر، لاحقا من خلال ذلك الأثر تصرّح حلبي بأكثر مواقفها التضامنية مع قضية أرضها الأولى وحق العودة، وهو ما سأتحدث عنه تفصيليا في موضع آخر.

    في تلك القاعة الأولى من معرضها “علامات فارقة”، توقفت مليا عند لوحتين، كانت الأولى رسما تجريديا بضربات لونية فاتحة، تمازجت بين الأصفر الفاتح والزهري والأخضر الباهتين بدورهما، واختارت “حلبي” عنواناً لتلك اللوحة هو مطر صباحي من النافذة، إذ كانت اللوحة كمن يشاهد ضبابية الأشياء وهي تمتزج لتكون شيئاً واحداً هو نواة مكونها الأرضي وأنت تتأملها من النافذة، حتى البشر العابرون هم أيضا جزء من ذلك المكون، وسامية التي تتأملهم من موضعها البعيد، تعود لتنعجن بهم وهي تقدم تأملها الخاص عن ذلك المشهد، يغمرك شعورٌ خفي بالصفاء رغم الضبابية، وبالنعمة تجاه المطر الذي منح المكون الإنساني ذلك الاندماج. في الحقيقة كانت كلمة النعمة هي التي وجدتني أدونها في مفكرتي تجاه هذا العمل وأنا أبتسم.

    أما اللوحة الثانية كانت من البورتريهات الفارقة التي لفتتني لفنان يختار أن يرسم نفسه مؤخرا، التجريد كان حاضرا في اختيار حلبي أن تمنح نفسها الملامح المبهمة لوجهها في العام 1986، ففي لوحة “كرة لامعة” التي تظهر فيها سامية في أستديو الرسم الخاص فيها أمام لوح الرسم وهي تتأمل انعكاسها في كرة لامعة معدنية، تتشكل أبعادها غير الطبيعية، ولعلها من خلال ذلك كانت تريد أن تسخر من فكرة البعد الطبيعي للإنسان في تعريفه لنفسه، فما هو الطبيعي من اللاطبيعي وما هو المنطقي أمام اللامنطقي، وكيف يمكن تحديد ذلك وحصره في عالم الفن الذي تتكرس استمراريته في القفز الدائم على المفاهيم الجامدة، لابتداع مفاهيم جديدة وهكذا. كنت ألتقط صورة لتلك اللوحة بهاتفي، لأرى كيف أن البعد المنسوخ هو أيضاً وجه آخر للفنانة، وأن كل حالة تلقي هي أيضا اكتشافا جديدا للذات، الذات التي نتفاعل فيها نحن مع ذلك الرسم الشخصي المبهم، ونفكر في ذواتنا المنعكسة على كل المسطحات العاكسة حولنا، إلى أي مدى هي تمثلنا روحيا في عالم الأبعاد الطبيعية والمنطقية؟ هو شيءٌ مثيرٌ للتأمل.. أليس كذلك؟
    فلسطين الأبدية مفهوم راسخ



    لوحات تعيد قولبة فلسطين لما هو أكثر من صراع محتدم، فلسطين هي الفكرة التي يتموضع فيها كلٌ الوجود والهوية


    في القاعة الثانية من المعرض، أنت تتعرف على جذر السؤال الذي انطلقت منه كثير من أعمال سامية حلبي. سؤال فلسطين اليقظ إلى يومنا هذا، والمشتعل بأكثر الأشكال وحشية خلال فترة زيارتي للمعرض. فسامية التي تقول في لقاء لها مع منال عطايا إنها “تتخيل نفسها تعيش حياة طبيعية في فلسطين لو أن نكبة 48 لم تكن”، تحاول خلق سياقات وأشكال متنوعة لتلك الفكرة، فكيف تستطيع أن تخلق من فلسطين مفهوما راسخا باستخدام الفن التجريدي؟

    وقد يسأل أحدهم هنا أيضا، ألا يتناقض ذلك مع رفض القولبة الطليعية التي انتهجها الفن التجريدي؟ ألا تناقض الفنانة نفسها من خلال ذلك؟ وأظن أن حلبي من خلال أعمالها تجيب عن ذلك بأبرع ما يكون.

    تتموضع في القاعة الثانية عدة أعمال لافتة حملت تفاصيلا فلسطينية من الواقع الفلسطيني اليومي، في سياق حق الفلسطيني الإنساني أولاً بذلك، ويلفتني في هذا السياق ذلك التجريد المفاهيمي “هواء جبال القدس” الذي يعود للعام 2003، ومن خلال الأكريليك على القماش الذي يتشكل جزئيا على هيئة خارطة فلسطين، وإن كان الأمر إيحائيا هنا وبضربات لونية مازجت بين تدرجات الأزرق، الأسود، الرمادي، تجد نفسك راجلا في نزهة جبلية في القدس، دون صراعات محتدمة، لأنه من جديد حقك الإنساني الطبيعي.

    في استكمال لتلك التفاصيل أتأمل تجريدا آخرا حمل عنوان “ثلاث أمهات و ثلاثة عصافير تحت شجرة الزيتون” وهو يعود للعام 2010، إذ يحمل التجريد الإيحائي هيئة سيدات ثلاث غير مميزة وقد تكون السيدات أنفسهن هن العصافير، أما الشجرة فهي الحيز الذي احتواهن جميعا متشظيا في خلفية اللوحة، أما عندما نتأمل التواريخ الحديثة نسبيا لتلك الأعمال ندرك إصرار سامية على سياق الحق الوجودي للإنسان الفلسطيني، حقه في حياة عادلة يتنعم فيها بحقوقه الأساسية في المكان، إن فلسطين الخارجة من حصرها في شكلها الإيديولوجي في تلك السياقات، تكبر لتكون حرية في الوجود والتشكل، وهو ما لا يتعارض حتما مع السياق التجريدي لسامية حلبي.

    مرة أخرى نعود إلى الفكرة باعتبارها الهوية وفق هايدغر، فسامية هنا تحمل فلسطين لما هو أبعد من مكان، وتعيد قولبتها لما هو أكثر من مجرد صراع محتدم، فلسطين هي الفكرة وفي تلك الفكرة يتموضع كلٌ من الوجود والهوية.


    تحية إلى غسان كنفاني


    لكن هذا لا ينفي أيضا أن هناك سياقات أخرى لأعمال سامية حلبي، كانت فيها الفنانة التشكيلية مؤرخة فنية في سياق الحفاظ على الأفكار حية، ويتجلى ذلك في جانبين احتواهما المعرض، الأول هو تجسيد كان أقرب للسوريالية منه إلى التجريدية وحمل عنوان “تحية إلى غسان كنفاني” من نتاج 2018، وفيه تحاول الفنانة أن تقترب من تجسيد جوهر الكاتب والمناضل الفلسطيني البارز كنفاني بتكليف من الدكتور رمزي دلول.

    في تلك اللوحة تقول حلبي إنها وجدت أن أفضل طريقة لتجسيد كنفاني، هي في رسمه بوضوح شديد من حيث الملامح محاطا بمقاتليه ومعجبيه وبشخوص أثرت فيها من فيلم “جنين جنين” لأنها لمست التقاطع بين تلك الشخوص وشخوص كنفاني على حد وصفها، كل ذلك على هيئة رؤوس قد تبدو محلقة محاطةً ببتلات من أزهار حمراء فاقعة، تعطي اللوحة انطباعا قويا لمن يتأملها بأن كنفاني كان ولا يزال نواة للكثير من الأفكار التحريرية الفلسطينية الحيوية، وهو الذي اختار فن السرد كشكل من أشكال التعبير الرئيسية، ممازجا ببراعة بين التقنيات الفريدة والفكرة الراسخة، فكرة فلسطين، بقوة و دون ابتذال.

    وفي سياق توثيقي آخر، يخصص جزء كبير نسبيا من القاعة الثانية لمجموعة من اللوحات التي شكلت المعرض التوثيقي الخاص بمذبحة كفر قاسم في 1956، إذ تعود سامية حلبي في العام 2017 وفي متحف جامعة بيرزيت، لتؤكد أن سؤال الدم سيبقى يقظا إلى الأبد، من خلال اسكتشات توثيقية فنية وبورتريهات، لكل ضحايا المذبحة الذين وثقت أسمائهم ورسمت قصصهم في لوحات على تنوع أعمارهم وأجناسهم.

    وتأخذك حلبي في رحلة عاصفة بين موجات القتل التي ارتكبتها قوات الاحتلال بين أولى وثانية وثالثة، مجسدةً الرعب والخوف والموت والضغينة التي أرادت أن تُبقي من خلالها السؤال مشرعا ومشروعا حول جرائم الحروب المرتكبة وضرورة ألا تنساها الأجيال الجديدة، أما عن كيف يتقاطع ذلك مع التجريد كموقف، فإنني وفق تحليلي الخاص أرى أن لكل فنان محترفه الخاص الذي يوثق من خلاله كل الأفكار، سامية وثقت الفكرة التي شكلت نواة ما قدمته سابقا وما ستقدمه مستقبلا في دفتر اسكتشات ضخم، وهي في حالتها تلك فلسطين المكان والإنسان الذي يستلزم توثيقه أحيانا الضربات اللونية المجردة من علٍ وفي أحيان كثيرة أخرى رسم وجه الرعب مجردا عن طريق تكريس ملامح الضحايا بمنتهى الوضوح، لحفظها من التلف الذي لو حدث فإنه سيُتلف ما في بعده سؤال الحرية، وذلك ليس فيما يتعلق بتلك القضية فقط، بل بأشكال كثيرة من أسئلة الحرية المشروعة حول العالم، على المستويات السياسية والفنية والإنسانية.
    الجسارة على التعلم والتجريب



    مذبحة كفر قاسم


    تبلغ سامية حلبي اليوم 87 عاما، ويثير الدهشة في القسم الأخير من المعرض أنها اختارت أن تعمل تجريديا بشكل رقمي، باستخدام البرمجة، حيث الأشكال التجريدية الرقمية التي تعرض على شاشات إلكترونية تتناسق مع نواة أعمالها التجريدية والأفكار المرتبطة بها التي أشرت إليها سابقا، لكنها فقط تغير الوسائط، فحلبي التي تؤمن بضرورة عزلة الفنان في محترفه الخاص لينتج، ترفض الانعزال عن كافة أشكال التعبير الفني وسياقاتها الجديدة، كانت في مرحلة لاحقة ومدفوعة بوعورة طرق البحث والاستكشاف، التي انتهجها فنانون كمايكل أنغلو وليناردو دافنشي في أوقاتهم البعيدة وإعجابا بإصرارهم.

    في نهايات الثمانينيات من القرن الماضي وهو الوقت التي اشترت فيه حاسوبها الأول، قد بدأت العمل على أعمالها التجريبية التجريدية الرقمية، فجاءت من ذلك سلسلة “لوحات حركية” التي تدرس من خلالها تمازج اللون والضوء والحركة، وإمكانية إنتاج مادة فنية صافية من كودات البرمجة المعقدة والجافة، ورغم أن مزاجي الشخصي كمتلقية لم ينسجم كثيرا مع تلك السلسلة، إلا أن ذلك لا يعني أن في تأمل تلك اللوحات شيئا من الإعجاب، بالإصرار على الاكتشاف والتجريب خارج القواعد المعتادة، وهو ما يشكل صيرورة سامية حلبي فنانة وإنسانة.




    صالحة عبيد
    كاتبة إماراتية
يعمل...
X